Skip to main content

روح الحق

الإنجيل حسب يوحنا 16: 5-33           

إذ نقترب بخطى وئيدة إلى نهاية القرن العشرين نقول بأن الإنسان قد تعلم، بعد مروره بتجارب مريرة وكوارث ذات أبعاد هائلة، أنه لا يستطيع أن يحيا بالخبز وحده. فالحياة البشرية أكثر بكثير من طعام وشراب ومأوى. للإنسان أكثر من بعد مادي، يحتاج الإنسان إلى علاقة روحية سليمة مع ربه وباريه. وهكذا نجابه هذا السؤال المصيري: ما هو السبيل إلى علاقة دينية سليمة مع ربنا وإلهنا ونحن عائشون على هذه الأرض الغارقة في المادية؟

هذه أسئلة منطقية لا بد من الإجابة عليها. فنحن إذ نقر أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. لا بد لنا من مواجهة الطرف الآخر من الحقيقة أي كيفية العيش في علاقة روحية ديناميكية مع الله. ولم يتركنا الله لنقوم بهذا البحث اتكالاً على قوانا الخاصة بل أرسل أنبياءه ورسله منذ فجر التاريخ ليدلونا على الطريق المستقيم. ثم أرسل الله المسيح المخلص إلى دنيانا بمهمة خاصة. عاش المسيح لمدة ثلاث وثلاثين سنة في الأرض المقدسة. وانهمك المسيح بتعليم الناس وقام بالمعجزات والآيات الباهرة لصالح العديدين منهم. فلم تحظ رسالته السماوية بالترحاب بل عانده زعماء الدين في القدس وتآمروا عليه للتخلص منه. ونصل في فصلنا هذا إلى التعاليم الأخيرة التي تفوه بها المسيح قبيل القبض عليه وصلبه وموته وقيامته من بين الأموات.

قال المسيح لتلاميذه الحزانى: أما الآن فإني ماضٍ إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني: أين تمضي؟ ولكن لأني قلت لكم هذا فقد ملأ الحزن قلوبكم. لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق، فإني إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. وأما إذا انطلقت فإني أرسله إليكم. ومتى جاء هو فإنه يبكت العالم على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة. أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على البر فلأني منطلق إلى الآب ولا ترونني بعد، وأما على الدينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين.

كان من الطبيعي لتلاميذ المسيح أن يحزنوا ويكتئبوا لأن سيدهم كان قد أخبرهم عن عودته إلى الله الآب مرسله. حزنوا إلى هكذا درجة حتى أنهم لم يسألوه عن تفاصيل ذهابه إلى السماء. ولم يعن ذلك أنه كان سيتركهم يتامى. كان المسيح سيرسل الروح القدس، الذي دعاه بالمعزي، ليكون مع التلاميذ ومع جماعة الإيمان إلى انقضاء الدهر. فمع أن المسيح كان سيذهب إلى السماء ليكون مع الله الآب، إلا أن حضوره مع المؤمنين به لن يكون أقل حيوية من حضوره إبان السنين الثلاث التي  أمضاها في خدمته العلنية. وكان حضور المسيح سيتم بواسطة الروح القدس الذي يحل على كل من آمن به.

ذكر المسيح أن وظيفة الروح القدس وسط عالم ساقط في الخطية هي أن يبكت الناس على تمسكهم بالمحرمات. وعندما يؤمن الإنسان بالمسيح يسوع أي بالمخلص المرسل من الله، يكون الدافع القوي لذلك الإيمان منبعثاً من الروح القدس. ويتعلم المؤمنون والمؤمنات بأن رئيس هذا العالم (أي العالم المناوئ لله) قد دين، أي أن الشيطان قد حكم عليه من الله وأن مصيره جهنم النار.

ومن الجدير بالذكر أن المسيح لم يكشف عن جميع الأمور المتعلقة. بملكوت الله إبان السنين الثلاث التي أمضاها مع تلاميذه. وهكذا أفهم تلاميذه بأن الروح القدس كان سيرشدهم إلى الحق كله. ندعو هذا العمل الخاص للروح القدس بالوحي. أوحى الروح القدس إلى الرسل والبشيرين بمحتويات أسفار العهد الجديد (المعروف أيضاً باسم الإنجيل) فكتبوا ما كتبوه ككلمة الله. والمحك الهام لمعرفة عمل الروح القدس وتمييزه عن الأرواح الأخرى يكمن في أنه يمجد المسيح يسوع في جميع أعماله وشهادته في عقول وقلوب الرسل. وبعبارة أخرى نعلم فيما إذا كان تعليم ما ينطبق على الحق الإلهي فيما إذا كان يطابق تعاليم المسيح يسوع التي كان قد تفوه بها علانية أمام تلاميذه في الأرض المقدسة.

ولكن متى جاء هو، روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحق كله، لأنه لا يتكلم من نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي. كل ما هو للآب هو لي، من أجل هذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم.

