الفصل الخامس: المسيحية تحت السيف

سقوط الحيرة وجنوب العراق

بعد أن أحكم الإسلام قبضته على الجزيرة العربية، استسلمت له العراق والجزيرة الفراتية وبلاد الشام من دمشق إلى أورشليم فحلب وأنطاكية دون مقاومة تذكر، وفي غضون 18 عاماً رفرفت راية الإسلام على سوريا الطبيعية ومصر وشمال إفريقيا وقسم من آسيا الصغرى.

في السنة التي تلت وفاة محمد كانت الجزيرة قد خرجت من حروب الردة وأعدت العدة لغزوا البلدان المجاورة. فرغ خالد بن الوليد من اليمامة ثم توجه إلى العراق واستولى سنة 12 هـ على الحيرة سلما. من بين القادة الذين صالحوه آنذاك، عبد المسيح بن عمرو، و هانئ بن قبيصة بن مسعود الشيباني، و فروة بن اياس، و عدي ابن عدي بن زيد العبادي وأخوه، وصالح، الملقب صلوبا بن نسطونا. هؤلاء استسلموا وهدمت قصورهم وأقيمت على أنقاضها المساجد. يقول البلاذري: "وحدثني شيخ من أهل الحيرة قال‏:‏ وجد في قراطيس هدم قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر أن المسجد الجامع بالكوفة بني ببعض نقض تلك القصور وحسبت لأهل الحيرة قيمة ذلك من جزيتهم‏".[138]

لكن الأسلمة لاقت مقاومة من بعض رؤساء الحيرة وأهلها، ولمّا باءت محاولات خالد باستمالة العرب إلى الإسلام بالفشل، عرض عليهم الجزية. عندها رد عليه قبيصة بن مسعود فقال: "مالنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيك الجزية".[139]

يروي ياقوت الحموي، أن خالد بن الوليد لمّا فتح الحيرة تقابل مع هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر ملك الحيرة في الدير الذي بنته وترهبت فيه. ولمّا دعاها إلى الإسلام ردت عليه بالقول: "أمّا الدين فلا رغبة لي فيه غير دين آبائي". فأمر لها خالد بمعونة ومال وكسوة، لكنها رفضتها وقالت: "أنا في غنى عنه".[140]

رضي أهل الحيرة بالجزية، وسرعان ما شقت الأسلمة طريقها إلى الفئات الفقيرة والضعيفة منهم، مما قاد إلى نشوء  تكتلات مسيحية بين قبائل بكر وعرب الضاحية بغية الدفاع عن  الهوية  الدينية، لكن  خالد  حاربهم  وحسم  المعارك  لصالح  المسلمين  وضرب أعناق  كل الأسرى، "فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين...وقد كان صد الماء عن النهر فأعاده فجرى دما عبيطا فسمي نهر الدم".[141] كانت هذه ضربة قاسية للمسيحية في جنوب العراق أخمدت كل مقاومة وأدت بالتالي إلى إسلام البعض وخضوع البعض الآخر للجزية. غير أن الكثير من إياد وتغلب فضلوا الهروب إلى بلاد الروم للحفاظ على مسيحيتهم.

------------------------------

138 - فتوح البلدان، احمد بن يحيا بن جابر البلاذري - ذكر تمصير الكوفة

139 - البداية والنهاية، ابن كثير الجزء 6 "بعث خالد إلى العراق

140 - معجم البلدان، ياقوت الحموي ص 791

141 - تاريخ الطبري 2/ 314

إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان حاول بعض مسيحيي العراق من بني ناجية، الذين نفروا من سفك الدماء باسم الدين، الانضمام  إلى  الجماعات الثائرة على عليّ  بن أبي طالب،  فقالوا: "والله  لَدينٌنا  الذي  خرجنا  منه  خير  وأهدى من دين هؤلاء الذي هم عليه. ما ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبيل وأخذ الأموال". [142] إلا  أن  علي  أقمع الثورة وأرغم المرتدين على الرجوع إلى الإسلام، ونفى بعضهم إلى خارج العراق ليعتبر بهم الآخرين.

