Skip to main content

الفصل الثامن: الكتابات الروحية

إن كبار المفكرين المسيحيين في القرون الأربعة الأولى للميلاد اهتموا بتعريف عقائد الإيمان وانهمكوا في الدفاع عنها. فقد شغلتهم الأسئلة التالية: هل كان المسيح إنساناً مثلنا؟ أو هل كان ملاكاً؟ أو أنه كان يختلف عنا في جملته – كأن يكون ليس بإنسان ولا بملاك؟ هل كان المسيح موجوداً منذ الأزل؟ أو هل وجد عندما حبلت به العذراء؟ هل جرب المسيح حقاً، كما نجرب نحن، حيث كان بإمكانه أن يخطئ؟ أو كان مستحيلاً عليه أن يخطئ، وبالتالي فإنه لم يتعرض للإغراءات الحقيقية؟

بحث المسيحيون الأوائل في إيجاد أجوبة عن هذه التساؤلات من خلال العهد القديم، ومن مضامين ما كتبه الرسل، واستناداً إلى ما قاله الرب يسوع نفسه. وقد استنتجوا أحياناً استنتاجات شخصية مستندة إلى ما بدا لهم أنه منطقي وعقلاني. ولكنهم في النهاية، كانوا يعودون دائماً إلى ما يشير إليه العهد القديم، وإلى ما كتبه المسيحيون الأولون باعتبار أن هذه الكتابات موحى بها من الله. وإذا ما ظهر أي التباس، فيمكنهم معالجته بالرجوع إلى أقوال الرب يسوع، أو إلى أقوال لبولس أو بطرس أو غيرهما من الرسل الآخرين.

بانتهاء القرن الأول للميلاد، كانت جميع كتب العهد الجديد قد أكملت، ولكن هذه الكتب، كان يتم تداولها بين الكنائس على شكل وثائق متفرقة. فيمكن مثلاً أن تملك إحدى الكنائس إنجيل متى، بينما يكون إنجيل يوحنا في حوزة كنيسة أخرى. أما كنيسة ثالثة فقد يكون عندها أربع رسائل لبولس أو خمس. ومن الممكن أن نجد في مكان آخر رسالة بطرس الأولى أو سفر الرؤيا. إلى هذا، فقد وضعت كتابات مسيحية أخرى باتت مشهورة في الأوساط الشعبية، الأمر الذي حتم على قادة الكنيسة أن يقرروا أياً من هذه الكتابات هو صادر عن الرسل أنفسهم. أو أي منها يمكن اعتباره له سلطة، وملهماً بوحي من الله إلى خدامه المختارين، أو أي الكتب يعتبر من عمل إنسان أصدره، ربما، عن حسن نية؟ وفي بداية العام 180 ميلادي، ظهر بين المسيحيين شبه إجماع في الرأي حول الكتب التي يمكن اعتبارها قانونية ومعترفاً بها. وفي مدينة بونتوس (Pontus) التي تقع في أقصى الشمال الشرقي من الدولة التركية الحالية، صاغ ماركيون (Marcion) في عام 140 ميلادي قائمة قصيرة بالكتب المقبولة لديه، ولكن نظرية ماركيون هذه جنحت نحو الأفكار الصوفية الخاصة بالغنوسطية، ومال إلى رفض تلك الكتب التي لا تدعم آراءه. على أن كتاباً آخرين، من الرعيل الأول، وافقوا على الكتب المقبولة ماركيون، مضيفين إليها كتباً أخرى، واعتادوا أن يستعملوها في كنائسهم. وفي الغرب، كان إنجيل يوحنا أقل شعبية من الأناجيل الأخرى التي أصدرها باقي البشيرين: متى ومرقس ولوقا، والتي تدعى الأناجيل السينوبتية. وهناك أيضاً، لم تقبل الرسالة إلى العبرانيين إلا ببطء. أما في الشرق، من الناحية الأخرى، فلم يعترف بسفر الرؤيا بادئ ذي بدء.

