Skip to main content

الفصل الخامس: الهجرة المسيحية ومسبباتها

حفظ المسيح كنيسته التي أحبها بلا حدود، وبقيت بفضل قوته صامدة أمام تحديات الأزمنة الغابرة، لكن اليوم يتهددها خطر جديد لم تعرف مثله قبلا. هذا الخطر يتجسد في ظاهرة الهجرة المسيحية إلى خارج العالم العربي، التي ازدادت بشكل ملحوظ في بداية القرن المنصرم. فمن يومها وإلى اليوم والمسيحيون في سفر دائم نحو بلاد الغرب بحثا عن حضن آمن واستقرار دائم.

إنّ النتائج السلبية للهجرة تقع بالدرجة الأولى على مسيحية المشرق، لكنها من ناحية أخرى تمس المجتمعات العربية برمتها. ولمّا أدرك حكماء الأمة وبعض حكامها أن استمرار هجرة المسيحيين وتناقص أعدادهم في المنطقة سيفقد البلدان العربية أحد أهم مكوناتها الحيوية، دقوا نواقيس الخطر، ولكن التعصب أبى أن يسمع رنينها.

يرسم قادة الكنيسة في  المشرق العربي صورة  قاتمة لهجرة المسيحيين من  أوطانهم  الأصلية.  من  ملامح  هذه الصورة: [181]

- هجرة أرمنية كثيفة، أدت إلى إقفال كنائس كثيرة في الوطن العربي.

- هجرة قبطية متزايدة في الأعوام العشرين الماضية أدت إلى تناقص ملحوظ في أعداد الاقباط داخل مصر.

- هجرة كلدانية أشورية جماعية من العراق، لاسيما بعد الاجتياح الأمريكي للبلاد سنة 2003 .

- هجرة من لبنان، ابتدأت سنة 1975 بحلول الحرب الأهلية ولم تنتهي للآن.

- هجرة مضاعفة من سوريا.

- هجرة كثيفة ومقلقة من فلسطين.

لتوضيح الصورة يستوجب الاستعانة بالأرقام والإحصاءات، مع كون الإحصاءات في هذا الشأن غير دقيقة و أحيانا متضاربة، والأرقام هنا تبقى في حدود التقديرات ولا تتعداها، رغم مصداقية المصدر. يقول الدكتور طارق متري: "ليست المجازفة بتقديرات حول أعداد المسيحيين ونسبتها إلى أعداد مواطنيها خالية من المخاطر. فهي، أياً كان من أمر رصانتها العلمية، تتحول بسرعة إلى مسألة خلافية تتحكم بها حسابات معنوية وسياسية تتعدى نطاق القياس والمقارنة. إلا أن ذلك كله لم يمنع بعض المتخصصين والكتّاب، العرب والأجانب من الاتفاق على بعض التقديرات". [182]

لا شك أبدا أن انخفاض نسبة المسيحيين في العالم العربي هو من البديهيات حتى في عدم وجود الهجرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار انخفاض معدل المواليد مقارنة بها لدى المسلمين. ولكن هذا التناقص لا يغير في المعادلات كما بواسطة الهجرة. فالأرقام الناتجة عن الإحصاءات تثير القلق، وهنا نظرة عليها:

-------------------------------

181 - الإحصاءات مستندة على البيان الختامي لمؤتمر البطاركة السادس عشر، من 16 الى 20 تشرين الاول 2006 بزمار - لبنان

182 – عن القس الدكتور عيسى دياب في مقالة بعنوان "المسيحيون الشرقيون"، جريدة النهار الأحد، 4 أيـار 2003

كان للمسيحيين في مطلع القرن العشرين حضور قوي في أوطانهم، لكنه لم يفتأ أن تراجع تدريجيا إلى أن غاب كليا في بعض المناطق والمجتمعات. تمثل هذا الحضور بنسبة بين السكان بلغت حد الربع، وأصبحوا في العام 1999 لا يزيدون عن 10 في المائة. ثم انخفضت النسبة إلى أن أصبحت اليوم لا تتعدى 5 في المائة من مجموع سكان العالم العربي.[183]

سوريا:

انخفاض من حوالي 33 % في مطلع القرن العشرين إلى 16 % في سبعينات القرن الماضي، إلى أقل من 10 % اليوم. ابتدأت هجرة المسيحيين السوريين بينما كان العثمانيين لا زالوا في السلطة، وبشكل خاص بعد الفتنة الطائفية سنة 1860 في دمشق، والتي أودت بحياة أكثر من 4000 مسيحي وإحراق أحيائهم.