نجح المسلمين في إخماد الثورة وإضعاف المسيحية العربية في جنوب العراق عن طريق التصفية الجسدية، غير أنها بقت حية في مدينة الحيرة وبين بعض قبائل العرب القاطنين هناك. فلم تضمحل مع الفتح الإسلامي بين سكان البلاد الأصليين، بل بقت قوية ومزدهرة حتى العصر العبّاسي الأول. وكانت لها أديرة في الحيرة، وظاهر الكوفة، والنجف ذاعت سمعتها، مثل دير الدساكر وابن برّاق والحريق وابن مزعوق. ومن أساقفتها سيرجيوس ويوحنا الأزرق وحنان يشوع وابن عبيده.

سلام لك يا سورية

فشل محمد في استمالة ملوك بلاد الشام وكسبهم للإسلام، ومنهم جبلة بن الأيهم والحارث بن أبي شمر الغسانيّ الذي رفض دعوة الرسول ورمى بكتابه الذي حمله إليه شجاع بن وهب مفضلا البقاء على مسيحيته.[143]

في السنة 633 اتجهت إلى سورية ثلاث سرايا، قاد الأولى عمرو بن العاص والثانية يزيد ابن أبي سفيان، والثالثة شرحبيل بن حسنة. جاء نصرهم الأول على جيش سرجيوس في فلسطين جنوبي البحر الميت، ثم زحفوا باتجاه دمشق وحاصروها. ولم تمضي ستة أشهر حتى كانت دمشق قد استسلمت في أيلول سنة 635. كان آنذاك من بين المفاوضين أسقف المدينة، ورئيس دائرة المال منصور بن سرجون جد القديس يوحنا الدمشقي.

إنّ الدويلات العربية الواقعة على حدود سوريا وذات الأصل العربي، وآخرها دولة الغساسنة، هي التي مهدت نوعا ما لفتح بلاد الشام وانتشار الإسلام فيها، وكانت هذه الدول بمثابة مقدمة لما دار بعد  ذلك من أحداث. عندما  وصلت  الجيوش  الإسلامية  بلاد الشام  في عهد عمر بن الخطاب، رحب بعض أهلها بالإسلام ونظروا إليه كمذهب من المذاهب المسيحية المنشقة عن الكنيسة الرسمية. وقد انحاز الفريق الأكبر من عرب سوريا إلى أبناء جنسهم، لاسيما اليعاقبة أتباع مذهب الطبيعة الواحدة، إذ رأى هؤلاء في العرب خلاصاً مرغوباً من التعسف البيزنطي ومن الملكانيين.

أبدى العرب المسيحيين تساهلا عجيبا في تسليم المدن، حتى إنهم تعاونوا مع الفاتحين على طرد البيزنطيين عن بلاد الشام.[144] وانضمت بعض القبائل من لخم، وجذام، وغسان، وعاملة، والقيس، وقضاعة إلى المسلمين. وهكذا انقسم موقف المسيحيين في بلاد الشام تجاه جيوش المسلمين بين معارض وموالي، بين مستسلم وصامد. فانضمّ فرسان من العرب المسيحيين إلى الجيوش الإسلامية وأعانوهم على كسرة الروم في معركتي أجنادين واليرموك. بينما انضم عدد كبير من القبائل إلى جيش الروم.

يقول الدكتور فيليب حتي: "ليس من العسير أن نعلل "الفتح اليسير" الذي تم للعرب باكتساح هذا الإقليم من الإمبراطورية البيزنطية".[145] ويرجع حتي بالأسباب إلى الغارات التي شنها الفرس في أوائل القرن السابع، والانشقاق الكنسي الذي عمل على تصديع وحدة المجتمع الروحية وفشلت معه كل محاولات هرقل للتسوية بين الأطراف الكنسية المتنازعة.

----------------------------------

142 - تاريخ الطبري 5/ 125

143 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي ، الفصل 44

144 - جواد علي، مرجع سابق، فصل 33

145 - فيليب حتي، السابق، ج2 ص 13

سقطت المدن السورية الكبرى وأرسل هرقل أخاه على رأس جيش في معركة اليرموك، ولمّا سقط قتيلا قال هرقل مقولته الشهيرة وهو في طريقه من أنطاكيا إلى القسطنطينية "سلام لك يا سوريا". وبهذا خضعت سوريا وختم على مصيرها.

