Skip to main content

الخطية والغفران

فلما اعتدل يسوع ولم ير أحداً سوى المرأة، قال لها: يا امرأة، أين أولئك الذين يشتكون عليك ؟ ألم يحكم عليك أحد ؟ فقالت: لا أحد يا سيدي. فقال يسوع: ولا أنا أحكم عليك، اذهبي ولا تخطئي بعد.

الإنجيل حسب يوحنا 8: 10 و11

لا بد أن القراء الكرام لاحظوا أننا نتطرق للكلام في أكثر من مناسبة عن موضوع الخطية العالقة بالإنسان. ونتكلم أيضاً عن موقف الله من الخطية لأنها في لبّها معصية على شريعته تعالى. وكل تعدّ على الشريعة ينال القصاص والعقاب. لكننا لا نحصر كلامنا في موضوع الخطية والعقاب بل نشير أيضاً إلى الغفران الذي يمنحه الله لسائر الذين يتوبون عن غيّهم وضلالهم ويقبلون برّ المسيح الذي كسبه لنا عندما مات كبديل عنا على الصليب وقام في اليوم الثالث من بين الأموات.

سرد لنا الرسول في فاتحة الفصل الثامن حادثة المرأة التي أمسكت في خطية الزنى. قال زعماء اليهود من كتبة وفريسيين للمسيح: يا معلّم إن هذه المرأة أخذت في الزنى في ذات الفعل. وقد أمرنا موسى في الناموس (أي في الشريعة المدوّنة في كتاب التوراة) بأن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت ؟ قالوا هذا ليجرّبوه ليكون لهم ما يشكونه به. أما يسوع فانحنى إلى أسفل وجعل يخطّ بإصبعه على الأرض.

لم تكن غاية الكتبة والفريسيين نبيلة أو شريفة عندما جاؤوا بالمرأة الزانية إلى المسيح وطلبوا منه أن يدلي باجتهاده في تفسير وتطبيق الشريعة الموسوية. وكانت هناك عند اليهود وفي أيام المسيح محاكم شرعية تعالج أمور الأحوال الشخصية وتبتّ في هكذا جرائم أخلاقية. أفهمنا يوحنا الرسول أن أعداء المسيح جاؤوا إليه بتلك القضية ليكون لهم ما يشكونه به. فانحنى المسيح إلى أسفل وجعل يخط بإصبعه على الأرض. وموقف المسيح هذا أي انحناؤه إلى أسفل وكتابة بعض الكلمات بإصبعه على الأرض، أشار إلى امتعاضه الكبير من موقف الزعماء الدينيين وعدم استعداده للإجابة على سؤالهم المفرض. ولما ألحوا عليه بالإجابة وقف وقال لهم: من كان منكم بلا خطيّة فليرمها بحجر أولاً.

كان زعماء اليهود في القدس يدّعون بأنهم حفظوا شريعة موسى أي أنهم كانوا يعيشون بطريقة منسجمة مع نصوصها في أمور الحلال والحرام. وكانوا يقفون موقف المتزمتين طالبين من السلطات الدينية في القدس وفي بقية أنحاء الأرض المقدسة بأن تشدد على أهمية تطبيق العقوبات المنصوص عليها في الشريعة. ولم يكن السيد المسيح من الداعين إلى نقض الشريعة أو جعلها بدون مفعول في حياة معاصريه. لكنه كان يرغب من الناس بأن يفهموا ويختبروا غاية الشريعة وخاصة وصايا الله العشر التي تنظّم حياة المؤمنين والمؤمنات في بعديها العمودي والأفقي. (أعني بهاتين العبارتين أن الوصايا العشر تنظّم أولا أمور الدين والعبادة بين الله والإنسان وذلك في الوصايا الأربعة الأولى – وهذا ما ندعوه بالبعد العمودي للواجبات الدينية. بينما تنظّم الوصايا الستة الباقية علاقة الإنسان بجاره أو قرينه الإنسان – وهذا ما نسمّيه بالبعد الأفقي لمتطلبات الشريعة.)

أراد السيد المسيح بأن يشدّد على وجوب النظر إلى خطية كل بشري، تلك الخطية الكامنة في قلبه والمسيطرة على جميع نواحي حياته. لكن الناس لا ينظرون عادة إلا إلى خطايا ومعاصي وزلات الآخرين ! أخطأت تلك المرأة فجاؤوا بها إلى المسيح طالبين منه أن يعطي كلمته في العقاب الذي يصاحب خطية الزنى.ولم يكن المسيح ليقلل من بشاعة أو خطورة تلك الخطية، لكنه أراد أن يسلط هؤلاء المتدينون نور الشريعة الإلهية على أنفسهم وليس فقط على خطايا الآخرين. وهكذا تفوّه المسيح بهذه الكلمات الشهيرة: من كان منكم بلا خطية فليرمها بحجر أولاً.