لبنان:

من 55 % في العام 1930 إلى أقل من 30 % اليوم. ويتوقع انحسار العدد إلى ما دون 19 %  في العام 2020. وما يزيد المخاوف أن لبنان يخسر موقعه المهم كملاذ آمن لمسيحيي المشرق.

فلسطين:

إجمالا انخفض العدد فيها من 17 % إلى ما دون 5 %. في القدس كانت النسبة سنة 1922 حوالي 50 %، انخفضت اليوم إلى 2 %. ويشكل المسيحيون اليوم ما نسبته 1,4 % من جميع الفلسطينيين في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية.[184] في بيت لحم انخفض العدد من 85 % عام 1948 إلى 12 % سنة 2009. ومن أصل 53 قرية مسيحية في نابلس ومحيطها، لم تبق رعيّة لكنيسة واحدة.

مصر:

يبلغ معدل نسبة المسيحيين حوالي 8 إلى 10 % من أصل 70 مليون نسمة، بعد أن كانوا يشكلون ضعف هذه النسبة قبل أقل من خمسين سنة.[185]

العراق:

بحسب التعداد السكاني لسنة 1977 كان عدد المسيحيين 1.7 مليون نسمة. أنخفض العدد سنة 1987 إلى 1.2 مليون. وفي سنة 2003 بلغ العدد 700 ألف، غادر نصفهم العراق في الأربع سنوات الأخيرة، واليوم باتوا لا يشكلون أكثر من  1.5  % من مجموع سكان العراق.

الجزيرة الفراتية:

بأجزائها الثلاثة، السوري والعراقي والتركي. كان المسيحيون فيها سنة 1910 يشكلون ما يقارب 35 % من عدد السكان. ذبح الكثيرون منهم خلال الحرب العالمية الأولى على يد الأتراك العثمانيون والأكراد.[186] على أثرها ابتدأ المسيحيون بإخلاء الجزيرة التابعة لتركية إلى أن انعدم وجودهم فيها تماما. وبعد المجزرة الثانية على الآشوريين سنة 1933 من قبل الجيش العراقي والأكراد، هجر غالبيتهم إلى سوريا ولبنان ومن هناك إلى الغرب. واللافت خلال العقود الخمسة الماضية إخلاء شبه تام لبعض القرى والمدن الصغيرة في محافظة الحسكة السورية، وهكذا فإن الجزيرة بكل أقسامها باتت في خطر من أن تفرغ تماما، وبزمن قياسي، من أهلها وسكانها الأصليين وصانعي حضارتها.

والهجرة المسيحية لم تأتي من فراغ، فهنالك جملة من الأسباب والدوافع الدينية والاقتصادية والعرقية والسياسية والقانونية وغير ذلك. لكن في كل الأحوال لم تأتي الهجرة برضى القلب، بل غالبا إكراهاً أواضطراراً. ومن الأسباب أذكر:

1 - العامل المادي والاقتصادي.

إن قلة فرص العمل وشح المورد رغم الشهادات العلمية العالية، تؤدي إلى تدني مستوى الحياة في البلاد وتدفع بالشباب المسيحي إلى الهجرة.

----------------------------------

183 - نييورك تايمز: 13/05/2009

184 - دنيز عطالله حداد، جريدة السفير، العدد  الصادر في  7/4/2010

185 - قال قداسة البابا شنودة: "عددهم 12 مليون"، عن جريدة "المصرى اليوم"، الاثنين 27 اكتوبر 2008 العدد 1597 . المعلومات في هذا الشأن متضاربة جدا مابين الأقباط والهيئات الأخرى، وتتراوح مابين 4.5% عن الفاتيكان، و 5.6% عن "أطلس معلومات العالم العربي" الفرنسي، والذي اعتمدت عليه وكالة المخابرات الأميركية، وهذا الرقم  تؤكده الإحصائيات الرسمية للحكومة المصرية لعام 2001.

186 - فيما يعرف بالتاريخ بإبادة الأرمن، المذبحة التي أودت بحياة مليون ونصف أرمني وحوالي 150 ألف سرياني وآشوري في جنوب شرقي تركيا.

2 - التشدد الديني.

