Skip to main content

إصحاح 1، آية 5

5-"أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان"

لقد بدأت العروس نشيدها بالتغني بالعريس ومحبته، وبجلاله اسمه وبهاء حجاله، وهناك في جو الشركة المقدسة معه وفي بهاء طلعته المباركة قد أدركت حقيقة ذاتها، وما هي بحسب الطبيعة، وهذا اختبار لا يمكن ان يدركه المؤمن إدراكا صحيحا إلا في نور المقادس _ أمام الله وفي حضرة المسيح، فهناك داخل "حجال الملك" عرفت العروس أنها "سوداء"، وهذا نفس ما أدركه أشعياء النبي فأنه إذ رأى السيد الرب جالسا على الكرسي العالي والمرتفع والسرافيم يعلنون قداسته، قال "ويل لي أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين. لان عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (أش6) فلم يعرف النبي ذاته المعرفة الحقيقية ويدرك أنه إنسان نجس الشفتين إلا عندما رأت عيناه الملك في جلال قداسته، وهذا أيضا ما اختبره الرسول بطرس فإنه رأى مجد الرب يسوع عندما امتلأت السفينتان بالسمك حتى أخذتا في الغرق "خر عند ركبتي يسوع قائلا أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ"(لو5: 5-9) ليت شركتنا تزداد مع الرب ويزداد قربنا إليه وتفرسنا في كمالاته فيزداد إدراكنا لحقيقة ذواتنا كما يزداد أيضا إدراكنا لسمو مقامنا الذي أوصلتنا إليه نعمته الغنية.

"سوداء وجميلة" _ سوداء "كخيام قيدار" وجميلة "كشقق سليمان" هذان الوصفان يبينان حالة المؤمن ومقامه، فهو بحسب حالته وارث لطبيعة آدم الساقطة، وبحسب مقامه هو في المسيح إنسان جديد "شريك الطبيعة الإلهية"، فبينما نرى ان أعظم قديس في الأرض يقول "أني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح"(رو7: 18). فان أضعف مؤمن حقيقي هو في المسيح قديس وبلا لوم قدام الله في المحبة. فهو من الوجه الواحد أسود كخيام قيدار _ وقيدار معناه ذو الجلد الأسود، وهو أحد أبناء إسماعيل ابن الجارية الذي يعتبر صورة للخطية الساكنة فينا وبنو قيدار حيثما حلوا فأنهم يسكنون في خيام سوداء _ هذه صورة مصغرة للطبيعة البشرية الساقطة الساكنة في المؤمن على السواء _ سوداء كخيام قيدار، (أنظر مز120: 5وتك25: 13،غل4: 23).

أما من الوجه الآخر فالمؤمن جميل "كشقق سليمان" وما كان أجمل بيت سليمان في ذلك الحين _ ذلك البيت الذي لما رأت ملكة سبا جماله لم تبق فيها روح بعد (2أخ9: 3و4).

أما إذا اعتبرنا ان المقصود بشقق سليمان هو حجاب الهيكل الجميل الذي بناه سليمان والذي هو بلا شك رمز لناسوت ربنا الكامل _ هيكل الله الحقيقي (يو2: 19و 21) فان في هذا الحق الثمين تعزية قوية لنا، فالمؤمن له أمام الله نفس الجمال والكمال اللذين لربنا المبارك _ يسوع المسيح.

ولنا في العهد الجديد أدلة كثيرة جدا ترى المؤمن في صورتيه، وتؤكد بدون أدنى التباس ان كل مؤمن يحمل بين جنبيه طبيعتين _ الطبيعة القديمة الموروثة من آدم والطبيعة الجديدة المولودة من الله، فبينا نرى الرسول بولس يخاطب الكورنثيين باعتبارهم "مقدسين في المسيح يسوع" وقديسين، وأنهم من جهة المواهب الروحية ليسوا ناقصين في موهبة ما (1كو1) نجده يوبخهم في نفس الإصحاح لان بينهم انشقاقات وخصومات وفي ص3 من نفس الرسالة لم يستطع ان يكلمهم كروحيين بل كجسديين كأطفال في المسيح إذ فيهم حسد وخصام وانشقاق.

وفي نفس الوقت الذي يخاطب فيه الرسول المؤمنين في كولوسي باعتبارهم قد ماتوا وقاموا وحياتهم مستترة مع المسيح في الله، يطلب إليهم ان يميتوا أعضاءهم التي على الأرض الزنى النجاسة الخ (كو3) هذه كلها وغيرها كثير، من الأدلة التي تبين وتؤكد ان المؤمنين قد ماتوا مع المسيح وقاموا معه وأنهم جالسون معا في السماويات في المسيح يسوع، وهذه كلها بالنعمة، ولكنهم في نفس الوقت بشر ضعفاء في ذواتهم وفي حاجة مستمرة إلى التزود بقوة روحية لإماتة أعمال الجسد "بالروح تميتون أعمال الجسد" (رو8: 13) فجسد الخطية لا وجود له أمام الله لأنه قد قضى عليه بصليب المسيح، ولكنه لا يزال ساكنا في كل مؤمن وعليه ان يسهر ضد كل حركاته ويحكم عليها، لا بل عليه ان يحسب نفسه ميتا "كذلك أنتم أيضا احسبوا أنفسكم أموات عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا"(رو6: 11).

