Skip to main content

الفصل الرابع: المسيحيون ومدارسهم العريقة

لعل أهم العوامل التي أهلت المسيحيين للمساهمة في نهضات العرب قديما وحديثا كان شغفهم بالمعرفة والعلم. ويعود الفضل الأول في ترقية الفكر عندهم إلى مدارسهم التي كانت ملحقة بالكنائس والأديرة، إذ أتاحت لهم الفرص للاتصال بالمعارف الخارجية. فكانوا من أدرى الناس بسائر العلوم والآداب.

ذاع صيت المدارس المسيحية الكبيرة، في الإسكندرية  والرها ونصيبين والمدائن وجنديسابور وحرّان والرقة وأنطاكيا وآمد وقنسرين، ومنها خرج جملة من الفلاسفة والعلماء واللاهوتيين غيروا واجهة الشرق. لا يوجد علم من علوم ذاك الزمان لم تحتويه تلك المدرس، من الفلسفة إلى الطب والتشريح والرياضيات والفيزياء والكيمياء والنحو والبيان والموسيقى والفلك. فكان لها دورا هاما في صياغة حضارة المشرق، بل أن الغرب نفسه قد تمتع بعطائهم، لأن ما وصل إليه من علوم شرقية لا يندرج ضمن الحضارة الإسلامية، وإنما هو جزءٌ من حضارة عربية كان للمسيحيين الفضل الأكبر في إنشاءها، وهي عصارة مدارسهم العريقة.

ظلت هذه المدارس مزدهرة ومثمرة بعد مجيء الإسلام، وراحت مؤلفات عباقرتها وعصارة فكرهم تغذي الأجيال اللاحقة طويلاً. فكان لها إسهام كبير في الحركة الفكرية والأدبية إلى ما بعد القرن الرابع عشر. يقول سوريال عطية في تأثير مدرسة نصيبين: "وقد تلقى بعض الدارسين العرب علومهم على أيدي بعض خريجي مدرسة نصيبين هذه، ولما كان العرب هم الذين نقلوا التراث اليوناني القديم إلى الغرب الأوربي في أواخر العصور الوسطى، فإن هذا العطاء العربي يتضمن أيضا فضل مدرسة نصيبين على الثقافة الأوربية ودوائر أوربا العلمية المختلفة".[215]

إن المقولة "علماء العرب المسلمين غيروا وجه العالم"، علاوة على ما تحمله من مبالغة وتعظيم، هي مقولة تظهر الوجه الواحد للحق وتخفي وجهه الآخر. والحق، أن شخصيات كالفارابي وابن سينا والرازي لم تكن لتلمع لولا الفكر الذي صنعها وهذبها، "فأساتذة الفارابي مثلا ثلاثة: يوحنا بن حيلان في حرّان وإبراهيم المروى في مرو، وأبو بشر متى بن يونس فيبغداد، وكلهم من النصارى".[216] ولكن يحلو للتاريخ العربي أن يبرز المسلمين ويخفي صنَّاعهم.

كان العلماء المسيحيين الذين استنيروا ببشارة الإنجيل وتثقفوا بعلوم الدنيا، لا يكتفون بالكرازة على مسامع العامة، بل يبذلون كل قواهم في تثقيف الشعوب وتهذيبهم في مسائل الفلسفة والمنطق، وكان جلهم آشوريين وسريان، هضموا ما وقع بهم من مظالم وأعطوا المجتمع بسخاء. قال فيهم جرجي زيدان: "والسريان أهل ذكاء ونشاط فكانوا كلما أطمأنت خواطرهم من مظالم الحكام وتشويش الفاتحين انصرفوا إلى الانشغال بالعلم، فأنشأوا المدارس للاهوت والفلسفة واللغة ونقلوا علوم اليونان إلى لسانهم وشرحوا بعضها ولخصوا بعضها... كان للسريان فيما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلم فيها العلوم بالسريانية واليونانية".[217] ويقول بروكلمان: "كان السريان الآراميون هم الذين استأثروا في الغالب بتعهد علوم الأوائل الدنيوية، فكانوا واسطة لتعريف العرب بالثقافة الهيلينية من المصادر الرومية".[218]