وهنا نأتي على ذكر خلفية هذا التعليم. بعد أن تعشى المسيح مع تلاميذه للمرة الأخيرة عشاء عيد الفصح أخبرهم عن عزم أعدائه على القبض عليه وتسليمه إلى أيدي المستعمرين الرومان. وكان ذلك سيؤول إلى صلبه وموته على الصليب. فامتلأت قلوبهم بالحزن ولم يستطيعوا أن يفكروا بطريقة سليمة. وهذا دفع المسيح إلى تكرار كلامه عن آلامه وموته وقيامته. بعد قليل لا ترونني، ثم بعد قليل أيضاً ترونني لأني منطلق إلى الآب.

عندما قال المسيح أولاً: بعد قليل لا ترونني، كان يشير إلى أن أعداءه كانوا سيلقون القبض عليه ويسلمونه إلى الرومان وأنه كان سيحكم عليه بالإعدام صلباً. وعندما قال ثانية: ثم بعد قليل ترونني، كان يشير إلى قيامته من بين الأموات في صباح يوم الأحد وظهوره لهم. لم يفهم التلاميذ هذه الكلمات الربانية فتساءلوا فيما بينهم: ما معنى هذا القليل الذي يتكلم عنه؟ فأجابهم المسيح قائلاً:

أتتساءلون عن هذا فيما بينكم أني قلت: بعد قليل لا ترونني ثم بعد قليل أيضاً ترونني؟ الحق، الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم سيفرح، وأنتم ستحزنون ولكن حزنكم سيتحول إلى فرح. المرأة حين تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت ولكنها متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة من أجل الفرح لأنه قد ولد إنسان في العالم. وأنتم لذلك تحزنون الآن ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولن ينزع أحد فرحكم منكم.

من البديهي أن يحزن تلاميذ المسيح لأن سيدهم كان سيعامل كمجرم خطير بينما كان قد وفد إلى عالمنا لتتميم رسالته الخلاصية والفدائية. من الطبيعي أن تمتلئ قلوب التلاميذ كآبة لأنهم كانوا سيخسرون مشاهدة معلمهم وهم قد اعتادوا أن يكونوا بصحبته لمدة ثلاث سنين. فطلب منهم المسيح أن ينظروا إلى المستقبل، إلى أيام ما بعد الصليب. وجه أنظارهم إلى يوم النصر، يوم القيامة المجيد، يوم إعلان فشل واندحار قوى الشر والخطية المعادية لله وللمسيح الظافر.

ما أهم تلك الدقائق الباقية من تلك الليلة الحاسمة! كان أعداء المسيح يتجمعون ويهمون بإلقاء القبض عليه واقتياده إلى بيت رئيس الكهنة ومن ثم إلى دار الولاية الرومانية. أنهى المسيح خدمته العلنية والتعليمية بهذه الكلمات الوداعية ثم رفع دعاءه إلى الله قائلاً:

قد كلمتكم بهذا بأمثال ولكن تأتي الساعة التي لا أكلمكم بعد فيها بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية. في ذلك اليوم تطلبون باسمي، ولست أقول أني أسأل الآب من أجلكم، فإن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم بأني خرجت من عند الله. لقد خرجت من الآب وأتيت إلى العالم، وأترك العالم أيضاً وأذهب إلى الآب.

فقال له تلاميذه: ها أنت تتكلم الآن علانية ولا تقول مثلاً ما. الآن نعلم أنك عالم بكل شيء ولا تحتاج إلى أن يسألك أحد ولهذا نؤمن أنك من الله خرجت. أجابهم يسوع: أتؤمنون الآن؟ ها إنها تأتي ساعة، وقد أتت، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي، ولكني لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام، ففي العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا فإني قد غلبت العالم.

لقد بحثنا في تعاليم السيد المسيح التي تفوه بها قبيل انتهاء حياته على الأرض ولاحظنا أهميتها القصوى ليس فقط لمعاصريه بل لنا نحن أيضاً، نحن الذين أعطانا الله أن نحيا في السنين الأخيرة من القرن العشرين. فلقد طغت علينا الأفكار والنظريات الإلحادية والمادية ووقع العديدون من الناس فريسة لها وصاروا يحلمون أن الإنسان يحيا بالخبز وحده. كأنه لا حياة بعد الموت ولا قيامة سعيدة للأبرار ومخيفة للأشرار غير التائبين. لكن الناس لن يعرفوا الحياة السعيدة ولا السلام الحقيقي إلا إذا رجعوا إلى الله تائبين وآمنوا بمن جاء من الله ليخلصنا من الشر العالق بنا. وكم علينا أن نشكر الله الآب الذي يمنحنا روحه القدوس الذي يمكث معنا إلى الأبد. وهو يعزينا في جميع أيام حياتنا ويعطينا أن نحيا بشركة روحية مقدسة مع جميع المؤمنين. من آمن بالمسيح يسوع يختبر حضور الروح القدس في حياته ويذكر كلمات المسيح:

قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام، ففي العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا فإني قد غلبت العالم. آمين.

  • عدد الزيارات: 10885