في مستهل القرن الثالث للميلاد، ألمح ترتوليانوس إلى كل واحد من الأناجيل الأربعة عندما كان يصف حياة المسيح. أما في أواسط القرن الثالث، فقد أصبحت جميع الأسفار التي تؤلف العهد الجديد الذي عندنا اليوم، معترفاً بأصالتها وسلطتها. على أن رسالة أثناسيوس (Athanase)، ناظر كنيسة الإسكندرية، والتي كتبت في سنة 367 م، تعتبر عموماً، أنها الأولى التي تعرف بلائحة أسفار العهد الجديد القانونية، والتي تحتوي على سبعة وعشرين سفراً نستعملها حتى يومنا هذا. وبعد ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ، حدد المؤتمر الذي انعقد في قرطاجة، جميع الأسفار القانونية في العهد الجديد، وهي التي أصبحت منذ ذلك الحين الكتب المعتمدة في جميع أنحاء العالم.

ومن الطبيعي، أن قبول هذه الكتب، يعني رفض غيرها من الكتب، تلك الكتب التي ندعوها اليوم "الأسفار الأبوكريفية" (Apocryphe). فإن كتابات الأبوكريفا تتحدث عن خوارق شاذة وغريبة، وواضح أنه تختلف عن الروايات المنضبطة والرزينة التي جاءت في الأناجيل وأعمال الرسل. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان لهذه الكتب شعبية واسعة بين أولئك الذين يستمتعون بالأوهام والتخيلات، ولم يعطوا اعتباراً وتحفظاً للتعليم الذي رافق هذه الكتب والأسفار. وتزعم بعض هذه الكتب أن كاتبيها كانوا الرسل عينهم، ولكن بعد التقصي الدقيق تبين أن هذه الكتب تحتوي على تعليم يتعارض مع المستندات والوثائق التي كان، ولا شك، قد خلفها ورائهم هؤلاء الرسل. فهناك مثلاً إنجيل بطرس المزور، الذي يحتوي على تعاليم وعقائد لا يمكن أن يكون بطرس قد علمها. وهناك ما يدعى "رسالة برنابا"، التي من الممكن أن تكون قد ألفت وجمعت في القرن الثاني للميلاد (1). أما الكتاب الأكثر شهرة ، فهو ذلك المدعو "ديداكي" (Didache)، أي "تعليم الرسل الثني عشر"، ولربما كتب نحو عام 100 للميلاد. وقد أشار أثناسيوس في القرن الرابع إلى كتابات الأبوكريفا هذه بالقول إنها "الكتب التي لا تحمل أية سلطة، ولكنها عينت من المسيحيين الأولين لتقرأ على أولئك الذين آمنوا حديثاً" (2). إن القصة المجازية المسماة "راعي هرماس" (Le Berger d'Hermas) انتشرت بشكل واسع في إفريقيا الشمالية، وهناك رسالة أخرى بعنوان رسالة إقلمندوس (L'Epître de Clément)، وعدد من النصوص الأخرى كتلك الروايات التي تدَّعي التحدث عن طفولة المسيح والرحلات التي قام بها بطرس وبولس والرسل الآخرون. لقد ادعى بعض الأشخاص أو الكنائس خلال القرون الأربعة الأولى للميلاد، يجب أن يعترف بقانونية هذه الأسفار والرسائل الآنفة الذكر، وحاولوا إنزالها إلى جانب الأناجيل والرسائل التي تكون كتاب العهد الجديد اليوم، ولكن أغلب الكنائس أجمعت على رفضها. هذا لأن قراءة دقيقة فاحصة للأبوكريفا، تظهر، في كل حال، عيوباً في تعاليمها ومبادئها، وهي تفتقر إلى الضبط والتوازن الذين يميزان الكتب المعترف بها من الكنيسة، والمعتمدة منذ ذلك الحين على أنها تشكل كلمة الله الموحى بها وذات السلطة.