------------------------------

215 - تاريخ المسيحية الشرقية، عزيز سوريال عطية،  ص 310

216 - مضمون التراث العربي المسيحي، الأب سمير خليل اليسوعي، مجلة صديق الكاهن 1983

217 - تاريخ أداب اللغة العربية، جرجي زيدان، ج 2 ص 28 ، ايضا: عصر السريان الذهبي، الفيكونت فيليب دي طرازي، ص15

218 - تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، ج 2 ص 8

مما اشتهر من مدارس قبل الإسلام ومن بعده:

1 - مدرسة الاسكندرية:

يقال أن مبشرا صقليا اسمه بانتينوس رأسها أولا سنة 190م، ثم خلفه القديس اكليمندس، ومن بعده اوريجانوس الاسكندري. من علمائها أيضا: بمفيليوس، اوسابيوس القيصري أبي التاريخ الكنسي الشهير، ويحيى النحوي،  واسطيفان الاسكندراني، ويوحنا الأبامي، وسرجيوس الرأسعيني، وايتيوس الآمدي، وبولس الأجانيطي وغيرهم.

في النصف الثاني من القرن الرابع قلّد القديس اثناسيوس إدارة المدرسة وتعليمها إلى ديديمس الضرير، الذي برع في علوم اللاهوت والفلسفة والهندسة والرياضيات. وبعد مجيء الإسلام سخر علماءها تلك العلوم في إقامة الحضارة العربية، رغم ما آلم بهم من إحراق المسلمين لمكتبتهم بكتبها الحاوية لتراث أدبي وعلمي منقطع النظير.[219] فتذكر المصادر، أن خالد بن يزيد بن معاوية استدعى بعض علماء الإسكندرية وكلفهم بترجمة كتب العلوم اليونانية إلى العربية. [220]

2 - مدرسة أنطاكيا:

اشتهرت انطاكيا بمدرستها اللاهوتية التي جعلت تضاهي وتنافس مدرسة الإسكندرية، ويعزى تأسيس المدرسة إلى المعلم والمفسر "لوسيان"، الذي استشهد سنة 312م. ومن معلميها ومفسري الكتاب فيها اشتهر ديودورس الطرسوسي.

3 - مدرسة نصيبين:

أسسها مار يعقوب الكبير أسقف المدينة سنة 309م، وهو من المشاركين في مجمع نيقية. كان مار افرام من أبرز معلمي هذه المدرسة، التي فيها النظام أشبه بجامعة حقيقية، من حيث الاختصاصات وتنوع المعارف والمناهج، كما من ناحية التنظيم والتقيد بقوانين وضوابط وملابس خاصة وسكن للطلاب. إضافة إلى العلوم اللاهوتية والطقسية دخل ضمن موادها الدراسية، النحو والصرف والخط  والخطابة والجدل والموسيقى والألحان والهندسة والرياضيات والفلك لاحتساب التقويم والأعياد والأصوام، وكذلك التاريخ والفلسفة، الأمور التي أفادت فيما بعد في ترسيخ الترجمة وانتقال العلوم. وكان علم التفسير في مقدمة برامجها، من هنا كانت ضرورة إجراء التحليل اللغوي (علم النصوص)، وامتحان النص وضبط الترجمة، وعقد المقارنات، والنقد الأدبي.أغلقت المدرسة لمدة تجاوزت القرن بعد سيطرة الفرس على نصيبين سنة 363.

4 - مدرسة الرها:

أغلقت مدرسة نصيبين واضطر مار أفرام ومن معه من أساتذة إلى الرحيل عنها قاصدين الرها، حيث أنهضوا المدرسة التي ذاع صيتها في مجال العلوم اللاهوتية ونقل الدراسات الفلسفية الأغريقية إلى السريانية. يقول جرجي زيدان بأنها أشهر مدارس السريان، "وفيها ابتدأ السريان يشتغلون بفلسفة ارسطو في القرن الخامس للميلاد".[221]اشتهر من معلميها بعد افرام إيهيبا ومن بعده العلامة مار نرساي، وعلى عهده أغلقت المدرسة من قبل الإمبراطور زينون سنة 489 م. بسبب انتشار المذهب النسطوري فيها، فانتقل نرساي للتعليم في مدرسة نصيبين الجديدة.