لم يبرّر المسيح المرأة الزانية بمعنى أنه لم يقلّل من خطورة خطيّتها ولم ينظر إلى تلك الخطية وكأنها أمر اعتيادي كما يقوم بذلك العديدون من معاصرينا والذين لا يؤمنون بتعاليم الشريعة الإلهية التي تأمرنا بالعفّة والطهارة الجنسية. لفت المسيح أنظار المشتكين على المرأة الزانية إلى أن اهتمامهم الأوّلي كان يجب أن ينحصر في خطاياهم ومعاصيهم وآثامهم. ومن منهم لم يكن قد ارتكب خطية جنسية إن لم يكن بالفعل فعلى الأقل بالفكر والتصوّرات الشهوانيّة ؟

ما أن سمعوا كلمات المسيح هذه حتى صارت ضمائرهم توبّخهم فطفقوا يخرجون واحداً فواحداً من الشيوخ إلى الآخرين. عملت كلمات المسيح التيكيتيّة عملها المنعش فشعر الفريسيّون والكتبة في قرارة قلوبهم أنهم كانوا خطاة وأثمة وأنهم لم يكونوا أحسن حالاً من المرأة الزانية.

كتب الرسول يوحنا قائلاً: وبقي يسوع وحده وتلك المرأة قائمة في الوسط. فلما اعتدل يسوع ولم ير أحداً سوى المرأة قال لها: يا امرأة، أين الذين يشتكون عليك ؟ ألم يحكم عليك أحد ؟ فقالت: لا أحد يا سيّدي. فقال يسوع: ولا أنا أحكم عليك، اذهبي ولا تخطئي بعد.

اذهبي ولا تخطئي بعد ! الخطية والغفران. اعترفت المرأة بخطيّتها. هذه هي الخطوة الأولى في حياتها الجديدة. الاعتراف القلبي بالخطية. لم تدع تلك المرأة قائلة: إنني لم أخطئ، ولم تقل كما يقول العديدون من معاصرينا أن خطية الزنى وغيرها من الخطايا الجنسية ليست بخطية فيما إذا ما قام بها الناس بكل حرّية وعفوية ! لم تتفلسف المرأة الزانية ولم تقلل من جرمها الأخلاقي. اعترفت بخطيتها وسمعت بعد ذلك كلمات المسيح العذبة: ولا أنا أحكم عليك. لكن هذه الكلمات لم تكن الوحيدة التي تفوّه بها السيد المسيح بل استطرد قائلاً بسلطة ذلك الذي جاء من السماء لتتميم الشريعة في حياته بصورة تامة ومطلقة وبهدف التكفير عن خطايا البشر: اذهبي ولا تخطئي بعد.

علّمنا المسيح بواسطة هذه الكلمات تعليماً جوهرياً وهو يعدّ من لبّ الإنجيل. جاء له المجد من السماء ليبني لنا صرحاً وطيداً وأساساً جباراً للغفران. فنحن بني البشر، بغض النظر عن أصلنا وفصلنا، بحاجة ماسة إلى الغفران. يقدّم لنا المسيح غفرانه المجاني وذلك بناء على ما قام به من أجلنا عندما ذهب عنا إلى الصليب ومات مكفّراً عن خطايانا. لكن عقيدة الغفران المجاني المبنية على موت المسيح الكفاري على الصليب لا تعني التساهل مع الخطية أو تناسيها أو الانغماس فيها. ترنّ كلمات المسيح في عالمنا هذا عبر القرون المتتالية: اذهبي ولا تخطئي بعد. يولّد الغفران المجاني الذي ننادي به في انجيل الله المقدس، الحياة الجديدة التي تدور في فلك محبة الله ومحبة القريب الإنسان. ومحبة الله ومحبة القريب تعني الامتناع عن الخطايا ولا سيما عن الخطايا الجنسية المتفشية بين أهل القسم الأخير من القرن العشرين.

مأساتنا اليوم هي أننا نتجاهل فداحة الخطية ولا سيما الخطايا الجنسية التي عاثت بالأرض فساداً وانتشرت نظراً لتكاثر المشاهد الخلاعية في دور السينما وعلى شاشات التلفزيون وبواسطة الفيديو. وإن تمادينا في تجاهل خطورة الخطايا الجنسية فإنها ستتغلّب علينا وتطاردنا وكأنها الطاعون من طراز جديد. لا فلاح ولا نجاة إلا إذا اعترفنا أمام الله خالقنا بفداحة حالتنا الروحية والأخلاقية وهرعنا إلى المسيح يسوع المخلّص الذي جاء من السماء ليقضي على الخطية وليحررنا من عبوديتها الغاشمة وليمنحنا الغفران المجاني. من آمن بالمخلّص المسيح اختبر الغفران والسلام مع الله كما اختبرت المرأة الزانية التي قال لها المسيح بعد أن هرب المشتكون عليها: ولا أنا أحكم عليك، اذهبي ولا تخطئي بعد. آمين.

  • عدد الزيارات: 18741