Skip to main content

الفصل الأول: البذار قد بُذِر

الجزء الأول

الثمار الأولى

(القرنان الأول والثاني)

لم تكن برْبيتْوَا تدري كيف تجيب أباها. أخيراً استدارت نحوه وهي تقول: "أبي ... أترى هذا الإبريق القائم هناك؟ هل تعتقد أنه إناء صغير للماء أم هو شيء آخر؟" ألقى الرجل العجوز نظرة عاجلة على الشيء القائم في زاوية زنزانة السجن القذرة، ثم أجاب: "إنه إبريق، بحسب ما يبدو لي". عندئذ قالت بيربيتوا: "هل نستطيع أن ندعوه اسماً آخر؟" "كلا، لا نستطيع، على ما أظن". ثمًّ تابعت بيربيتوا كلامها بلطافة وهي تقول: "وأنا لا أستطيع أن أدعو نفسي بخلاف ما أنا؛ إني مسيحية يا أبي".

نشأت فيفيا بربيتوا (Vivia Perpétua) في عائلة فاضلة. قضت معظم طفولتها السعيدة على شواطئ مدينة قرطاجة الجميلة. الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط بإفريقيا الشمالية. لم تفتقر بربيتوا إلى الراحة واليسر، لأن التعليم الذي كان متوافراً لها لم يكن متوافراً لمعظم بنات عصرها. ودَّعت بربيتوا حقبة الطفولة، لتصبح الآن فتاة شابة في الثانية والعشرين، ومتزوجة. كما ودعت الفترة الآمنة المطمئنة من حياتها المبكّرة لتواجه الآن ضغوطات زعزعت حياة العائلة بأسرها. لقد ألقي القبض عليها وأودعت السجن بتهمة خطرة، ألا وهي اعترافها بأنها اعتنقت الديانة المسيحية.

هاهي الآن في سجن المدينة منذ عدة أسابيع. وقد أمل أبوها في أثناء ذلك أن يقنعها لترجع عن إيمانها، فيضمن إذ ذاك إطلاق سراحها. لكنّ الوقت كان يمر بسرعة من دون أن تظهر بربيتوا أية علامة تشير إلى الاستسلام أو التخلي عن إيمانها بالمسيح. في هذه اللحظات، سمعها العجوز وهي تقول له بأكثر صلابة وعناد، أنها مازالت عازمة على أتباع الطريق الذي رسمه المسيح، وعلى السير في إيمانها. وهكذا اندفع الأب إلى الخارج ساخطاً غاضباً.

ماذا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك؟ فهو رجل شريف محترم ومواطن قرطاجي مستقيم الأخلاق، معروف في مجتمعه ومشهور في الأوساط المحترمة. لم يتورط قط في أي مشكلة أو أي إحراج، وهو بالطبع يتعبد للآلهة نفسها التي يعبدها جيرانه. لم يتسبب قط بأي إساءة أو إهانة لأحد. ولكن، ها هو الآن يواجه الذل والخزي والعار، كل هذا بسبب ابنته العنيدة المتمردة.

حبه لابنته دفعه للذهاب إلى السجن العام باذلاً قصارى جهده لدخول تلك المسالك المظلمة والممرات الحقيرة والوسخة. لم يكن أبو بربيتوا قاسي القلب، لذلك فقد حزن على ابنته واكتأب وكان تواقاً ليمد لها يد العون، ويبعدها عن هذا المكان البغيض المفزع. عادت به الذاكرة إلى تلك الأوقات السعيدة التي كانا يقضيانها، هو وابنته خلال الأيام الحلوة الهانئة. كان مستعداً لبذل أقصى الجهود لإقناع هذه الابنة العنيدة لتكف عن حماقتها الرعناء، تلك الحماقة التي سيطرت عليها بشكل لم يستطع أن يهضمه. كتبت بربيتوا في مذكراتها تقول: "الآن،وبعد أن دنا موعد المسابقات ومباريات المصارعة بالساحة العامة، جاءني أبي ممزقاً بالمشاكل والصعاب، تارة ينتف لحيته ويرمي بنفسه أرضاً على وجهه، وتارة أخرى يلعن أيامه. أما أنا فقد حزنت حقاً على بؤس أبي وتعاسة شيخوخته".

