الفصل الأول: من المسيح إلى قسطنطين

حتمية إيمان العرب بالمسيح

عرف العرب المسيح منذ الفجر الأول للكرازة الرسولية. فأحبوه واتبعوا ديانته ونادوا برسالته وتركوا آثاراً عميقة في التراث الديني والثقافي في عالمهم. هذه حقيقة ثابتة لا يتنازع عليها اثنان.

رأى بعض آباء الكنيسة، أمثال يوستينوس وترتليان وكبريانوس وأبيفانوس وذهبي الفم، أن العرب أول الذين التقوا بالمسيح، وأن بين المجوس الذين قدموا من المشرق لتقديم الهدايا للمولود العظيم عرباً، بالاستناد على ما جاء في النبوات "تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا. تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب"، وأيضاً "ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية".[3] وقد رسخ الاعتقاد عند علماء الكتاب، أن هذه النبوات تشمل العرب قبل غيرهم، فمديان وعيفة من قبائلهم، والجمال علامة تميزهم.[4]

يتفق جملة من المؤرخين على انعدام المصدر التاريخي اليقين على اتصالٍ باكرٍ للمسيحية بالعرب، وأن هذا التاريخ الباكر محاط بالغموض والإبهام، لم يترك لنا أهله وثائق تزودنا بالبيانات. فلوَّحوا عن عجزهم في تحديد زمن تغلغل المسيحية بين العرب، فقال جواد علي: "ليس باستطاعتنا تعيين الزمن الذي دخلت فيه النصرانية إلى الجزيرة العربية".[5] وقالت سلوى بالحاج: "فإذا كان من الثابت أن المسيحية أصبح لها أتباعها بين القبائل العربية قبل مجيء الإسلام، فإن الصعوبة تكمن في ضبط بداية تشيّع هذه القبائل لتلك الديانة بدقة".[6]

من المؤكد أن العرب لم يعرفوا المسيحية المنظمة قبل القرن الرابع، ولم يتمتعوا بهيكلية كهنوتية أو تشريعات كنسية وروحية خاصّة بهم، كتلك التي عرفها السريان والآشوريين والأرمن والقبط. ومن المرجح أن المسيحية العربية  انتظمت  بحلول القرن الرابع، على أثر الحرية التي منحها قسطنطين الملك، وهكذا بعد أن كانت المسيحية محصورة في بعض القبائل انتشرت وعرفت تطوراُ هاماُ من حيث الانتشار وعدد الأتباع شمل جميع أماكن التواجد العربي. لكن من الثابت أيضا، أن فلسطين ونواحي عديدة من البادية الشامية عرفت المسيحية في أزمنتها الباكرة، ولتأكيد ذلك أسوق  أمامنا  شهادات  العهد  الجديد وشهادات المؤرخين:

شهادات العهد الجديد على مسيحية العرب

رغم أن الأدلة الكتابية في هذا الشأن قليلة، وأن المؤرخون لا يأخذون بما توفر منها، فهي تبقى عند أهل الإيمان، الذين يتأملون فيها على ضوء مقاصد الله وإعلاناته، شهادات حية لها  أهمية  قصوى. فتؤكد  الأناجيل وسفر  أعمال  الرسل  على على الوجود العربي في قلب الحدث الإنجيلي ومعاينته للبشارة المسيحية منذ البدء. ومن الإشارات الإنجيلية التي يمكن الركون إليها في هذا الشأن:

-------------------------------

3  - الكتاب المقدس- سفر اشعياء 60: 6 ، الكتاب المقدس- سفر المزامير 72: 10

4 – مديان هو ابن ابراهيم من زوجته قطورة (تكوين 25: 2). وكان عيفة أحد أبناءه ومنهم جاء المديانيون، الذين اختلطوا والإسماعيليين بالتزاوج، (تكوين 37: 25- 28 و 36، قضاة 8: 24). ويتفق معظم العلماء والمؤرخين علي أن "بلاد مديان" كانت تطلق أساساً علي المنطقة الواقعة شرقي خليج العقبة في شبه الجزيرة العربية.