ولمّا أخذ العرب في فرض الجزية على غير المسلمين، رفضها جبلة بن الأيهم الغساني [146] ، مما استوجب رحيله عن الشام ودخول بلاد الروم في جمع كبير من قبائل العرب. ومع نهاية السنةِ الخامسةَ عشرة للهجرة، كانت بعلبك وظهر البيدر وحمص وحماة وقنسرين قد سقطت وانتهى وجودُ الروم في شمال وشرقِ بلادِ الشام، إلا أنهم كانوا ما زالوا يحتفظون بمدينة بيت المقدس.

دخل القائد عمرو بن العاص على رأس جيشه إلى فلسطين وضرب حصاراً حول القدس نحو سنة كاملة ثم عرض على سكانها التسليم والأمان فرضي البطريرك صفرونيوس بالتسليم وأعطي له عهد أمان عرف "بالعُهدة العُمرية". بعد احتلال القدس عين عمر أبا عبيدة بن جراح حاكما عسكريا عليها. ولمّا دخلها في حلة البدو راكبا جملا ولابسا رث الثياب، كان في استقباله البطريرك صفرونيوس، الذي حين رآه التفت إلى مرافقه وهمس باليونانية: "حقا هذا رجس الخراب  الذي  تكلم  عنه  النبي دانيال، ورآه قائما في المكان المقدس".[147]

غزوا الجزيرة الفراتية

بعد أن غدت سوريا قاعدة عسكرية إسلامية توجه منها حوالي سنة 639 جيشا بقيادة عياض بن غنم نحو الشمال الشرقي لإخضاع بلاد مابين النهرين. دخلت جيوش العرب الجزيرة واحتلت الرقة وآمد ونصيبين وطور عبدين والرها وحران. فهجرت على أثرها قبيلة إياد وبعض من قبيلة تغلب إلى بلاد الروم. وإذ شعر عمر بخطورة الموقف وخوفا من أن تحذوا بقية القبائل حذوهم، طالب ملك الروم بإخراج العرب الذين دخلوا إليه، وإلّا طرد كل المسيحيين المقيمين في بلاد الإسلام. ثم اشترط عمر على العائدين قبول الإسلام في سبيل العفو عنهم.[148]

تعرض مسيحيو الجزيرة لمضايقات شتى، مما دفع الكثير منهم إلى الرحيل. ومع دخول الإسلام أقبلت قبائل عربية مسلمة إلى جزيرة الفرات وأزاحت قبائل ربيعة وتشتت بنو تغلب المقيمون بين الخابور ودجلة والفرات وفقدوا بعض ديارهم كبلد وسنجار وماردين. ويذكر التاريخ انه سنة 330 هـ، خرج التغالبة بذراريّهم وعبيدهم ومواشيهم في نحو عشرة آلاف فارس إلى ملك الروم، ومثلهم فعلت قبائل كلب.

استمر النشاط المسيحي في بلاد ما بين النهرين وإن بضعف، فلم ينقطع بناء الأديرة والكنائس مع الغزو الإسلامي للبلاد. من الأديرة الشهيرة التي أقيمت، دير العجاج بين تكريت وهيت، الذي بناه مار ماروثا مفريان تكريت، وعنه كتب خلفه مار دنحا الأول، مفريان تكريت سنة 659 م يقول: "هدى رهبانه الفضلاء خلقا كثيرا إلى محجة الدين القويم ... فتبارك الله الذي جعل هذا الدير بعنايته سببا لهداية كثيرين ونجاتهم وفرحا لجزيرة ما بين النهرين".[149]

--------------------------------

146 - البداية والنهاية، ابن كثير، الجزء الثامن. تتضارب الأخبار في موقف جبلة بن الأيهم من جيوش المسلمين، فتارة معهم وتارة أخرى ضدهم. وقد أورد ابن كثير في المرجع السابق اختلاف المسلمين في  مصير بن الأيهم، منهم من قال بإسلامه ومنهم من لم يقل. وبعضهم  قال بإسلامه ثم بارتداده. والرأي الأخير هو الأرجح في شأن بن الأيهم، الذي لم ينل الكرامة المنشودة في ظل الإسلام فرفضه ورحل إلى بلاد الروم. ويقول الأصفهاني: "أن معاوية لما ولي بعث إليه فدعاه إلى الرجوع إلى الإسلام، ووعده إقطاع الغوطة بأسرها، فأبى ولم يقبل" (الأغاني ج15 / 1679)

147 - تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، فيليب حتي، ج2، ص 15

148 - ابن العبري، ص 173، سلوى بالحاج، ص 154

149 - سلوى بالحاج، ص 170