لم تكن بربيتوا وحيدة في زنزانتها. كان معها طفلها الصبي، البالغ من العمر بضعة أسابيع. كانت بربيتوا سعيدة لوجود ابنها معها. أخذ منها في السابق، لكنها كانت تعلم علم اليقين أنه بكى كثيراً طلباً لحضانتها، فأعيد إليها. أما هذا الطفل فهو مصدر آخر لأسى الرجل العجوز. قال أبو بربيتوا: "فكري في طفلك الصغير الذي لا يقدر على أن يعيش من دون أمه؛ اتركي كبريائك جانباً ولا تدمرينا جميعاً". حزنت بربيتوا على ابنها لأنها كانت تعرف أنه لا بد أن يعيش من دونها.

تحدث بعض الأصحاب الطيبين إلى سلطات السجن فحصلوا على إذن خاص لبربيتوا لتقضي أوقات معينة من النهار في مكان منير من مبنى السجن. وهنا، وفي هذا السجن بالذات حضر أخو بربيتوا وبصحبة والدتها لزيارتها، وجلبا معهما ابنها الغالي العزيز. فكتبت بربيتوا في مذكراتها تقول: "لقد بدا لي السجن عند حضور طفلي وكأنه قصر جميل، وأحببت أن أبقى فيه مفضلة إيَّاه على أي مكان آخر". ومنذ ذلك الحين لم تدع بربيتوا طفلها يبعد عنها، فأبقته معها طوال الوقت. وكانت ترضعه من ثدييها وهي في زنزانتها الحارة المظلمة المزدحمة. وكانت تصلي لأجله حتى حين يكبر يتعرف هو أيضاً بطريق الحق ويسير فيه قدماً من غير خوف أو وجل.

ولا ننسى فيليستاس (Félicité) التي كانت معها في الزنزانة عينها، إنها الخادمة المخلصة، بل أكثر من خادمة إذ هي أختها بالمسيح وصديقة حميمة وعزيزة. كانت فيليستاس قلقة، لكن ليس بسبب الموت، بل كانت تخشى أن يتركه أصحابها. ولم تكن الإمبراطورية الرومانية تعدم النساء الحبالى، وفيليستاس كانت حبلى في شهرها الثامن. لقد سألت فيليستاس بربيتوا وأصحابها الآخرين ليرفعوا إلى الله صلاة لتلد قبل موعد المحاكمة. واستجاب الله حالاً وبدأت آلام المخاض. صرخت فيليستاس من الألم، فسخر منها أحد الحراس وقال: "إن كنت تبكين من آلام الولادة، فماذا ستفعلين حين تلقين لقمة للوحوش الكاسرة؟" أجابت: "أنا أعاني الآن ما أعاني، ولكن في ذلك اليوم، سيكون معي الله الذي سيحمل آلامي لأن معاناتي حينئذ ستكون من أجله هو". فولدت فيليستاس مولودة أنثى؛ ولكن المولودة المسكينة، أمست يتيمة بعد ثلاثة أيام فقط من ولادتها.

كان السجان يسمح لأصدقاء بربيتوا وفيليستاس بأن يزورهما في الزنزانة بين الحين والآخر. كان الظلام دامساً والمكان ضيّقاً مرعباً، وقد عانت المرأتان وحشية الحرس وقسوتهم، ومع ذلك، ففي هذا المكان المقرف، تعمدت المرأتان بالماء، كشهادة على إيمانهما، وتعمد معهما أيضاً ثلاثة أو أربعة من زملائهما. لقد صلت بربيتوا ليمنحها الله الصبر والسلوان لتحتمل كل ما هو آت عليها من عذاب وهوان.

أفرزت بربيتوا مع أصدقائها الآخرين عن بقية مسيحيي قرطاجة. كانت رغبة السلطات الحاكمة، أن تجعل من هؤلاء عبرة علنية لمن يعتبر من جمهور قرطاجة. وينتظر الآن جميع أهالي المدينة ليروا إذا كانت بربيتوا وزملاؤها سينكرون الرب المسيح ويذبحون للوثن. كان الحاكم يأمل ذلك، فهذا الأمر قد يثبط عزائم الآخرين، فيحذون حذو هؤلاء في إنكار سيدهم، وإتباع عبادة الأوثان. ولكن الحاكم أساء تقدير تصميم بربيتوا، واستخف بعزائم أصحابها القوية الصلبة. ولم يكن يعلم شيئاً عن نعمة الرب وقوته المعطاة للمؤمنين، والتي ستؤازرهم وتساندهم في ساعة محنتهم. إذا كان المطلوب أن يكونوا عبرة للآخرين، فقد قرروا أن يكونوا عبرة شريفة وأن ينجزوا ذلك الامتياز الذي منحهم إياه الله إذ يشرقون ببهاء محبة الله على المسرح الذي أعد لهم.