ربما يعترضنا البعض بان هذا التعليم قد يقود المؤمن إلى التهاون في السلوك والتراخي في العيشة الصالحة، ولكن الواقع هو بعكس ذلك، إذ أنني متى أدركت حقيقة ذاتي وأني بحسب الطبيعة إنسان مسكين وفي طبيعة تميل إلى الشر فإني اجتهد معتمدا على معونة الرب وخدمته الكهنوتية وعلى مؤازرة روحه الساكن في أكون دائما في حالة الصحو الروحي، وسائرا مع الله في قداسة الحياة العملية، وساهرا ضد كل شر أو ميل رديء منبعه القلب "لان من القلب تخرج أفكار شريرة"(مت15: 19) أما إذا توهمت بان الشر قد انتزع تماما من داخلي فلا أكون في حاجة إلى السهر ضد أي ميل شرير، وعندما تتردد في داخلي الأفكار الشريرة فلا أهتم بالحكم عليها ولا اعتبرها شرا يجب الحكم عليه وادانته، وعوضا عن ان أدرب نفسي للنمو في حياة القداسة فأني أحط من شان قداسة الله الكاملة وأجعل حالتي العملية مقياسا لقداسته تعالى عوضا عن ان أجعل قداسة الله مقياسا كاملا أسعى للوصول إليه، وهل هناك أشر من تخفيض مقياس قداسة الله إلى هذا الحد؟

وإذا افترضنا ان المؤمن يصل حقيقة إلى مستوى القداسة الكاملة ولا يبقى للشر أثر في داخله فما حاجته بعد إلى ممارسة وسائط النعمة؟ بل ما حاجته إلى شفاعة المسيح؟ "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وان أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار"(1يو2: 1).

وإذا تسنى للمؤمن ان يصل إلى حالة الكمال، وان لا يبقى للخطية أثر في داخله فأنه في هذه الحالة لا يكون عرضة للموت الجسدي، لأنه ما علة دخول الموت إلى العالم. أليست الخطية؟ "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع"(رو5: 12) فان كان بالخطية الموت، إذن حيث لا وجود للخطية فليس هناك موت.

كنا نود ان نتوسع أكثر في الكلام عن هذه الحقيقة ولكننا نريد ان نتقدم في تأملاتنا في هذا السفر، ورجاؤنا في الرب ان يتنازل لكل نفس مخلصة حتى تتثبت من هذا الحق كما هو معلن في كلمة الله فتعترف جهرا بأنها "سوداء وجميلة" نعم هي سوداء ولكنها، شكرا للرب _ هي في الوقت ذاته جميلة، ولا نكون مغالين إذا قلنا أنها جميلة كجمال عريسها المبارك، والحقيقة التي تملأ نفس المؤمن شبعا وسرورا هي أنه أمام الله (وليس في ذاته) جميل كالمسيح _ والله _ تبارك اسمه _ لا يمكن ان يرى المؤمن أقل جملا من المسيح لأنه فيه، وله في قلب الآب محبة كاملة لا تقل عن محبته تعالى للمسيح "أحببتهم كما أحببتني"(يو17: 23) يا لها من نعمة غنية صيرت السوداء البشعة أبيض من الثلج _ صيرتها جميلة وحلوة ومحبوبة بهذا المقدار، وإذا كان المؤمن قد صار حلوا وجميلا إلى هذا الحد، أفلا يليق به ان يظهر هذا الجمال في حياته العملية _ في أقواله وفي أعماله؟ فكلامه يكون عذبا وفي كل حين مملحا بملح وبحسب الحاجة لكي يعطي نعمة للسامعين، وان يتصرف حسنا في كل شيء فيظهر صفات وكمالات سيده الذي صار جميلا مثله.

ولا بد ان يأتي عاجلا الوقت الذي فيه نكون في كمال الجمال. لا روحا ونفسا فقط بل وجسدا أيضا "إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو"(1يو3: 3) "كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضا صورة السماوي" نعم سيأتي العريس المبارك من السماء وسيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده. . . هللويا.

* * *

ولنلاحظ ان العروس في هذا العدد توجه كلماتها هذه إلى "بنات أورشليم" وهذا يتبين منه ان "بنات أورشليم" لسن هن العروس ولو أنه توجد علاقة بينهما فإذا كانت العروس تشير إلى المدينة المحبوبة أورشليم _ "مدينة الملك العظيم" فبنات أورشليم يشرن غالبا إلى مدن يهوذا أو ربما للراجعين للرب من إسرائيل، ومع أنه سيكون لها (أي لمدن يهوذا وإسرائيل) نصيب مبارك في ملك الرب ولكنها لن تصل إلى نصيب ومقام العروس وإعزاز الملك لها، إذ هو واضح في كلمة الله ان أورشليم سيكون لها المركز الأول "لان الرب اختار صهيون اشتهاها مسكنا له هذه هي راحة إلى الأبد ههنا أسكن لأني اشتهيتها"(مز132: 13و 14) "والآن قد اخترت وقدست هذا البيت ليكون اسمي فيه إلى الأبد وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام"(2أخ7: 16).

  • عدد الزيارات: 4157