5 - مدرسة جنديسابور:

بعد أن أغلقت مدرسة الرها لجأ بعض علماؤها إلى مملكة فارس فخصّص ملكها مدينة جنديسابور مكانا لإقامتهم، حيث المدرسة التي اشتهرت بفضلهم بالطب والجراحة والصيدلة وبناء البيمارستانات.[222] وفي هذه المدرسة ترجمت مؤلفات اليونان في الطب إلى السريانية ثم نقلت إلى العربية، و ينتسب للمدرسة أطباء نساطرة ويعاقبة، منهم أسرة بختيشوع، وكان جرجيس بن بختيشوع رئيسا للأطباء فيها.[223]

6 - مدرسة قطسفون أو المدائن:

هي في مقدمات المدارس السريانية في العراق، وفيها نشأ تاتيان الآشوري، وكان من أبرز قادة المسيحيين في القرن الثاني للميلاد، وهو صاحب الكتاب الشهير "الدياتسرون" أو "توافق الأناجيل الأربعة".

--------------------------------

219 - تاريخ مختصر الدول، ابن العبري، ص 176

220 - الفهرست، ابن نديم، ص 245 – 246

221 - تاريخ أداب اللغة العربية، جرجي زيدان، ج 2 ص 28

222 - بيسمارستان كلمة فارسية وتعني مستشفى

223 - المسيحية والحضارة العربية، الأب الدكتور جورج شحاته قنواتي، ص 80

7 - مدرسة رأس العين:

على ضفة نهر الخابور بين رأس العين والحسكة بالقرب من قرية المجدل. تفرّد رهبان ديرها المعروف بدير"قرقفة" بضبط حركات ألفاظ الكتاب المقدس وترنيم قراءته، وقد عرف من رأس العين سرجيس الرأسعيني سنة 536 م، المحبب إلى قبائل تغلب العربية المسيحية. كان إمام عصره في الطب والمنطق والفلسفة وهو أول النقلة من اليونانية إلى اللغة السريانية.[224]

8 - مدرسة قنسرين:

أسسها يوحنا برافتونيا في القرن السادس، وذاعت شهرتها بوصفها مركزاً هاماً للدراسات اليونانية، والعلوم اللغوية والأدبية والكتابية والمنطقية والفلسفية والطبيعية واللاهوتية. من أبرز علماءها، ساويرا سابوخت، واثناسيوس الأول، ويعقوب الرهاوي، الذي كتب الكثير في قواعد  اللغة  السريانية  واليه  تنسب  إدخال  الحركات  اليونانية الخمسة إلى السريانية، وجيورجيوس أسقف حوران المعروف بأسقف العرب، وتوما الحرقلي الذي نقل في العام 616 م العهد الجديد عن اليونانية إلى اللغة السريانية. وقد امتاز ساويرا بعلومه ومصنفاته الفلسفية والفلكية وعلى يده وصلت الأرقام الهندية إلى العربية. [225]

9 - مدرسة حرّان:

وحرّان تقع إلى الجنوب من الرها وكانت أهم مراكز السريان، إلا أن الفكر الكوني كان في مدرستها غالبا على الفكر الديني المسيحي. اشتهر من معلميها يوحنا بن حيلان، ومن تلاميذه الفارابي.[226] وينسب إلى هذه المدرسة ثابت بن قرة السرياني الصابئي. [227]

10 - مدرسة دير برصوما بملطية:

وأنجبت هذه المدرسة في القرن الثاني عشر والثالث عشر نخبة من العلماء أمثال يعقوب بن الصليبي مطران آمد، وميخائيل الكبير، والمفريان غريغوريوس ابن العبري.

--------------------------------

224 - طرازي، ص 13

225 - طرازي، ص 13

226 - تاريخ مختصر الدول، ابن العبري، ص 295 - 296

227 - الصابئة هم أتباع يوحنا المعمدان وكانوا قد هجروا من فلسطين إلى حران.

  • عدد الزيارات: 5712