لقد صانت الكنائس الأولى كتب العهد الجديد باحترام وإجلال شديدين. وكان قادتها يرجعون مراراً إلى هذه الكتب عند الوعظ والتعليم، كما أن علماء اللاهوت عندهم كانوا يستشهدون بها بشكل ثابت عند تقديم الحقائق العظمى للإيمان وتوضيحها. فترتوليانوس مثلاً، بنى فهمه للثالوث الأقدس، بشكل كامل، على شهادة كتابات هؤلاء الرسل. وقال: "كل الكتاب المقدس يبرهن بوضوح وجود الثالوث الأقدس" (3). آمن المسيحيون الأوائل بأن هذه الوثائق هي من وحي الله تعالى، كأسفار موسى وكتب الأنبياء والأعمال الشعرية التي في العهد القديم: "تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (4). وشعروا بالحاجة إلى تفتيش الكتاب المقدس، للوثوق بوعود الله المعلنة على صفحاته ولتطبيق مبادئه في حياتهم اليومية. وعن هذا أيضاً، أجاب ترتوليانوس مرة أخرى بالقول: "نحن ملزمون في إنعاش ذاكرتنا بكتاباتنا المقدسة، وذلك لنستطيع أن نرى ما إذا كان أي من أمورنا الحاضرة يحتاج إلى تحذير أو إعادة نظر. وفي كل الحالات، نحن نغذي إيماننا بهذه الأقوال المقدسة؛ إننا نبعث رجاءنا، ونؤسس ثقتنا، وفي الوقت نفسه نحن نقوي تهذيبنا وانضباطنا بالانتباه الثابت إلى الوصايا" (5).

كان المسيحيون الأوائل ملمين إلماماً تاماً، ليس فقط بالعهد الجديد، بل بالعهد القديم أيضاً. فمعظمهم لا يعرفون القراءة باللغة العبرانية الأصلية. والنسخة الواسعة الانتشار والاستعمال خلال القرون الأربعة الأولى، كانت الترجمة إلى اليونانية، والتي عرفت بالترجمة السبعينية (Septante)، ويرمز إليها أحياناً بالأحرف اللاتينية المختصرة LXX. لقد تولى سبعون أو اثنان وسبعون من جهاز العلماء اليهود في مدينة الإسكندرية العمل الترجمي من العبرانية إلى اليونانية، وذلك في حدود السنة 200 قبل الميلاد. فانفرد كل من هؤلاء المترجمين في حجرة مغلقة، كما تذكر القصة، فجاءت تراجمهم متطابقة بشكل أعجوبي رائع. والجدير ذكره أن ترتوليانوس وأغسطينوس لم يعيرا هذه الأسطورة الشعبية اهتماماً كبيراً، ولكنهما مع ذلك كانا يقدران هذه الترجمة.

أبدى المسيحيون الأوائل احتراماً كبيراً للترجمة السبعينية، خصوصاً في ضوء الادعاءات عن أصلها المعجزي. وكانوا يعتمدون على هذه الترجمة في مباحثاتهم ومناظراتهم مع اليهود. إلا أن بعض المسائل العقائدية المستمدة من السبعينية، كانت مع الأسف تستند إلى ترجمة مغلوطة للآيات موضوع الجدل. ولم يتم التخلي عن هذه العقائد إلا بعد أن اكتملت التراجم التي أجريت فيما بعد، مثل ترجمة جيروم اللاتينية المعروفة بـ"الفلغاتة" (Vulgate).

لم يوضع علم اللاهوت للكنيسة الأولى بشكل نظامي في البداية. فمثله مثل لائحة الأسفار القانونية في العهد الجديد، وأنجز قطعة قطعة، تجاوباً مع الاحتياجات الجارية، أو استجابة لما يطرأ من تساؤلات خاصة. لقد وضعت معظم الكتابات اللاهوتية ككتب يوستينوس (Justin) وإيرينايوس (Irénée) وترتوليانوس وأوريجانوس جواباً عن تحديات أوردها النقاد، أو بعض المسيحيين الذين كانت آراؤهم وتعاليمهم غير نقية. ففي الواقع، إن أولئك المقاومين يستحقون شكرنا، لأنه لولا تهجمهم ذاك، لما حمل أصحاب تلك العقول الملهمة المعاصرة على الغوص في تفسير أدق المسائل المرتبطة بالنصوص الكتابية الموحى بها. إن هذه التساؤلات الأساسية نفسها تثار من جيل إلى جيل، والأجوبة التي قدمها لها ترتوليانوس وغيره منذ أكثر من 1600 سنة، لاتزال في أحيان كثيرة بالأهمية عينها التي كانت لها وقتئذ.