هو أحد أهم الأسباب في الهجرة، ناهيك عن تنامي الحركات الأصولية. والهجرة لأسباب دينية أفقدت الإسلام البرهان على قدرته في التآلف مع غيره، وأبطلت نظرية "السماحة الإسلامية". أحدث مثال على ذلك ما نراه في عراق اليوم من اعتداءات على المسيحيين، وتفجير الكنائس والتهديد والخطف وإشاعة الخوف. "في الأعوام الثلاثة الأخيرة تم تفجير 14 كنيسة ودُمرت مطرانية الموصل تدميرا كاملا. وقد بات العراقيون يتوجهون إلى دور العبادة وهم خائفون من ألا يعودوا إلى منازلهم".[187]

3 - تشدد الإجراءات الحكومية.

فمن طرف ممارسات المتشددين أو شبح التهديد بممارستها، ومن الطرف الآخر ظلم الأنظمة الواقع على المجتمع برمته، وعلى المسيحيين خاصة، الذين يتعرضون في المجتمع المدني لانعدام العدل والمساواة. هذه الحالة يعيشها اليوم أقباط مصر، ويصفها مؤتمر البطاركة السادس عشر بالكلمات: "فالأقباط في مصر يتم إقصاؤهم تقليدياً عن شغل الوظائف العليا في مختلف الوزارات ومؤسسات الدولة. ويكاد ينعدم وجود قبطي واحد بين عمداء الكليات ومديري الدواوين والسفراء وكبار الدبلوماسيين والإدارة العليا والقضاء"، من دون إغفالهم ذكر "القيود الموضوعة على بناء الكنائس أو ترميمها، أو حتى إقامة مجرد قاعة بسيطة للصلاة، بل مجرد دورة مياه خاصة بكنيسة، إذ يقتضي الأمر 10 سنوات على الأقل للحصول على إذن بترميم كنيسة أو تشييد أخرى جديدة".

4 - مشكلة الانتماء.

ليس بالإمكان فصل موضوع الهجرة عن موضوع الحضور والانتماء المسيحي ضمن المجتمع العربي الإسلامي، فكلاهما متلازمان ومترابطان. إن الشعور بعدم الانتماء يشتت التفكير ويبدد الإبداع، لأن الذي يشعر بعدم انتمائه إلى المجتمع هو مهمش فيه، سينكمش بنشاطه وإبداعه ويتقوقع داخل أطره القومية والكنسية أو يهجر إلى  مكان  آخر. لهذا يعيش الكثير من الشباب المسيحي هاجس الهجرة والاغتراب وهم لا زالوا قابعين في أوطانهم ولسان حالهم "هذه البلاد لا تنفع لنا ولا لأولادنا ".

5 - قوميات غير عربية.

ولا يمكننا تجاهل وجود قوميات أخرى تسعى إلى إلغاء الحضور العربي المسيحي في بعض المناطق، كالأكراد في الجزيرة الفراتية، وهذا ما يدفع بالكثير من أبناء المسيحية إلى التماس الهجرة.

6 - الحروب.

لا شك أن الحروب التي عصفت بالمنطقة خلال الخمسين سنة الأخيرة، ولاسيما الحرب الطائفية في لبنان، كان لها تأثير مباشر على هجرة المسيحيين من أوطانهم، لكن عامل الحرب يبقى خارج الأسباب المؤدية إلى هجرة مسيحية دائمة تلغي عند المسيحي فكر العودة إلى الوطن الأم.

على ضوء هذا، يتجلى واضحاً الخطر الذي تعيشه المسيحية العربية، وهو يرسم علامات استفهام حول مصيرها. نزيف متواصل، هجرات متلاحقة، عمليات اقتلاع، ترحيل قسري. كل هذه تنذر باحتمال اندثار المسيحيين عن خارطة  البلدان العربية.

وبعيدا عن التهويل، "لم يكن مصير مسيحيي الشرق مهدداً مرة كما هو اليوم. إن زوالهم بات احتمالاً متزايد الترجيح، مع الاهتراء المتواصل للوضع. فالهجرة تتحوّل اقتلاعاً كاملاً، وهذا ما يجعلها خطراً محدقاً".[188] وإذا ما دام الحال كذلك فإن زوال المسيحية من الشرق هو أمر محتم في المستقبل المنظور. وهجرتهم ستكون، "ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبل العرب".[189] ولا يمكن لعاقل حكيم في الأمة العربية أن يتصور مجتمعا عربيا بلا مسيحية أو مسيحيين.

--------------------------------

187 - كلمة المعتمد البطريركي للكلدان في روما، المونسنيور فيليب نجم، مؤتمر البطاركة السادس عشر

188 - مؤتمر البطاركة، المرجع السابق

189 - الأمير طلال بن عبد العزيز

  • عدد الزيارات: 5352