كان قلب بربيتوا متعلقاً بأبيها؛ وكانت ترغب في إسعاده، لكن الفارق هو أن أباها لا يعرف المسيح، أما هي فتعرفه. وقد كانت تدرك أن إنكارها للحق لا يمكن أن يساعد أباها، بل ستكون بذلك قد خدعته. عليها أن تريه طريق المسيح مهما حدث، وفي كل الظروف، وأن تصلي لكي يتعرف بهذا الطريق ويتبعه.

كان أخوها يعرف شعورها ودواخلها. وكانت ترتاح إليه، لأنه هو أيضاً اعتنق المسيحية كأمه، لقد جاء ليشاركها الصلاة في الزنزانة واقترح عليها أن تطلب إلى الله أن يكشف لهما ما الذي سيحدث. فجاء جواب الله على هيئة رؤيا. حلمت بسلم ذهبي ضيق طوله من الأرض إلى السماء، يحرسه حيوان ضار في أسفله، ومحاط من جوانبه بمختلف أنواع أسلحة القتال والحرب. كذلك رأت في هذا الحلم ساتوروس (Saturus)، وهو أحد الرجال المسيحيين الأربعة المسجونين معها. ثم شرع ساتوروس بتسلق السلم وتبعته هي أيضاً. وعندما اعتلت الدرجة الأولى من السلم داست على رأس الوحش. وعندما وصل ساتوروس إلى أعلى السلم، دعاها باسمها وهو يقول: "إنني بانتظارك يا بربيتوا". وبانضمامه إليه وجدت نفسها في مرج خصيب، حيث يجلس راع يحلب غنمه، محاطاً بأناس يلبسون الثياب البيض. دنا منها الراعي وقدم لها قطعة من الجبن. أخذت بربيتوا قطعة الجبنة بكلتا يديها، وإذا بالناس المتسربلين بالثياب البيض يصرخون "آمين". وفي هذه اللحظة استيقظت من حلمها، لكن مذاق الجبن بقي في فمها. لقد جلب هذا الحلم الجميل وغيره من الأحلام، شعوراً كبيراً من الراحة لبربيتوا وأصحابها؛ ومنحهم الجرأة والقوة والشجاعة لمجابهة مشقاتهم وانزعاجاتهم بفرح وغبطة. وهكذا استطاعوا أن يواجهوا المستقبل من دون خوف أو وجل. لقد عرفوا يقيناً أن هذه الرؤى كانت من الله، وأن الله تعالى سيحقق لهم ما جاء فيها. كذلك عرفوا أن الراعي لم يكن في الواقع إلا مخلصهم، وأن هذا الراعي الصالح سيستقبلهم قريباً في المرج الجميل الذي أراهم إياه. هناك سيتذوقون حلاوة محبة الله.

كانت تصرفات بربيتوا كانت تصرفات بربيتوا وزملائها تختلف عن تصرفات السجناء الآخرين. كان هؤلاء السجناء يسببون اضطرابات، الأمر الذي جعل حياة الحراس معهم صعبة وشاقة. أما أولئك فقد كانوا صبورين ومراعين شعور الآخرين، مملوئين اطمئناناً وإيماناً. ورد في مذكرات بربيتوا أن أحد الحراس المشرفين على السجن بدأ ينظر إليها وإلى أصحابها بعين التقدير والاحترام مدركاً أن قوة الله في داخلهم. كان اسم هذا الحارس بودنز (Pudens).

عند إعلان يوم المحاكمة، عاد والد بربيتوا مرة ثانية، فحاولت بربيتوا أن تقدم لأبيها التعزية والمواساة وهي تقول: "لتكن مشيئة الله الصالحة يا أبتاه، إذ ليس قدرنا بأيدينا وإنما بيديه الكريمتين". فأجاب أبوها قائلاً: "يا بنيتي العزيزة، ارحمي أباك وأشفقي على شيبته، فإذا كنت تكنين لوالدك الاحترام والاعتبار الكافيين، فلا تدعي الناس يسخرون بي، ولا تسببي لنا الدمار والخراب، بحيث لن يجرؤ أي منا أن يطل بوجهه أمام الناس، ولاسيما إذا حكموا عليك". ألقى أبوها بنفسه عند قدمي ابنته وبكى بمرارة ويأس متوسلاً إليها أن تعود عن هذا الطريق الحقير الرهيب الذي اختارته. وقفت بربيتوا أمام والدها بهدوء وسكينة وهي تنتظر أن يكمل حديثه. وبعد أن أكمل ما يريد قوله، تركها بقلب كسير وخرج حاملاً طفلها.