ففي إحدى المناسبات، سأل بعض الذين دأبهم الحط من قدر الإيمان: لماذا سمح الله أن يقع الإنسان في الخطيئة؟ لماذا لم يحم الله الإنسان من الإغراء، أو يعطه، على الأقل، القوة لتخطي الإغراء؟ لقد احتجوا قائلين إنه عندما سمح الله لآدم بأن يقع في الخطيئة، لابد من أن الخالق كان يفتقر إما إلى الصلاح وإما إلى المعرفة المسبقة وإما إلى القدرة. وكان قصدهم في الواقع، أنه لو أن الله موجود حقاً، لوقعت الملامة عليه بالنسبة إلى الشر الموجود في العالم، أو ربما ألمحوا بشكل مبطن إلى أن الله غير موجود على الإطلاق.

حمل ترتوليانوس بعنف على هؤلاء النفاد وذلك بأسلوبه المؤثر المعتاد. قال: "والآن، جواباً عن تساؤلاتكم أيها الكلاب الذين طردهم بولس الرسول وأخرجهم خارج الأبواب (6)، أنتم يا من تنبحون على الله، إله الحق. هذه هي الأسئلة التي ما فتئتم تقضمونها باستمرار كما تقضم الكلاب العظام: "فإذا كان الله صالحاً ويعلم الأشياء مسبقاً، وله القدرة على ردع الشر، فلماذا يسمح للناس إذاً، بأن يخدعهم إبليس، ويسقطوا من الطاعة لقوانينه تعالى لكي يموتوا ... ؟ فإذا كان الله صالحاً، فهو لن يرغب في حدوث شيء كهذا، وإذا كان يعلم الأمور مسبقاً، فإنه لن يكون غافلاً عما سيحدث؛ وإذا كان قوياً، فإن باستطاعته الحؤول دون حصوله. وفي كل حالة أو وضع يتوجب أن يتطابق مع هذه الصفات الثلاث للجلال الإلهي"." (7).

وبعد أن أثار هذه التساؤلات، شرع ترتوليانوس في الإعداد للإجابة عنها. وقد اتبع في ذلك مثال المسيح، مشيراً إلى أن صلاح الله، ومعرفته الكلية، وقدرته المطلقة، ظاهرة بوضوح، من خلال أعماله في الخلق، وكذلك في إرساله الأنبياء الذين تنبئوا بدقة عما سيحدث في المستقبل. وأخيراً اقترح ترتوليانوس ألا يصار إلى البحث عن الشر في طبيعة الله، بل في طبيعة الإنسان؛ وأضاف قائلاً: "أجد أن الله خلق الإنسان مخلوقاً حراً وأعطاه إمكانية الاختيار. وهذا بالذات، يظهر لي شبه الله وصورته التي أوجدها في الإنسان إذ قد ميزه تعالى بالحرية وبإمكانية الاختيار. ثم يأتي الناموس نفسه الذي أسسه الله ليثبت واقع حال الإنسان هذا. فالناموس لا يعطى إلا لذاك الذي يمتلك القوة لاختيار الطاعة التي يطلبها الناموس ... إذاً، منح الإنسان الحرية الكاملة ليختار بين الصالح والطالح، ليكون بذلك سيد نفسه باستمرار، ملتصقاً بالخير طوعاً، ونابذاً كذلك للشر. لأن حكم الله على الإنسان (وهو على كل حال تحت هذا الحكم باستمرار)، من الضروري أن يكون عادلاً، وناتجاً من اختيار الإنسان الحر. وإلا، فإذا كان الله يدفع الناس عنوة ليكونوا صالحين أو طالحين، فلن تكون هناك عدالة في إدانتهم للشر أو الخير الذي يفعلونه بالاضطرار لا بالاختيار" (8).

