الفصل الرابع: المسيحيون والانتماء البيئي والثقافي

لا يُنكر على المسيحيين مقدرتهم الفائقة على التكيّف في المجتمع العربي وسبقهم إلى نهضته وبناءه. فالتاريخ يحكي قصة عشقهم للآداب العربية ولغة الضاد، ويبرزهم في طليعة رواد القومية العربية. لكن في العقود الأخيرة طرأت تغيرات كبيرة في أحوالهم ومواقفهم من العرب والعروبة أفقدت الكثيرين منهم ذلك الإحساس الصارم بانتمائه إلى وطنه وأرض أجداده.

مشكلة الانتماء إلى العروبة عالقة في ذهنية المسيحي ولا تبرحه. فمع أنه يعيش ضمن جغرافية الوطن العربي، ورغم أنه تشبع بالثقافة العربية، التي ساهم أجداده في بناءها، يرفض الانتماء إلى العروبة. لا بل هنالك من  يؤيد فكرة انعدام وجود مسيحية عربية، ويفضل أن يُزج  في خانة الأقليات على أن يعترف بعروبة لا يشعر بانتمائه إليها.

يصف الدكتور جوزف أبو نهرا واقع المسيحي الشرقي بأنه "يعيش غربتين: غربة دينية الطابع بسبب الكنائس المفككة والتراثات الحضارية المختلفة ... و يعيش كذلك غربة زمنية في ظل أنظمة تتناقض أحيانا مع مبادئه الدينية وحقوقه الإنسانية، فيشعر أبناؤه بتمزق داخلي بين الولاء لقيصر والانتماء إلى عالمية المسيح، بين قدرهم الإنساني وقدرهم اللاهوتي. أمام هذا الضياع، يعاود المسيحي اليوم في الشرق الخياران اللذان ما برحا منذ البدء يتنازعانه: الالتزام حتى الانعدام، او الانسحاب حتى الاغتراب. وأسوأ الحالين هو ثالثهما. وقفة الحياد".[176]

والتنكر للعروبة له عند المسيحي دوافع عديدة، منها ما يقع في دائرة الصواب ومنها ما يتجنبها:

1 - ربط العروبة بالإسلام، الأمر الذي يخرج المسيحيين العرب من العروبة بكل مضامينها، ويزيد عندهم الشعور بالاغتراب الاجتماعي. هذا الفكر ينبع من المصادر الإسلامية عينها. مثالاً على ذلك: "عن أنس، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ حب العرب إيمان، وبغضهم كفر‏.‏ من أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني‏".[177] عليه ذهب بعض المسيحيين على أن أفضل السبل للتحرر من هيمنة الإسلام هي الانعتاق من دائرة الانتماء الثقافي العربي.

2 - النزعة العنصرية وتعظيم العروبة الإسلامية. قال ابن تيمية: "فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم، روميهم وفرسيهم وغيرهم". [178] وخلاصة هذه النظرية التعظيمية، أن كل شيء موجود في التراث العربي مصدره العروبة الإسلامية. هذا الاعتقاد ليس من الصواب بشيء، وحري بالمسلمين أن يعوا بأن المسيحية ليست دخيلة على الشرق العربي، وأن المسيحيين ليسوا ضيوفاً على المسلمين، بل هم أصحاب البيت وصانعو التاريخ العربي معهم.

3 - نظرة الإسلام إلى المسيحي ومعتقداته وما نتج عن هذه  النظرة من معاناة. هذه النظرة،  رغم كل  ما اتُخذ  ويُتخذ من محاولات لتجميلها، تضع المسيحي في صف المشركين بالله. وطالما بقى المسيحي يؤمن بألوهية المسيح والله المثلث الأقانيم فهو عند المسلم كافر منبوذ.

------------------------------

176 - البروفسور جوزف ابو نهرا، كـنيسـة العرب: إرث الـمـاضي وتحـديـات الحاضـر، جريدة النهار، الاحد 10 تشرين الأول 2004

177- فيض القدير شرح الجامع الصغير (للسيوطي)، الإمام عبد الرؤوف المناوي،  ص 370 حرف الحاء

178 - اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية،  1/ 419

4 -  تهميش دور المسيحي في المجتمع العربي. وعليه فإن اعتبار المسيحي نفسه جزءاً من المجتمع العربي غير مرتبط فقط بموقفه، بل كذلك بالأنظمة السياسية والاجتماعية، التي قد تسمح أو لا تسمح له بأن يكون جزءاً منها.