وقد كتبت بربيتوا في مذكراتها تقول: "الوقت يمر سريعاً وموعد المحاكمة بات قريباً، وفيما كنا نتناول الغداء، استعجلونا إلى السوق العام، حيث الاستجواب. بسرعة كبيرة انتشرت الأخبار في السوق وبدأ الناس يتهافتون للتجمع حولنا. اعتلينا المنصة جميعنا، واعترف زملائي بكل جرأة أنهم من المؤمنين بيسوع. ثم جاء دوري". عندئذ انسل أبوها ليكون على مقربة منها قدر المستطاع، وكان يلوح لها بطفلها فكان على مرأى من ناظريها، وصرخ قائلاً: "ارحمي طفلك يا بربيتوا". ولم يستطع القاضي أن يحتمل هذا المشهد، فألح على بربيتوا أن تنبذ إيمانها وتنسحب قبل فوات الأوان، وقال لها: "احفظي شيبة أبيك، وارحمي طفلك، وكل ما هو مطلوب منك أن تقربي تقدمة وأن تعبري عن ولائك لإمبراطورنا العظيم، وهكذا يفرج عنك فوراً". فأجابت بربيتوا: " لا أستطيع أن أفعل هذا". فسألها القاضي: "هل أنت مسيحية؟" فأجابت بعزم وثبات: "نعم إنني مسيحية".

بعد هذه الكلمات صرخ أبوها صراخاً مراً، واستمر هكذا محدثاً جلبة كبيرة حتى نفذ صبر القاضي فأمر بإبعاده. وفي أثناء إبعاده عن المشهد، انهالت عليه ضربات الحراس بهراواتهم الثقيلة. سمعت بربيتوا أصوات الهراوات وهي تنهال على أبيها، فكتبت في مذكراتها تقول: "لقد عانيت آلام الضربات التي تعرض لها أبي كما لو كانت تنهال علي. لقد عانيت بسبب شيخوخته البائسة الكئيبة". ولكن لم تستطع بربيتوا أن تتراجع عن إيمانها؛ لم تستطع أن تنكر الحقيقة؛ لم تستطع أن تخدع عائلتها؛ لم تستطع أن تنكث عهد سيدها ومخلصها. لقد صدر الحكم بإدانتها مع الآخرين وبات عليه أن تواجه الوحوش في الساحة العامة.

كان هناك محام شاب يدعى ترتوليانوس (Tertullien)، وكان يعيش في قرطاجة في ذلك الزمان. ويحتمل أن هذا الشاب كان واقفاً في الزحمة الكبيرة، وقد كان هذا الشخص هو الذي كتب إلى الحكومة الرومانية يقول: "إن دماء المسيحيين هي بذار". فإذا زرعت هذه البذار المقدسة، لا بد من أن تعطي ثمارها، وستكون هذه الثمار حصاداً مذهلاً مدهشاً.

على كل حال، نقل السجناء إلى زنزاناتهم، وبقوا هناك ينتظرون الاحتفال الكبير الذي سيقام بمناسبة عيد ميلاد أحد أبناء الإمبراطور. كان مقرراً في تلك الأثناء تنفيذ حكم الإعدام بالسجناء لتسلية أهل المدينة. وقبل موعد تنفيذ حكم الإعدام، توفي واحد من الشبان يدعى سكوندولوس (Sécundulus)، ولكن بمرور الأيام شهد السجن مشاهد استثنائية ملفتة للنظر حقاً. ذلك أن الشبان المسيحيين الخمسة، بدل أن يندبوا حظهم العاثر، كانوا يستمتعون بشعور البهجة والسرور. كما أن دماثة أخلاقهم، وإيمانهم المخلص الثابت، ترك عند المشاهدين انطباعاً عميقاً. والذين كانوا يزورونهم ليرثوا لهم، كانوا يجدونهم ممتلئين ثقة وثباتاً. والذين كانوا يأتون ليطمئنوهم ويعزوهم، كانوا يجدونهم متمتعين بأقصى الطمأنينة والسلام والثقة التي منحهم إياها الله في حينه. لقد تأثر زوارهم لدرجة أنهم صمموا بدورهم على السير وراء المخلص يسوع المسيح. كتبت بربيتوا تقول: "غادر جميع الزوار وهم مندهشون، ونتيجة لذلك آمن معظمهم. ويبدو بوضوح أن الحارس المدعو بودنز قرر أن يكون مسيحياً هو أيضاً". شاهدت بربيتوا أباها مرة أخرى قبل يومها الأخير ، ولكنها لم تر ابنها لأن جده رفض أن يحضره.