قال ترتوليانوس إنه كان بإمكان الله أن يلزم الإنسان بطاعته طاعة دائمة، لكن مثل هذه الطاعة تمثل العبودية أكثر من تمثيلها لحب الإنسان لربه. إن الصلاح الحقيقي هو سجية علينا أن نقبلها طوعاً، وبشكل حر. فالإنسان غير مرغم أبداً على العيش حياة القداسة أو الشر. فبإمكانه، باختياره الشخصي، أن يلتصق بالخير ويقاوم الشر، وبهذا يصبح على شبه الله نفسه. ولكن إذا كان الإنسان حراً في اختياره الخير، فهو حر أيضاً في اختيار الشر: وهذا ما يفعله أحياناً. إن سقوط الإنسان، والشر الذي في العالم، هما النتيجة الحتمية للإرادة الحرة التي منحها له الله. وحتى في هذه الحال، يبقى الأمر أفضل من إلزام الإنسان بطاعة قسرية لله، تظهر قوته تعالى، ولكنها في الوقت عينه، تجعل الإنسان عبداً. إن الله، بمنحه هذه الحرية للبشر، أظهر بذلك بصيرته وحكمته وصلاحه، ولم يتنكر لها.

لم يكن ترتوليانوس صبوراً على أولئك الذين وجدوا لذة في السخرية من حكمة الله. لقد أعلن الله عن ذاته كما هو في الحقيقة: ديان وفاد . قال ترتوليانوس: "أنت تدعوه قاضياً، ومع ذلك فإنك تسخر من قسوة القاضي الذي يتعامل مع كل قضية كما تستوجب أو تستحق تماماً. أنت تطلب إلهاً مطلق الصلاح، وبعد ذلك، عندما يظهر الله وداعته ولطفه من خلال تنازله، ليتلاءم مع قدرات الإنسان الفقيرة المحدودة، تنتقص من قدره تعالى متهماً إياه بالضعف. فلا الإله العظيم يسرك ولا الإله الوديع، لا الإله القاضي ولا الصديق" (9). ولكن الكثير الانتقاد لا يبدي في الواقع أي رغبة في قبول شيء، فهو يفرح بالسؤال أكثر من فرحه بالحصول على الجواب الشافي، ونادراً ما يأبه لاكتشاف الحقيقة.

لم تكن وقائع حياة المسيح وموته وقيامته موضع نقاش أو جدل خلال القرنين الأول والثاني للميلاد، لأنها كانت من المسلمات بالنسبة إلى اليهود والأمم على السواء. فالاهتمام كان بالحري منصباً على طبيعة المسيح نفسه. هل كان المسيح إنساناً عادياً مسحه الله بقوة خاصة؟ أو هل كان ملاكاً وذا جسد شبه بشري؟ هل كان المسيح كائناً خاصاً، خلقه الله ولكنه ميزه عن كل الملائكة والناس؟ لقد تشعبت نظريات عديدة من تلك الأفكار التي تعرف اليوم بالبدعة الغنوسطية. كانت المذاهب الغنوسطية متأثرة جداً بالفكر اليوناني، وكان أنصارها يدعون أن لهم إدراكاً أعمق للحقائق مما لغيرهم من أبناء جيلهم، وذلك بسبب اطلاعهم، ومعرفتهم الواسعة بأسرار الفلسفة، وعلم الأساطير أو علم التنجيم. وقد فسروا الكتاب المقدس، وكل الأشياء الأخرى، في ضوء معرفتهم الخاصة هذه. كانوا يعتبرون المادة بجملتها شراً، ولم يستطيعوا أن يتصوروا ابن الله القدوس آخذاً جسداً بشرياً. فقالوا فيه أنه ينبغي أن يكون إما ملاكاً وإما روحاً.

يقبل ترتوليانوس التحدي: "لم يهبط ملاك من السماء قط ليصلب ويختبر الموت، ثم القيامة من الأموات ... لم يأت الملائكة ليموتوا، لذا لم يأتوا ليولدوا أيضاً. ولكن المسيح أرسل ليموت، لذا كان من الضروري أن يولد حتى يتمكن من أن يموت" (10). لقد أصبح إنساناً حقيقياً من لحم ودم كما نحن.

