Skip to main content

الإصحاح الثالث والعشرون: رد أيوب على أليفاز - حنينه إلى رفع دعواه قدام الله

الصفحة 2 من 5: حنينه إلى رفع دعواه قدام الله

(ع1-9) حنينه إلى رفع دعواه قدام الله.

هنا أيوب لا يدحض في الحال اتهامات أليفاز الكاذبة فهو يقدر أن ينتظر للآخر حتى تصمت أفواههم تماماً. ثم يتكلم الكلمة الأخيرة. وهو يعرف أنه لا زال متمرداً. يد الله التي عليه أثقل من كل تنهده. ثم ذلك الانفجار الذي يكشف اشتياق نفسه المجربة الفارغة القلقة "من يعطيني أن أجده فآتي إلى كرسيه؟ أحسن الدعوى أمامه واملأ فمي حججاً" ثم في بر ذاتي باهر يتكلم كلمة جريئة "اعرف الأقوال التي بها يجيبني وافهم ما يقوله لي" فهو متأكد جداً من جميعها حتى أنه يعلن "هو يثبته لي" كم كان الاختلاف عندما تكلم الله وشفتا أيوب مغلقتان لتنفتح فقط في تعبير عميق لشيء يفيض. لكن ليس الإنسان الجاحد بل يتوق إلى الله.

أنه انتظر ليقدم حالته أمام الله. لكنه لا يعرف كيف يجيب أيوب في هذا الإصحاح فيقول "اليوم أيضاً شكواي تمرد. ضربتي أثقل من تنهدي. من يعطيني أن أجده؟" حقاً إن في أيوب قلباً نقياً ولو أنه كان يشعر ويتلوى تحت ثقل آلامه المبرحة. لقد كان مشغولاً بنفسه وبمصيبته حتى أنه لم يستطع بعد أن يجد الله. ولكنه مع ذلك وجده بعد قليل. "فآتي غلى كرسيه. أحسن الدعوى أمامه واملأ فمي حججاً فاعرف الأقوال التي بها يجيبني وافهم ما يقوله لي"... هذا ما كان يتوق إليه أيوب لم يكن يخاف مما سيقوله الله. إنه كان يعرف يقيناً أنه صالح وطيب لأنه كان يحبه وكان أيوب يعرف ما هو.

"أبكثرة قوة يخاصمني؟" ذلك ما كان يظنه الأصحاب الثلاثة ولكن "كلا" يقول أيوب لاشيء من هذا إطلاقاً.

"ولكنه كان ينتبه إلى هنالك كان يحاجه المستقيم وكنت أنجو إلى الأبد من قاضيّ"... إني اعلم يقيناً أن الأمر سينتهي على أحسن ما يرام لو أني فقط مُنحت فرصة للمحاجة والكلام لو تسنى لي أن أدنو واقترب منه، إذن لأصغى وسمع لي.

"ها أنا اذهب شرقاً فليس هو هناك وغرباً فلا اشعر به شمالاً حيث عمله فلا أنظره. يتعطف الجنوب فلا أراه لأنه يعرف طريقي" من هنا نرى أننا أمام قلب كان دائماً يتحول ويتجه إلى مركز الجاذبية، إلى الله دائماً، قد يتأرجح  تحت ضغط التجربة. كما تهتز وتتأرجح البوصلة المغناطيسية أحياناً ولكنها لا تلبث أن تعود متجهة صوب القطب الشمالي على الدوام.

بعد هذا النقاش الكثير، بعد اتهامات أصحابه، "شكواي تمرد": مناهضة مريرة ضد اتهاماتهم. هو يكسب أنينه في صورة احتجاج على معاملتهم الظالمة. أي أنه "يتنهد" ليس من مرارة الألم بل من عدم عدالته. ولو أن أيوب كان يعرف الحقيقة لتغيّر اعترافه وبدلاً من هذا التنهد الخاطئ لكان يقول "لم يصنع معي حسب خطاياي" ولو أن إلهنا ردّ علينا بما نستحق. أين كنا نوجد؟ بهذا الإحساس الفائر يريد أيوب أن يأتي إلى الله ويقدم اتهاماته ضده تعالى. هو يتمنى لو أنه استطاع أن يتقدم بجرأة إلى حضرته، في ذات مكان سكناه ويرفع إليه دعواه نعم مملوء حججاً يتحداه تعالى أن يجيب "فأعرف الأقوال التي بها تجيبني". هكذا يمكن أن يتكلم إنسان بار متى كانت بينه وبين الله مسافة. ولكن كم تغيرت الحال عندما أتيحت لأيوب الفرصة وظهر له الله.

وحتى هنا، وقد وصل تحديه المجنون لله إلى ذروته، تومض شعاعه من تلك الثقة في الله التي لاحظناها من قبل. "أبكثرة قوته يخاصمني! كلا. ولكنه يلاحظني بإشفاق." هذه ولا ريب ليست أقوال إنسان غير مؤمن. صحيح أن أيوب يشك في طرق الله، بل ويتهمه، لكنه واثق إنه إذا لم يستطيع ألا يراه، فلا بد تثبت براءته. وكان الله ينظر إلى صرخاته الواهنة، ويبرره من الظلم الإلهي! ولكن ما هذا التناقض. إنسان بار ينازع الله، وينجيه من قسوته الظالمة القاضي نفسه! هو تناقض في الحق عجيب، على أنه خير أن يتوق القديس للذهاب والوقوف قدام الله، من أن تملأ الكبرياء نفس أولئك فيقولون "أبعد عنا، وبمعرفة طرقك لا نسر" نعم خير لنا أن نتقدم حتى بشكوكنا من الله نفسه، إذا لم يكن لدينا ما نتقدم به.

ولكن أين يوجد الله؟ هوذا أيوب يندفع إلى الأمام، وليس هناك الله، والى الوراء ولكنه لا يلاحظه. يتجه يمنة ويسرى والله لا يزال يفلت منه.

هي في الواقع مأساة، ولو أن الأمر كله كان متوقفاً على سعي أيوب إلى الله، لأغرقه اليأس. لكن – وهو ما كان يجهله أيوب – الله هو الذي يسعى طالباً أيوب وسيجده بعد قليل.

احتجاجات البر
الصفحة
  • عدد الزيارات: 12999