Skip to main content

آخرة المؤمن -2

لقد وصلنا اليوم بمعونة الله إلى الفصل الثاني والأربعين من سفر أيوب وهو الفصل الأخير من هذا الكتاب الذي عولج فيه موضوع نوائب الحياة.

وقد احتوى سفر أيوب على المناظرات التي دارت بين أيوب ورفاقه لأنهم وكذلك على خطابات شاب اسمه أليهو والذي انتقد كلا من أيوب ورفاقه لأنهم حادوا عن جادة الصواب في معالجتهم لموضوع كوارث الحياة. ونسمع صوت الله وهو يتكلم مع أيوب معلما اياه ما كان يجهل. ونلاحظ أن صاحبنا أيوب اعترف أخيرا بأنه لم يعالج موضوع عذاباته بصورة سليمة فتاب إلى ربه ونادما على تصرفاته السابقة.

1فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ: 2[قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ. 3فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ! وَلَكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا. 4اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. 5بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. 6لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ].

بعد أن سمع أيوب كلمات الله التي أظهرت أنه لا يجوز لأي بشري بأن يتساءل عن عدل الله أو ينتقد الباري , أقر أيوب بأنه تكلم ابان محنته كإنسان  جاهل. وبعبارة أخرى , وصل أيوب إلى اليقين التام بأنه من المستحيل لأي بشري حتى ولو كان مؤمنا بالله , من المستحيل له أن يتفهم مواضيع الحياة البشرية أو مسيرة التاريخ. لا يعسر على الله أمر. يقى الله على عرشه وسيادته على مجرى التاريخ هي مطلقة وأن ظهرت أحيانا للعين البشرية وكأنها متجاهلة لمتاعب وشؤون البشرية.

كان أيوب قبل انقضاض الكوارث عليه , كان إنسان ا مؤمنا وخائفا لله وسائرا على طريقه المستقيم. لكن معرفته لله كانت جزئية أو كما وصفها: بسمع الأذن قد سمعت عنك. ولم تكن حياته قد امتحنت كما كانت ستمتحن في بحر الآلام بعد أن أذن الله للشيطان بأن يجربه. ظن أيوب في أوائل حياته انه كان بمنأى عن المشكلات والمعضلات الحياتية لأنه كان مؤمنا ومطبقا ايمانه في معترك الحياة اليومية. لكنه تعلم من جراء ما حدث له من خسران صحته وثروته وأولاده , تعلم أنه لا يجوز له أن يظن بأن الله صار عدوا له. فكثيرا يسمح اله لنوائب الحياة بأن تنقض على خائفيه لا كقصاص بل كتأديب لهم وهو لن يتركهم فريسة للشيطان. أما وقد تعلم أيوب العبر الكثيرة من تجاربه الحياتية وبعد أن سمع كلمات الله الصريحة عن قوته وحكمته وعدله ومودته لمخلوقاته , وصلت معرفته لله إلى درجة أعلى مما كانت عليه في الماضي. بسمع الأذن قد سمعت عنك , والآن أي بعد أن وصل أيوب إلى هذه المرحلة من حياته , والآن رأتك عيني. أي أيوب اختبر معرفة أعمق مما كانت عليه في الماضي لكونها اختبارية لموقف الله الودود منه. فطرح نفسه أمام رحمة الله ومحبته قائلا: لذلك أرفض أي أرفض موقفي السابق وأندم في التراب والرماد.

7وَكَانَ بَعْدَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ مَعَ أَيُّوبَ بِهَذَا الْكَلاَمِ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لأَلِيفَازَ التَّيْمَانِيِّ: [قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ. 8وَالآنَ فَخُذُوا لأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَاذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ]. 9فَذَهَبَ أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ وَفَعَلُوا كَمَا قَالَ الرَّبُّ لَهُمْ. وَرَفَعَ الرَّبُّ وَجْهَ أَيُّوبَ. 10وَرَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ أَيُّوبَ لَمَّا صَلَّى لأَجْلِ أَصْحَابِهِ وَزَادَ الرَّبُّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لأَيُّوبَ ضِعْفاً. 11فَجَاءَ إِلَيْهِ كُلُّ إِخْوَتِهِ وَكُلُّ أَخَوَاتِهِ وَكُلُّ مَعَارِفِهِ مِنْ قَبْلُ وَأَكَلُوا مَعَهُ خُبْزاً فِي بَيْتِهِ وَرَثُوا لَهُ وَعَزُّوهُ عَنْ كُلِّ الشَّرِّ الَّذِي جَلَبَهُ الرَّبُّ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَسِيطَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ قُرْطاً مِنْ ذَهَبٍ. ....

