Skip to main content

الوجودية الأميركية المروّضة

إن الوجودية ذاتها التي تتخلل الفنون على أشكالها تعمل عملها أيضاً في مواطن أخرى من الحياة القاسية العلمية. ذلك لأن الوجودي العقيدة لا يستطيع أن يفرق بين الفكر وبين العمل، فإنه، مثل كير كغارد، قد يحاول أن يصلح الكنيسة، أو مثل مالرو، يترك أبحاثه ودروسه ليلتحق بحكومة ديغول ويشترك في الحكم.

أما في المجتمع الأميركي فإن أكثر الأفكار الوجودية انتشاراً وذيوعاً حصلت - وهذا ما يدعو إلى الدهشة- بواسطة الفلسفة التي نسميها الفلسفة الذرائعية. لقد أدرك وليم جايمس، الرائد في الفلسفة الذرائعية، ما لفلسفة باسكال من سحر في العقول. لكن فلسفته الخاصة جاءت عن أصالة حقيقية. وتوكيده على الإرادة البشرية في تلمسها الحقيقة، وحثه على العمل والفعل وعلى اتخاذ مواقف وقرارات جميع هذه الأمور لم تكن عنده نتيجة اطلاعه على الوجوديين الأوربيين وكتاباتهم بل جاءت نتيجة مجابهته الحياة الأمريكية وما تنطوي عليه هذه الحياة من ظروف ومشاكل.

ويقول لنا كثيرين أن جون ديوي (Dewey) حاول جاهداً أن يقتلع الحشائش الوجودية من حديقة الذرائعية. وهذا صحيح، فإن إصرار ديوي على الأسلوب العلمي على أنه السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة كان العقبة الكأداء التي وقفت في طريق زحف الوجودية الرئيسي. غير أن كتابات ديوي في أوائل عهده والتي كانت تعكس العلاقة العضوية بين الإنسان وكونه كما أنها كانت تعكس أيضاً مبلغ البعد بينهما، كانت كتابات وجودية في لهجتها وتعبيرها. وكان ديوي أبداً خصماً للأنظمة العقلانية التي تشل مختلف الاختبارات الإنسانية. حتى أن المنطق ذاته في نظر ديوي، لا يمكن أن يكون نظاماً تجريدياً خالصاً لذاته، لأن الفكر إنما يحدث في "قالب وجودي" . فإن الإنسان ليس عقلاً مجرداً صافياً، إنما يفكر ليجابه المشاكل والظروف التي تعترض حياته البيولوجية والحضارية. ولكن وصف الوجود كما جاء على يدي ديوي لم يكن مستمداً من الفلاسفة الوجوديين الكبار. كان وصف ديوي للوجود آنذاك مستمداً من عالم يرتع بالرغد والتقدم لا من عالم يشكو من "القلق والاضطراب".

وقد ظلت فلسفة جون ديوي إلى عدد من السنين العامل الأول المؤثر في "التربية التقدمية" الأمريكية. فإن إصراره على أن يكون هنالك رابطة وصلة بين الفكر المجرد وبين العمل الملموس في عملية التعلم يمثل ناحية من الفلسفة الوجودية. وتوكيده على التعبير عن الذات ليس بأمر بعيد عن دعوة الوجوديين وتوقهم إلى حرية الشخصية الفردية. وفي الآونة الأخيرة راحت هذه الفلسفة تركز اهتمامها على التكيف الاجتماعي في التربية إلى حد راح النقاد، مثل دايفيد ريزمان (Riesman)، يبدون عدم ارتياح إزاء هذه الفلسفة التي أخذت تخنق الشخصية وتشل نموها عوضاً عن أن تكون عاملاً في تنميتها كما أريد لها أن تكون.

  • عدد الزيارات: 2495