وفي منا سبة أخرى، يرد ترتوليانوس على أولئك المعترضين، مبدداً الأفكار التي تقول إن الجسد البشري الفاسد، وبالتالي غير لائق بابن الله. "دعوني الآن أكمل قصدي إذ أبذل قصارى جهدي لإظهار كل ما منح الله الجسد عند خلقه". فعندما خلق الله آدم من طين الأرض، كان بإمكان آدم "أن يفتخر بأن هذا الطين الحقير قد وجد في يديه تعالى ... وقد سرته هذه اللمسة بما فيه الكفاية" (11). ولكن الله لم يفكر في آدم وحده عندما خلقه بجسمه هذا، وإنما فكر أيضاً في ابن الله الذي سيحصل أخيراً على الشكل نفسه والهيئة نفسها. "فلنفكر في الله وهو منشغل ومنهمك تماماً في عمل الإنسان، فيده تعمل مع مشاعره، ونشاطه، وتدبره وعلمه المسبق، وحكمته وعنايته، وفوق هذا كله تلك المحبة التي كانت ترسم الخطوط والمعالم في الكائن البشري. لأنه بينما كان الله يقولب كل جزء من الإنسان من الطين، كان المسيح في فكره تعالى، باعتباره ذاك الإنسان الذي سيكون في الزمان الآتي. لأن كلمة الله سيصير طيناً وجسداً ... بعض الأشياء لها الامتياز بأن تكون أشرف وأنبل من أصلها ... فالذهب لم يكن سوى تراب قبل أن نستخرجه من الأرض، ولكن بعد تصفيته يتحول إلى ذهب صلب جامد، ويصبح مادة مختلفة تماماً عما كانت عليه قبلاً، إذ يكون أكثر إشراقاً وروعة، ويكون أكثر قيمة مما كان عليه في مصدره الوضيع الذي انبثق منه" (12). إن المسيح هو من طينة آدم وجبلته، بيد أن مجده هو أعظم بما لا يقاس.

إذاً، ليس من السخافة في شيء أن يكون المسيح إلهاً وإنساناً في آن، فهو يمتلك روحاً إلهياً وجسداً بشرياً. يضيف ترتوليانوس قائلاً: "فتعلم إذاً مع نيقوديموس كيف أن المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (13). فالجسد لا يصبح روحاً ولا الروح جسداً، ولكن يمكن لكليهما أن يوجدا في شخص واحد. كان يسوع يتكون من جسد وروح – من جسد كإنسان، ومن روح بصفته الله. لقد دعاه الملاك "ابن الله"، وذلك بما أنه روح، مستبقياً للجسد اللقب "ابن الإنسان". وعليه فقد أيد الرسول بولس أن للمسيح طبيعتين عندما قال عنه: إنه "الوسيط بين الله والإنسان"." (14).

حار الغنوسطيون بفكرة الثالوث الأقدس، ووجدوا صعوبة في إدراك كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله نفسه، مع أنه يختلف عن الله. لقد علموا أن المسيح هو كائن خاص، ولكن لا يجوز في نظرهم اعتباره مساوياً لله. أعطى ترتوليانوس قدراً كبيراً من التفكير في هذا الأمر. ويبدأ باستعراض ما نعرفه بوضوح عن الله نفسه بالقول: "قبل أن توجد الأشياء كلها، كان الله وحده. كان هو نفسه الكون الخاص به، والمكان الخاص به؛ كان الله كل شيء. كان وحيداً، بمعنى أنه لم يكن هناك شيء خارجاً عنه. ومع ذلك، لم يكن الله وحده، حيث كان معه ما هو جزء منه؛ لقد كان معه ذهنه. فالله هو عاقل والذهن موجود معه منذ الأزل، ومنه انتشر إلى كل الأشياء. وهذا الذهن هو وعيه الشخصي لذاته. واليونانيون يدعونه اللوغوس (Logos)، والذي هو المصطلح الذي نستعمله للخطاب. وهذا ما يترجمه شعبنا حرفياً بالقول: "في البدء كان الخطاب عند الله"." (15). وهنا بالطبع، يشير ترتوليانوس إلى افتتاحية إنجيل يوحنا حيث أن "الكلمة" (بمعنى الذهن والعقل والخطاب) يمثل المسيح. "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (16).