12وَبَارَكَ الرَّبُّ آخِرَةَ أَيُّوبَ أَكْثَرَ مِنْ أُولاَهُ. وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفاً مِنَ الْغَنَمِ وَسِتَّةُ آلاَفٍ مِنَ الإِبِلِ وَأَلْفُ زَوْجٍ مِنَ الْبَقَرِ وَأَلْفُ أَتَانٍ. 13وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ. 14وَسَمَّى اسْمَ الأُولَى يَمِيمَةَ وَاسْمَ الثَّانِيَةِ قَصِيعَةَ وَاسْمَ الثَّالِثَةِ قَرْنَ هَفُّوكَ. 15وَلَمْ تُوجَدْ نِسَاءٌ جَمِيلاَتٌ كَبَنَاتِ أَيُّوبَ فِي كُلِّ الأَرْضِ. وَأَعْطَاهُنَّ أَبُوهُنَّ مِيرَاثاً بَيْنَ إِخْوَتِهِنَّ. 16وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ هَذَا مِئَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَرَأَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَجْيَالٍ. 17ثُمَّ مَاتَ أَيُّوبُ شَيْخاً وَشَبْعَانَ الأَيَّامِ.

ماذا تعلمنا في الأسابيع الأخيرة من متابعتنا لسيرة أيوب؟ أولا: يبقى الله مسيطرا على عالمه وعلى ما يجري فيه مهما ظهرت سيطرة الله هذه وكأنها محجوبة عن أنظارنا وعن أذهاننا. ثانيا: هناك عامل شرير قوي في دنيانا ألا وهو الشيطان الذي يرغب في تدمير الإنسان  بإبعاده عن طرق الله المستقيمة. ثالثا: كثيرا ما يسمح الله للشيطان بأن يجرب المؤمنين والمؤمنات لا ليوقعهم في دوامة اليأس القاتل بل لينفي ايمانهم ويجعلهم أكثر تعلقا بالله وأكثر التصاقا بمشيئته المقدسة. رابعا: عندما يتعذب المؤمن ويظهر وكأن العالم بأسره صار عوا له يجدر به عدم الشك بمحبة الله ويظهر وكان العالم بأسره صار عدوا له , يجدر به عدم الشك بمحبة الله له أو بمقدرة الله على جعل جميع أمور الحياة , بما فيها المزعجة منها , بأن تؤول في النهاية إلى خيره الزمني والأبدي. خامسا: لا يجوز لمؤمن بأن يظن أن كوارث الحياة هي قصاص معين لخطية معينة كان قد اقترفها هو أو غيره من بني البشر. الحياة البشرية هي أكثر تعقيدا وتشابكا مما نخالها وعلينا أن ننبذ تلقائيا أية نظرية تبسيطية للحياة والتي تدعي بأن الإنسان  ينال في الحياة الدنيا عقابا معادلا للشر الذي ارتكبه. معاقبة الإنسان  تبقى في يد الله وهو تعالى اسمه لا يتسرع دوما في معاقبته للأثمة والخطأة بل يرغب في عودتهم إليه تائبين لينالوا الحياة.

وكما ذكرنا مرارا وتكرارا ونحن نبحث في سيرة أيوب , علينا نحن الذين نعيش في أيام اكتمال الوحي أي في أيام ما بعد الميلاد , علينا أن نسمح لنور الوحي الالهي بأسره أن يسطع في سبيلنا ونحن نحاول تفهم موضوع آلام وكوارث الحياة. واذ استرد أيوب في آخرته ضعف ثروته واذ أنعم الله عليه بسبعة بنين وثلاث بنات كن من أجمل نساء تلك الأيام كانت هذه البركات الزمنية رمزا لرضى الله عليه ولاعلان نصر أيوب على الشيطان.

أما الآن وقد أتم المسيح عمله الخلاصي بموته الكفاري على الصليب وبقيامته المجيدة من بين الأموات وقد صعد إلى السماء ليجلس عن يمين عرش العظمة فان بركات الله على المؤمنين ولاسيما أولئك الذين تعذبوا في هذه الحياة , لا تتم على نفس المنوال التي انتهت عليه سيرة أيوب يعدنا الله في انجيله الطاهر بأن يكون معنا في جميع أمور وأحوال حياتنا وحتى في أحلك ساعات مسيرتنا وهو يقودنا إلى شاطىء الأبدية السعيد حيث ننعم بالسلام التام في حضرته مع ملائكته القديسين وسائر الخالصين من شتى الشعوب والأقوام , آمين.

  • عدد الزيارات: 3831