كانت العادة تقتضي أن يقام احتفال عام ليلة الإعدام لتسلية السجناء المحكوم عليهم بالموت؛ فانتهز هؤلاء الفرصة ليتناولوا وجبة طعام مشتركة، بعضهم مع بعض، وذلك تذكاراً لمخلصهم يسوع المسيح الذي عانى وتألم ومات من أجلهم. تجمهر سكان المدينة ليشاهدوهم، وقد كان بعض هؤلاء السكان متحدين معهم في الإيمان، أما بعضهم الآخر فلم يكونوا كذلك. لكن الجميع تركوهم مستغربين إيمانهم الثابت وعزيمتهم التي لا تلين.

وفي اليوم التالي، وهو الموافق اليوم السابع من شهر مارس سنة 203 م، اقتيد كل من بربيتوا وفيليستاس والشبان الثلاثة، ساتوروس وساتورنينوس (Saturninus) وريفوكاتوس (Révocatus) إلى ميدان الوحوش – وهو المدرج الشعبي العام حيث كانت تجرى المباريات والألعاب وسباق المركبات. شعرت بربيتوا وزملاؤها بالارتياح والاسترخاء، لأن الفرج قد اقترب، ولأن العذابات التي يقاسونها ستنتهي. كذلك انتابهم شعور من الفرح العظيم عندما تأملوا في ذلك الترحيب الذي سيلقونه في بيتهم السماوي. وفي أثناء مرورهم بين صفي الجند كانوا يتلقون ضربات مبرحة. وقد حاول الحرس أن يضعوا عليهم أردية وثنية احتفالية – حيث الزي لباس قرمزي وأصفر، وكأن الرجال كهنة للإله زحل (Saturne)، والنساء كأنهن مكرسات للإلهة كيريس (Cérès). فاعترضوا على ذلك بشدة مصرحين جهاراً بأنهم مسيحيون لا عبدة أوثان. وهكذا، سمح لهم في النهاية بأن يخرجوا بثيابهم الاعتيادية. شرع المحتشدون المتحمسون، مجتمعين وجالسين فوق مصاطبهم، يصخبون ويصرخون بأعلى أصواتهم، بينما كان المحكومون يسيرون بشجاعة نحو الفسحة المفتوحة في منتصف المدرج. وأخيراً غضبت الوحوش الكاسرة وصرخت من شدة الجوع، واستثارة الحراس لها، ففتحت الأبواب بسحب المهماز الذي كان يفصل الوحوش بعيداً عن المدرج. فهرعت النمور والدببة الوحشية باتجاه هؤلاء المؤمنين الخمسة، وشرعت تمزق أجساد الرجال الثلاثة بوحشية قاسية. أما بربيتوا وفيليستاس فربطتا بشبكتين وكانتا تترنمان بمزامير الفرح والإيمان بالرب. وهنا وعلى حين غرة ألقيت الشبكتان اللتان كانت مأسورتين بداخلهما أمام بقرة وحشية غاضبة، وسرعان ما أغمدت البقرة قرنيها في الأسيرتين بوحشية وحملتهما في حال تشنج وهياج، ورفعتهما برأسها إلى الوراء وقذفتهما بعيداً بعنف كبير.

سقطت بربيتوا أرضاً وقد تمزق رداؤها من جانبه. فأعادت سحبه، ولفته حولها لأنها "اهتمت ببقاء جسدها محتشماً أكثر من اهتمامها بالأذى والهوان الذين لحقا بها". ربطت بربيتوا شعرها السائب ودارت بنظرها حول المكان بحثاً عن رفيقتها فيليستاس، فوجدتها مطروحة أرضاً، فاقتربت منها وأعانتها على النهوض والوقوف على قدميها. ثم التفت إلى زملائها الذين كانوا لا يزالون يصارعون الوحوش في الساحة، وصرخت إليهم تحثهم وتشجعهم وتقوي معنوياتهم.

اقتيدت بربيتوا وفيليستاس إلى غرفة خارج الميدان وجراحهما ثخينة دامية. وعلى الرغم من جراحات بربيتوا البليغة، فقد كانت في نشوة ما بعدها نشوة ، ولم تكن لتشعر بآلامها المبرحة. سألت بربيتوا عن موعد عودة الوحوش إلى الميدان من جديد. وفي هذه الفترة القصيرة من الراحة، وبعد أن استطاعت بربيتوا أن تلتقط بعض أنفاسها، جاءها أخوها وواحد من الأصدقاء يدعى روستيكوس (Rusticus) ليفتقداها. فشجعتهما بربيتوا قائلة لهما: "أثبتوا في إيمانكم، أحبوا بعضكم بعضاً، لعل استشهادنا لا يكون سبباً للخجل لكم جميعاً". ثم نهضت بربيتوا وتوجهت إلى الميدان من جديد. وفي الوقت عينه وفي الجانب الثاني من الميدان، كان ساتوروس يتحدث إلى الحارس بودنز وهو يحثه قائلاً: "الآن يا أخي، آمن من كل قلبك ... الوداع، تذكر إيماني، ولا تجعل أموراً كهذه تقلقك، بل لتكن حافزاً لتزيد إيمانك وتقويه".