5 - خجل بعض المسيحيين بالعروبة، لربط الغرب لها ظلماً بالجهل والتخلف. هذه ظاهرة لم تقتصر على المسيحيين العرب وحدهم، بل ثبت وجودها في من خالفوهم الاعتقاد من مسلمين ولا دينيين عرب.

6 - التشدد الإسلامي، وما نتج عنه من إرهاب استدعى إلى تغيير نظرة الغرب في العرب والتشدد تجاههم. هذا التشدد كان حافزا للعرب من مسيحيين وخلافهم إلى نكران العروبة.

7 - يقين المسيحي بأنه من جذور غير عربية، أي آرامية، سريانية، قبطية، أرمنية، آشورية، فينيقية. غير أن التنكر للعروبة من هذا المنطلق ينم عن فهم خاطئ لمقتضيات الانتماء، الذي لا يلغي بحال من الأحوال الأصول القومية والأثنية، بل يقتصر بالتمام على البيئة الجغرافية والثقافية. فالعروبة نسبت لكل من وجد في هذه الدائرة وكتب وتكلم وأبدع باللغة العربية.

8 - ويوجد بين مسيحيي الشرق من احتاروا في انتمائهم القومي، مما اضطرهم إلى الاستعارة المذهبية، بدلاً عن القومية الحقيقية.

علينا كمسيحيين مشرقيين أن ندرك، أنه مهما اختلفت القوميات والعقائد سوف تظل الجغرافية والثقافة هي ما يحدد انتماء الشعوب. وإن كنا لا نؤيد الانصهار في القومية العربية إلى حد إنكار الأصول، لا نغفل بأننا وجدنا في بيئة عربية وأصبحنا جزءا من نسيجها الثقافي والحضاري. وكشعوب تعيش منذ أربعة عشر قرنا في سياق حضارة عربية نرفض أن تكون حكراً على المسلمين دوننا، كما ونرفض أن ينظر إلينا مجرد أقلية وجسم غريب في أوطاننا، فنحن أبناء الشرق ولنا فيه كما لغيرنا.

تحدث المسيح في صلاته الشفاعية لله الآب، فقال عن تلاميذه: "ليسوا من العالم ... أنا أرسلتهم إلى العالم".[179] وقوله يؤكد بأن الانتماء إلى عالم غريب لا يتعارض البتة مع رسالتنا المسيحية ذلك، لأن من جوهر هذه الرسالة الذهاب إلى الناس والالتقاء بهم في أماكن تواجدهم، وهذا يستدعي منا انتماءاً جغرافياً وثقافياً. وطالما أن هناك أغلبية مسيحية ترفض حقيقة الانتماء إلى الثقافة العربية الواحدة، فإن كل مساعيهم للحفاظ على تأثير الرسالة الإنجيلية والخطاب المسيحي في العالم العربي ستبقى مشلولة عقيمة.

لا يمكننا تجاهل الحقيقة، فالمسيحية استعربت منذ القرن الثامن، ولا سبيل لنا في الإبقاء عليها حية وفعالة إلا ضمن العروبة، التي نحن جزءاً من نسيجها. فعلينا أن لا نعيش التقوقع والانغلاق على الذات والانطواء على النفس داخل المجتمع الذي أوجدنا الله فيه شهودا على نعمة الإنجيل. يقول مشير باسيل عون ضمن شرحه لمقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة: "إن الشهادة الإنجيلية تقتضي أن تنغلّ مضامين الحقائق الخلاصية في نسيج المجتمع الذي يحيا فيه شهود السيد المسيح. وبما أن واقع المجتمعات العربية التي يحيا فيها المسيحيون العرب يهيمن عليه بطبيعة الحال الانتماء الديني الإسلامي والمبايعة الثقافية العربية، فإن التعبير عن الشهادة المسيحية في حضن هذه المجتمعات ينبغي له أن يراعي حقائق الانتماء هذا وقرائن المبايعة هذه".[180]

------------------------------

179 - إنجيل يوحنا، الفصل 17

180 - الفكر العربي الديني المسيحي، مشير باسيل عون