Skip to main content

إيمان أبينا إبراهيم

النص الكتابي: الرسالة إلى رومية 4

هل تعلم أنه من أهم العلوم التي تساعدنا على تفهم الماضي هو علم الآثار القديمة؟ برز هذا العلم بصورة خاصة في القرن التاسع عشر ولا يزال يعد من أهم العلوم. ونحن في البلاد العربية من أغنى الناس في كمية الآثار القديمة التي حفرت وصارت معلومة في جميع أنحاء العالم. ففي مصر مثلاً جرت اكتشافات عظيمة ساعدتنا على فك رموز اللغة أو الكتابة الهيروغليفية التي كانت تستعمل في بلاد النيل في أيام الفراعنة. وفي فلسطين جرت اكتشافات عديدة من أهمها الأسفار المقدسة التي كانت مخبأة في كهوف قمران بالقرب من البحر الميت والتي تثبت لنا بأن الأسفار المقدسة لم يجر عليها أي تغيير أو تحوير عبر العصور المتعاقبة. وفي شمال سوريا بالقرب من شاطيء البحر الأبيض المتوسط وفي مكان يدعى برأس شمرا اكتشفت آثار هامة لحضارة الحثيين. أما في جنوبي العراق فهناك حفريات أور الكلدانيين وهو مسقط رأس إبراهيم الخليل.

ولقد أتيت على ذكر علم الحفريات أو الآثار القديمة لأشدد على أن الذين عاشوا قبلنا منذ آلاف من السنين كانوا بشراً مثلنا بالرغم من أنهم لم يعرفوا الطائرة ولا المذياع ولا التلفزيون. من السهل جداً لنا أن نعدد الفوارق بيننا وبينهم، ولكنه إن كنا جادين في مقارنة أنفسنا بأسلافنا لابد لنا من القول بأنه هناك قاسم مشترك أعظم يجمعنا معهم هو أكبر بكثير وأهم بكثير من الأمور الجانبية أو السطحية التي تفرقنا عنهم.

وهكذا لابد لنا من دراسة سيرة بعض العظماء الذين عاشوا في العصور القديمة لنتعلم ما يلزمنا من سيرتهم. ومن أعظم الناس الذين عاشوا في أيام ما قبل الميلاد كان إبراهيم الخليل. وقد بحث في سيرة إبراهيم الرسول بولس وذلك في الفصل الرابع من رسالته إلى أهل الإيمان في رومية.

كان الرسول قد علمنا في الفصل الثالث من رسالته هذه أن الله قد كشف عن طريقة فعالة للخلاص من الخطية ومن عواقبها الوخيمة. وضع الله أساس الخلاص في المسيح وفي عمله الفدائي الذي تم على الصليب خارج أسوار مدينة القدس. يستفيد كل إنسان من الخلاص والفداء بواسطة الإيمان بالمخلص المسيح.

ظهر تعليم الرسول لمعاصريه وكأنه بدعة دينية. ولذلك ذهب إلى الكتاب المقدس وخاصة إلى ما ورد في التوراة عن سيرة إبراهيم الخليل. قـال بولـس: "1فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إبراهيم قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟ 2لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إبراهيم قَدْ تَبَرَّرَ بِالأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ - وَلَكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ" (رومية 4: 1و2) ثم استطرد الرسول قائلا: "3لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إبراهيم بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً" (3).

 علّم مفسرو الكتاب المقدس في أيام المسيح بأن الإنسان يقدر بجهوده الخاصة أن يتمم ويكمل جميع مطاليب الشريعة الإلهية وإذ ذاك ينال رضى الله. وادّعوا بأن هذا المبدأ كان ساري المفعول على حياة العظماء في أيام ما قبل المسيح مثل إبراهيم وموسى وداود. لكن الرسول بولس لم يقبل هذه الادعاءات الواهية. فلجأ إلى توراة موسى وإلى السفر الأول المعروف بسفر التكوين حيث ورد في الفصل الخامس عشر بأن إبراهيم آمن بالله فحسب له ذلك براً. وبناء على هذا التعليم الكتابي الصريح استطرد الرسول معلقاً ومفسراً:

"4أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ (أي الذي يظن بأنه يقدر مرضاة الله بجهوده الخاصة المبنية على حفظ كامل للوصايا الإلهية) فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. 5وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإيمانهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً " 4و5.