عندما شبع المحتشدون من مشاهدة ما قامت به الوحوش الكاسرة في الميدان، وأدركوا أنه مازال هناك بعض الضحايا الأحياء المجروحين، صرخوا مطالبين التعجيل بقتلهم والتخلص منهم. أما بربيتوا وزملاؤها المؤمنون، فهرعوا يعانقون بعضهم بعضاً، لأنه العناق الأخير قبل انتقالهم إلى أحضان المسيح. مشوا متعبين إلى منتصف الميدان مسيرة الشرف والكرامة وهم هادئون فرحون. وفيما هم سائرون، انهالت عليهم طعنات السيوف من رجال عينوا لهذا الغرض. أما الجلاد الذي أوكل عليه قتل بربيتوا فقد كان فتىً يافعاً، غير ذي خبرة في أعمال الإعدام. كان ينفذ مهمته من دون إتقان، إذ طعن بربيتوا طعنة غير فعَّالة. عندئذ أمسكت بربيتوا بسيفه وغرزته في صدرها بكلتا يديها. وبهذا تحررت بربيتوا من الوضع الذي كانت تعانيه وانطلقت إلى أحضان المخلص.

كانت قرطاجة تحمل صفات غريبة تلفت الأنظار. فهي عاصمة إفريقيا، أو على الأقل، تلك المقاطعة الرومانية التي كانت تحمل ذلك الاسم؛ وفي الواقع كانت إفريقيا أرضاً ضيقة تحاذي الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. وتذكرنا قرطاجة وإبَّان القرن الثالث للميلاد، من بعض وجوهها، بمدينة كورنثوس. فكلتا المدينتين كانتا ميناءين يقطنهما شعب بلا جذور، يمتهنون التجارة. ولم يكن هناك فوارق اجتماعية تذكر في كلتا المدينتين، ماعدا ما يتعلق بالغنى. كانت كل منهما تعاني ظاهرة الانحلال الخلقي التي تبرز في المدن الواقعة عند شبكة طرقات رئيسة تربط الدول بعضها ببعض. هذا لأن روادها هم من المغامرين اللذين يشعرون بأنهم بعيدون عن قيود الأصدقاء والأهل، ينغمسون في الملذات الدنيوية التي تتيحها أمامهم الديانة الوثنية. ونحن نجد في كلتا المقاطعتين أعراقاً وأجناساً خليطة من جميع أنحاء العالم – الأفارقة، والإيطاليين، فاليهود، والمصريين والغاليين. كذلك نجد طاقات عقلية أو عاطفية تظهر من خلال المشاحنات المستمرة التي تطالعنا سواء في الشارع أو الأسواق، أو على المدرجات. ومما زاد الوضع تفاقماً حرارة المناخ والذباب والحشرات والقذارة والأمراض المستشرية في الأزقة النتنة المزدحمة. تعتز مدينة قرطاجة بنفسها وتزهو بكيانها وتفتخر، مع أنها فقدت عظمتها السابقة. فهي تحت حكم روما قسراً؛ ومن جهة أخرى، قد يبدو أنها تسيطر على المناطق المحيطة بها بالإضافة إلى القبائل الداخلية، لكنها في الواقع تفقد تلك السيطرة. وقد يبدو أيضاً أن مواطنيها متحدون في تعبدهم للآلهة القديمة، ولكنهم كانوا ممزقين داخلياً يشككون في مصداقية تلك الآلهة.