5 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، فصل 79

6  - المسيحية العربية وتطوراتها، سلوى بالحاج، ص 26-  27

1 - ذكر كتبة الإنجيل، أن من جملة الجموع المتقاطرة لسماع  تعاليم المسيح أهل أدوم والمدن العشر وما وراء الأردن، "فذاع خبره في جميع سورية" [7]، بل ونقلوا أن المسيح نفسه عبر الأردن ومر بالمدن العشرة وصور وصيداء وصنع آياته في بقعة الجرجاسيين حيث كان العرب.[8] ومنه نستنتج، أن رسالة المسيح وصلت إلى بعض قبائل العرب القاطنة في فلسطين وجوارها.

2 - جاء في تاريخ أعمال الرسل الحديث عن أناس تجمهروا في أورشليم يوم العنصرة،[9] وعاينوا انسكاب الروح القدس على تلاميذ المسيح، الذين نطقوا بلغات شتى كانت العربية إحداها. وكان من بين الذين عاينوا هذا الحدث "يهود ودخلاء كريتيون وعرب". هؤلاء الممثلين لمللهم عاينوا عمل الله وحلول الروح القدس، وشاهدوا كيف "وقف بطرس مع الأحد عشر" تلميذاً ليقدم عظته الأولى، شاهدا للمسيح وعمل خلاصه، وكانت النتيجة أن "قبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس". [10] وليس من سبب يدعونا إلى استبعاد  العرب من جملة الذين آمنوا  في يوم العنصرة العظيم، لأن اختيار الله لهذا اليوم، الذي فيه تتجمع الملل والشعوب من كل حدب وصوب في أورشليم، ثم حلول الروح القدس على التلاميذ  ونطقهم بشتى  الألسنة، بحيث يتسنى لجميع الحضور سماع البشارة المسيحية بلغته الأم، هو عمل إلهي له مدلولات جوهرية لا يلم بها إلا العارفين بروح الرسالة الإنجيلية. من تلك المدلولات، أن البشارة المسيحية خصصت لجميع الأمم والشعوب وأنها تعطى لكل شعب بلغته التي ولد عليها. وعليه لابد أن يكون من بين العرب الذين أوجدهم الله في أورشليم لهذا الغرض من آمن بالبشارة ونقلها إلى بني ملته.

3 - ورد أيضا في تاريخ أعمال الرسل أن "رجل حبشي خصي وزير لكنداكة ملكة الحبشة كان على جميع خزائنها، فهذا كان قد جاء إلى أورشليم ليسجد" [11]. هذا أرسل الله إليه المبشر فيلبس ليبشره بالمسيح يسوع، فكان أن الخصي آمن واعتمد. قال بعض الآباء والمفسرين في الكنيسة السريانية أمثال مار أفرام السرياني، ومار يعقوب الرهوي، ومار ديونيسيوس ابن صليبـي وغيرهم، أن الخصي الحبشي كان وزيرا لكنداكة ملكة سبأ، لا الحبشة، أي أنه كان حميرياً لا حبشياً.[12] وإن انعدمت الأدلة القطعية على هذه الأقوال، يبقى من الثابت أن الحبشة ( "كوش" بحسب الكتاب المقدس) كانت تشكل جزءاً من المملكة الأثيوبية الممتدة إلى جنوب الجزيرة العربية ومصر. وأن الحبشة، أو كوش بحسب الكتاب المقدس، كانت تتضمن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية وبعض مناطق مصر. [13]

4 - حصلت للمسيحيين مضايقات عديدة أدت إلى تشتت التلاميذ في نواح عديدة، و "الذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة" [14]، وعليه لا يستبعد أن وصول البشارة إلى البادية الشامية، حيث توطنت قبائل عربية، لاسيما أن سفر الأعمال يعلمنا بوجود تلاميذ مسيحيين في دمشق، منهم حنانيا ويهوذا.[15]

------------------------------

7 - إنجيل متى 4: 24 – 25 ، إنجيل مرقس 3: 7، إنجيل لوقا 6: 17

8 - إنجيل متى 8: 28 - 31، إنجيل مرقس 7: 31

9 - يوم العنصرة أو يوم الخمسين، هو عيد يهودي ومسيحي. فيه يتذكر اليهود استلام موسى للوصايا والشريعة، وعند المسيحيين هو اليوم الخمسين من قيامة المسيح، وفيه ولدت الكنيسة بحلول الروح القدس على التلاميذ.

10 -  الكتاب المقدس- سفر أعمال الرسل، الفصل الثاني

11 - الكتاب المقدس- سفر أعمال الرسل، الفصل الثامن

12 - الشهداء الحميريون العرب في الوثائق السريانية، البطريرك اغناطيوس يعقوب الثالث، الباب الأول. (الحميريون من القبائل العربية القديمة في جنوب الجزيرة العربية).