لم يَعْنِ الرسول بأن تكييف الحياة بمقتضى الشريعة الإلهية هو خطأ ولكنه كان يتكلم عن موضوع مرضاة الله، وهذا لا يتم (حسب تعليم الرسول المنطبق على الكتاب) بجهود الإنسان الخاصة بل بنعمة الله أي بهبة الله غير المستحقة والتي هي مبنية على ما قام به المسيح على الصليب. يطلب الله من الإنسان أن يؤمن أي أن يضع ثقته في ما قام به الله لإنقاذ الإنسان من شره وضلاله ونبذ ما يزعمه الإنسان بأنه في مقدوره كسب رضى الله .

ذهب الرسول إلى سفر مزامير داود واقتبس من المزمور الثاني والثلاثين حيث قال النبي بوحي من الله:

" طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. 2طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ ". لو كانت هذه المراحم الإلهية كغفران الآثام وستر الخطايا مبنية على ما يقوم به الإنسان لما صيغت كلمات المزمور على تلك الشاكلة.

نعود إلى سيرة إبراهيم. من المعلوم أن الله بعد أن دعاه لترك أهله ووطنه والتغرب في أقسام أخرى من الشرق الأوسط طلب منه بعد سنين عديدة من تلك الحادثة التي ذكرناها بخصوص تبريره، بأن يختتن (أي يتطهر) هو وجميع نسله من الذكور. علم معاصرو الرسول من علماء اسرائيل بأن الختان كان الأساس للقبول لدى الله. شددوا على أهمية العلامة أو الختم أو الرمز وأهملوا المرموز إليه أي وعد الله الخلاصي. جابه بولس هذا الاجتهاد الخاطيء قائلاً:

"لأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهُ حُسِبَ لإبراهيم الإيمان بِرّاً. 10فَكَيْفَ حُسِبَ؟ أَوَهُوَ فِي الْخِتَانِ أَمْ فِي الْغُرْلَةِ؟ لَيْسَ فِي الْخِتَانِ بَلْ فِي الْغُرْلَةِ! 11وَأَخَذَ عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْماً لِبِرِّ الإيمان الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ لِيَكُونَ أَباً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضاً الْبِرُّ. 12وَأَباً لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْخِتَانِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَسْلُكُونَ فِي خُطُواتِ إيمان أَبِينَا إبراهيم الَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي الْغُرْلَةِ " (رومية 4: 9-12).

 لم يكن الرسول من الذين يؤخذون بالمراسيم الدينية في حد ذاتها ولم يقبل مطلقاً تجريدها مما كانت تشير إليه من الأمور الروحية الجوهرية. كان همه الوحيد الإشارة إلى أن ما نتعلمه من سيرة إبراهيم هو إيمان إبراهيم. طبعاً، كانت أعمال إبراهيم هامة ولكنها لم تكن ذات قيمة في ذاتها بل نبعت من الإيمان الحي بالله وبمواعيده التي كانت تظهر وكأنها من المستحيلات. أهمية إبراهيم هي أنه كان مؤمناً بالله ولذلك دعي بخليل الله وبأبي المؤمنين. وقد ذكر الرسول عن هذا الموضوع "23وَلَكِنْ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ 24بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضاً الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. 25الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا " (رومية 4: 23-25).

 لم يتكلم بولس الرسول عن هذا الموضوع لمجرد استعراض سيرة ذلك الرجل الجبار والفذ الذي عاش قبل مئات من السنين من أيامه. أشار الرسول إلى إبراهيم لأنه كان من أعظم شخصيات العالم القديم نظراً لإيمانه بالله ولصيرورته المثال الذي على المؤمنين والمؤمنات أن يحتذوا به. عاش إبراهيم حياة الإيمان بمواعيد الله فنال بره من الله كهبة، كنعمة لا كعمل.

كانت أيام إبراهيم أيام مواعيد الله بخصوص ذلك الذي كان سيأتي من نسل إبراهيم والذي كان سيتمم ويكمل هذه المواعيد العظيمة. وفي اليوم المعين من الله جاء المسيح المخلص وعاش في الأرض المقدسة مدة ثلاث وثلاثين سنة. علم الجموع وشفى المرضى وأقام الموتى. وانتهت حياته على الأرض بموته على الصليب وظهرت قوته الخلاصية الهائلة في قيامته من الأموات. أيام المسيح هي أيام تتميم مواعيد الله ونبوات النظام القديم، هذه الأيام تتطلب من جميع الناس بأن يضعوا ثقتهم التامة في يسوع المسيح المخلص. من آمن بالمسيح نال بر الله وصار من الخالصين. آمين.

  • عدد الزيارات: 8257