إن شعب قرطاجة، وجدوا في وسطهم رجالاً ونساءً يتميزون بطابع الغرابة: تخالهم عائلة، لكنهم لا يرتبطون بروابط الدم. وتظن أنهم دين، إنما في الواقع بلا آلهة منظورة. كذلك يبدو أنهم من عرق واحد، ولكن بالحقيقة متحدرون من دول متعددة. الغني والفقير، الكهل والشاب، المتعلم والأميُّ، وهم منن الأفارقة أو الإيطاليين أو اليهود، من دون تمييز. لهم جميعاً دماثة خلق مؤثرة، ولهم أيضاً جاذبية أخاذة عجيبة. لا تجدهم يتشاحنون، أو يغشون، ولا يسكرون، ولا يشاركون في طقوس العربدة، أو الاحتفالات الفاسدة التي كان جيرانهم يحتفلون بها. ولم يرهم أحد يشاركون في المسرحيات العامة، ولم يعرف عنهم قط أنهم دخلوا إلى معابد المدينة التي كان يرودها كل السكان. ففي الواقع، كانت هذه الجماعة الغامضة لغزاً من الألغاز وسراً من الأسرار. كانوا يعيشون في قرطاجة، ولكنهم لم يشاؤوا يوماً، أن يكونوا جزءاً من هذه المدينة أو من شعبها. بل على العكس، كانوا يجتمعون سراً، وفي الخفاء – جماعات صغيرة هنا وهناك – لا يعرف أحد ماذا يجري وراء أبوابهم المقفلة، من أمور وأمور.

ومع ذلك، فقد كان أولئك القوم من أفضل الناس وأحسنهم. فإذا اتفق أن تعرفت بواحد من هذه الجماعة ترى أنك تنساق انسياقاً لتثق به وتطمئن إليه. وإذا طلبت إليهم أن يحدثوك عما يؤمنون به، يجيبونك بلطف، أنهم يؤمنون بشخص أتى إلى هذه الدنيا، ليس منذ وقت طويل، وذلك ليعين البشرية، فرفضه هؤلاء الذين جاء لكي يعينهم؛ وأخيراً، نفذ فيه حكم الموت، لكن موته لم يكن نهاية المطاف. لأنك لو صدقت روايتهم وما يقولونه لك، فهذا الرجل الذي مات قام من القبر في اليوم الثالث. قام بطريقة عجيبة وهو لا يزال حياً بصحبة أتباعه، ومعهم حيثما ذهبوا أينما وطئت أقدامهم.

وبالتأكيد، فأن هذه الرواية هي رواية جميلة، والإيمان بها لا يؤذي أحداً، وقد تكون صحيحة. ولكن لم تكن الإمبراطورية الرومانية تعنى كثيراً بالجمال أو بالحق. لقد كان الدين عند أولئك الرومان مفيداً، لكنه مفيد إذا ما استعمل كأداة للتسلط على الناس واستغلالهم. فحتى ذلك الوقت، كان استغلال الدين قد أعطى نتائج حسنة، وكان مفعوله جيداً، شريطة أن يخلص الناس لدين واحد، ويقدموا له الولاء المطلوب فيشارك جميع الناس بعبادة واحدة عامة موحدة. أزعج السلطات الرومانية أن تجد في قلب العاصمة الإفريقية أناساً يزدادون باطّراد، ويرفضون قبول العبادة الشعبية العامة، ويمتنعون عن تقريب التقدمات التي تكرم الإمبراطور. كما شعرت السلطات أن من شأن هذه الظاهرة أن تهدد بنية المجتمع والحضارة التي يسهر عليها الإمبراطور. لذا ارتأوا أن تخمد هذه الحركة وتقمع وهي بعد في مهدها قبل أن يستفحل أمرها وتنتشر. وفي هذا الوقت أصبحت الحكومة الرومانية قلقة ومتوترة بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة والتي جعلت الناس يتذمرون في جميع أنحاء الإمبراطورية. بدأ التململ يتنامى بين سكان قرطاجة، وبدأ صبرهم ينفذ بسبب حكامهم الرومان. لقد أصبح الشعب بحاجة إلى مزيد من مهرجانات اللهو والتسلية. وصلت السلطات الرومانية إلى الحل المنشود، حين طلب مروضو الوحوش الكاسرة مزيداً من الضحايا لإطعام وحوشهم الجائعة، على المدرجات. فإن هؤلاء المسيحيين سيفون بالغرض.