13 -  المسيحية العربية- تاريخها وتراثها، الأب الدكتور ميشال نجم، ص 38، تفسير البرت بارنس لنص أعمال الرسل 8:

"Ethiopia" was one of the great kingdoms of Africa, part of which is now called Abyssinia. It is frequently mentioned in Scripture under the name of "Cush." But "Cush" comprehended a much larger region, including the southern part of Arabia...

" There were two Ethiopia's, one in Arabia, but that lay east from Canaan; it should see this was Ethiopia in Africa, which lay south, beyond Egypt"...

14 - الكتاب المقدس - أعمال الرسل 8: 4

15 - الكتاب المقدس - أعمال الرسل 9: 20

5 - ثم  تلى ذلك دور  الرسول بولس في توصيل البشارة المسيحية إلى الأمم،  ومنهم  العرب. كان  هذا  بعد  اضطهاد الملك الحارث لبولس،[16] إذ حين هم بالقبض عليه هرب إلى ديار العرب، أي بلاد الأنباط  جنوبي دمشق وقواعدهم صلع وبصرى وصلخد والحجر وعاصمتهم البتراء. ويؤكد التاريخ على مسيحية هذه الديار، على الأخص في عهد الإمبراطور فيلبس العربي الحوراني الذي عُرف بتأييده للمسيحية، بل كان عند المؤرخ افسافيوس على دين المسيح. ويؤكد بولس حقيقة اتصاله بالعرب في قوله للغلاطيين "انطلقت إلى العربية، ثم رجعت أيضا إلى دمشق". [17]

لا يوضح بولس في أي منطقة من العربية أقام، أفي شمالها حيث كانت مملكة الأنباط تسود أم في عمقها. لكن رغم صعوبة التحقق من الأمر يعلن وصوله إلى العرب، وهذا ما يهمنا. ونظرا لمعرفتنا الشديدة برسول المسيح، لا نشك بأنه شهد لكل من صادفه عن نعمة الله المخلصة وعرّف العرب بالمسيح.

شهادات ما بعد عصر الرسل

يقول الدكتور القس جون لوريمر: "هذه الحقبة هي الأكثر غموضا في تاريخ الكنيسة، وهي تبدأ من الوقت الذي ينتهي فيه سجل سفر الأعمال ... فقد مات الرسل الذين رأوا المسيح وعرفوه في أيام جسده، والمؤرخون خارج الكنيسة لا يعرفون إلا القليل جدا عنها وعن عقائدها".[18]

وكما سبقت الإشارة، ليس ما يرصد لنا بالتحديد علاقة المسيحية ببلاد العرب في القرون الثلاثة الأولى للميلاد، لكن يمكننا أن نستنتج تغلغلها في بعض قبائلهم من شهادات عديدة على القرن الثاني والثالث.  أما العوامل، التي ساعدت على هذا التغلغل، فكانت:

أ - انتشار رسل المسيح  في أقطار المعمورة  للتبشير، واستتباعا لذلك حصول القبائل العربية، القاطنة منذ أمد بعيد في منطقتي حوران وشرق الأردن، على نصيبها من البشارة المسيحية.

ب - قدوم العرب إلى فلسطين للتجارة والتبضع في أسواق نابلس السنوية، مما مهد للمبشرين تبليغهم الرسالة المسيحية.

ورغم أن الكنيسة في القرون الأولى كانت محاطة من كل جانب بالأخطار وتعمل في سرية تامة، لا يمكن نفي انتشارها المبكر بين العرب. ومن الأدلة على ذلك:

1 - جمع  يوسف السمعاني  في المجلد الثالث من مكتبته  الشرقية  شواهد عديدة   باليونانية  والسريانية تثبت كرازة الرسل بين عرب بادية الشام وطور سيناء واليمن والحجاز والعراق. من هؤلاء الرسل متى وبرتلماوس وتداوس وتوما. وقد تناقل العديد من الرواة أخبار المبشرين بين القبائل العربية وأتوا إلى ذكر فيلبس الشماس وتيمون. [19]