بعد مصرع بربيتوا وأصحابها بقي جمهور المؤمنين بمشاعر متضاربة – يسرهم أن معاناة أحبائهم قد انتهت، لكنهم يحزنون لفراقهم؛ اطمئنان إلى أنهم من الشهداء الذين رحبت بهم السماء، وهم الآن في مكان أفضل حيث استقبلهم الراعي الصالح الذي تراءى لبربيتوا، وقلق على مصير المؤمنين الباقين. رفع الأخوة الجثث الخمس المطروحة على أرض الملعب، ودفنوها بكل محبة. كذلك نصبوا لوحة تذكارية لإحياء ذكرى هؤلاء الشهداء الشجعان، الذين وقفوا وقفة مشرفة. وكان المؤمنون يحتفلون سنوياً بذكرى استشهاد هؤلاء الأبطال، فيستمدون من ذلك القوة؛ لاسيما أن هؤلاء كانوا نماذج حية للشجاعة والاستشهاد. قامت إحدى النسوة المؤمنات من الجماعة المسيحية بتبني طفلة فيليستاس وتربيتها مع أطفالها. وعندما شبت هذه الطفلة تعرفت بحقيقة والدتها وبإيمانها بالمسيح الذي لم تنكره حتى الاستشهاد. كذلك عرفت هذه الابنة الشابة أنها تستطيع أن ترى والدتها يوماً ما وستتعرف بها، مع أنها لم تعرفها في الحياة الدنيا. هناك في السماء ستبقى معها، حيث لن يكون دموع أو أحزان، أو فراق بين الأحبة. أما ابن بربيتوا، فلا نعلم ماذا حصل له، لكن ربما عاش مع جده كوثني، وربما بقي مع خاله واعتنق المسيحية.

كذلك لا نعرف شيئاً مؤكداً عن زوج بربيتوا. فمن الممكن ألا يكون له مكان في هذه القصة، لأنه قد تكون بربيتوا قد تزوجته رغماً عن إرادتها وهو لا يأبه إلا قليلاً لزوجته ولإيمانها. وهكذا قد يكون تخلى عنها في ساعة محنتها وحاجتها إليه. ثمة احتمال آخر، وهو أن يكون هذا الزوج من الذين سجنوا أيضاً معها. فعند سماع ساتوروس بإلقاء القبض على بربيتوا، نرى أنه قد أسلم نفسه طوعاً إلى السلطات الحاكمة. وفي الرؤيا، رأت بربيتوا ساتوروس ينتظرها في رأس السلم ليدخلا معاً إلى الجنة وهي بصحبته وإلى جانبه. ولم يكن هذان المؤمنان ليفترقا أبداً. لذلك، فالاحتمال هو أن يكون ساتوروس زوجها. فالمسيحي الذي يمكنه أن يحظى بحب امرأة عظيمة كبربيتوا، لا يمكن أن يكون من الذين يخافون الخطر ويهربون منه. فلا بد لمثل هذا الإنسان أن يعلن إيمانه ويعيش هذا الإيمان، وأن يموت في سبيله شهيداً إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك. فمثل هذا البطل لا بد أن يقف بجانب زوجته، في المدرج الروماني، أو في الجبال، أو في الصحاري، أو بعيداً داخل الوطن، وفي كل الظروف والأحوال. كان هناك الكثير من مثل هؤلاء الرجال الأشداء في إفريقيا الشمالية إبان تلك الحقبة من الزمن.

أما فيما يتعلق بالإمبراطورية الرومانية فقد أدت سياستها العقيمة المشهورة إلى نتائج عكسية ظهرت واضحة أمام الملإ جميعاً: قبل المسيحي المؤمن هذا التحدي الكبير، وهكذا ربح المعركة. والآن عرف أهل قرطاجة أن المسيحيين لا يهابون الموت وأن استعمال القوة معهم لا يجدي نفعاً. لقد ثبت ستة أبطال من الرجال والنساء بإيمان راسخ بقوة مسيحهم ومخلصهم، ولم يرضخوا في يوم من الأيام للتهديد والقسوة ولا خضعوا للطغيان الروماني. وهكذا نجد الناس يتحدثون في كل مكان عما رأوه وسمعوه متسائلين: ماذا تعني هذه الظاهرة؟ ما هو هذا التعليم الذي يستحق أن يموت الناس لأجله؟ لقد ظهر بوضوح لأولئك المتسائلين، أن هذا التعليم الجديد يمنح قوة غير مألوفة تستطيع أن تنزع من قلب المؤمن كل خوف من الموت. كما أنه يملأ معتنقيه فرحاً – فرحاً يصعب التعبير عنه ويقيناً غير محدود يصعب تفسيره. لكن ماذا يلي ذلك؟ كانت المدينة الإفريقية العظيمة تنتظر بترقب، متسائلة ما هو جوهر هذا الإيمان المسيحي الذي لا نظير له.

ملاحظة: هذه قصة واقعية أخذت تفاصيلها من وثائق كتبت في زمن وقوع الأحداث. من الممكن الحصول على ترجمة إنكليزية للقصة المعاصرة في:

ed. Roberts & Donaldson The Ante-Nicene Fathers Series Vol. III pp. 697-706.

  • عدد الزيارات: 3480