2 - تقول المصادر الإسلامية بوصول المسيحية إلى قلب الجزيرة بيد تلميذ المسيح برثلماوس، أو ابن ثلماء كما يسميه البعض. ففي تاريخ ابن خلدون، أن برثلماوس بُعث إلى الحجاز، وفي السيرة  لابن هشام: "قال ابن إسحاق: وكان من بعث عيسى ابن مريم  عليه السلام من الحواريين  والأتباع ... وابن ثلماء إلى الأعرابية، وهي أرض الحجاز". وعن المقريزي، أن متى العشار: "سار إلى فلسطين وصور وصيدا وبصرى". [20]

------------------------------

16 - الكتاب المقدس - الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، الفصل 11

17- الكتاب المقدس - الرسالة إلى أهل غلاطية، الفصل الاول

18 - تاريخ الكنيسة، جون لوريمر، ج 2 ص 49

19 - النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الأب لويس شيخو، ج1 ص 23 و 29

20 -  تاريخ ابن خلدون ج 2 /150، السيرة لابن هشام- باب: "خروج رسل رسول الله إلى الملوك - أسماء رسل عيسى"، المقريزي، كتاب الخطط والآثار ج 2 / 483

3 - وفي تاريخ هيبوليتس (170- 235) وجدول تورتاوس السوري، أن تيمون، احد المبشرين السبعين بشر أهل بُصرى والإقليم العربي. [21]

4 - يعدد القديس يوستينوس في مباحثته مع تريفون اليهودي من جملة المتعبدين للمسيح عرب البادية، رعاة المواشي وسكان الخيم. [22]

5 - وتأتي المراجع إلى ذكر بشر عبد يشوع القناني الناسك الذي عمد أهل اليمامة. فكان لأهل اليمامة أسقفية في قطر في بداية القرن الثالث، وتحديدا عام 225م.[23]

6 - وتشير المصادر السريانية إلى دخول المسيحية إلى شرق وجنوب شبه الجزيرة العربية قبل حلول القرن الرابع. فيقول البطريرك أفرام الأول برصوم، أنه في القرن الثالث ضُمّت نجران واليمامة إلى أبرشية أنشئت في قطر.[24]

7 - ساهم حريق روما وما تبعه من اضطهاد للمسيحيين وتدمير أورشليم سنة 70 م بشكل كبيرا في انتشار المسيحية، إذ تحولت بلاد العرب آنذاك ملجئاً آمناً للمسيحيين الهاربين من اضطهاد قياصرة الروم. وإذ كان المنفيون قد حلّو بين العرب سعوا بكل قواهم إلى تعريفهم بالبشارة المسيحية. يقول الدكتور محمد إبراهيم الفيومي: "كانت هناك روافد حملت المسيحية إلى الجزيرة العربية بل ومكة ذاتها هي، الاضطهاد الذي وقع  على المسيحية منذ المسيح ذاته  جعل أتباعها  يبحثون عن  أماكن في كهوف  الجبال وبطون الصحراء ليتواروا عن أعين الرقباء من الرومان".[25]

8 - منذ سنة 244 لغاية سنة 249 كان على الكرسي الإمبراطوري في بلاد الشام مسيحي عربي من مواليد حوران لقب بـ "فيلبس العربي". في ذلك الزمان سمع بالمطران العربي ماكسيم البصري وبيريللوس أسقف العرب. ويسجل لنا التاريخ اتصال مطارنة الديار العربية بأوريجانوس والاستعانة به  في ضحد بعض البدع المنتشرة عندهم آنذاك. [26]

مما تقدم نستنتج أن المسيحية انتشرت بين قبائل العرب قبل القرن الرابع، وحق لنا القول مع الأب لويس شيخو: "لا نتعدى طورنا إن أكدنا انتشار النصرانية في بلاد العرب منذ عهد الرسل". [27]

--------------------------------

21 -  شيخو، السابق، ج1 ص 29

22- شيخو،السابق، ج1 ص 25

23 -  المسيحية العربية، تاريخها ونشأتها، الاب ميشال نجم ص 70.

24 - الدرر النفيسة في تاريخ الكنيسة، البطريرك أفرام الأول برصوم، ج 1 ص 390 عن: الشهداء الحميريون في الوثائق السريانية، ص 7

25 - الفكر الديني الجاهلي، د. محمد إبراهيم الفيومي، ص 91 – 92

26 – تاريخ الكنيسة، جون لوريمر ج 2 ص 59. المسيحية والحضارة العربية، الأب الدكتور جورج شحاته قنواتي، ص 45، لويس شيخو، مرجع سابق،ج1 ص 31 – 33

27 - شيخو، السابق،ج1 ص 23