وأردف ترتوليانوس يقول إن هذا الكلام لا يصعب فهمه كما قد يعتقد أحدنا. "ولكي تفهم ذلك بسهولة أكبر، لاحظ أولاً نفسك (حيث أنت "صورة الله وشبهه" (17)) بأنه عندك أنت أيضاً ذهن، وذلك لكونك مخلوقاً عاقلاً ... لاحظ كيف أنه عندما تأخذ في مناقشة نفسك بصمت، وفي تشغيل ذهنك، فإن هذا الأمر نفسه يحصل فيك، حيث أن الكلام يعبر عندك عن الذهن، وذلك في كل لحظة من لحظات التفكير، وفي كل نشاط للوعي والشعور. فكل فكر تفكره يعبر عنه بحديث وكلام، وكل لحظة من لحظات الوعي تعبر عن نفسها من خلال التفكير ... وعليه، فالحديث الذي يدور في داخلك مميز، بمعنى من المعاني، عن ذاتك" (18).

يفكر الله بالطريقة نفسها التي يفكر فيها الإنسان، حيث أن الإنسان صنع على صورة الله ولكن مع الفارق التالي: أفكار الله لها القدرة اللامتناهية لتصبح حقيقة. بإمكان الإنسان أن يفكر في أمور عظيمة ولكن ليس له القدرة على أن يحقق كل ما يتصوره. الله بالمقابل، لا يحتاج إلا إلى أن يفكر في شيء، فيقدر على أن يخلق هذا الشيء كاملاً وذلك فوراً ومن العدم. والكلمة الذي كان دائماً في فكر الله ولد أو أنجب في اللحظة التي فيها أنجز الله مضمون فكره. "هذا إذاً هو الوقت الذي فيه يظهر الكلمة بمظهره ولباسه الخارجيين ... كانت هذه الولادة الحقيقية للكلمة عندما انبثق من الله" (19). فقد لاحظ تلاميذ المسيح أن سيدهم كان الكلمة الذي خرج من الله. "والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً" (20).

قال ترتوليانوس إن "الكلمة (المسيح) جعل الله أباً له حيث أصبح انبثاقه منه، الابن الأول، وهو كذلك لأنه منبثق قبل كل الأشياء؛ كذلك هو الابن الوحيد للآب بصفته منبثقاً بشكل فريد من أحشاء قلبه تعالى" (21). والكتاب المقدس يبرهن لنا هذه الحقيقة حيث أن المسيح نفسه قال إنه جاء من عند الله، من عقله الداخلي. وقد تحدث المسيح عن المجد الذي كان له عند الآب قبل كون العالم (22). كذلك تحدث عن محبة الآب له قبل تأسيس العالم (23)، وعن الآب الذي أرسله إلى العالم المخلوق (24). ولكن حتى عندما كان المسيح على هذه الأرض، كان "في الآب". وهو الذي صرح بالقول: "أنا والآب واحد". وأيضا: "لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني" (25). لقد جاء المسيح من الآب، وكان لايزال واحداً مع الآب. وبعد قيامته عاد إلى الآب. كان دائماً وبشكل ثابت، كلمة الله، والإعلان الإلهي الظاهر للخالق الإلهي ذاته.

بهذا الأسلوب حاول ترتوليانوس أن يجيب عن أسئلة الغنوسطيين. ولكن، كانت هناك جماعات أخرى على نقيض الغنوسطيين، تثبت أن المسيح والآب كانا متطابقين على نحو مطلق. وقد وجد ترتوليانوس جواباً لهؤلاء أيضاً. فيسوع نفسه قال: "أبي أعظم مني" (26). وذلك، كما لاحظ ترتوليانوس، لأن الآب هو الجوهر الكامل (للألوهية) بينما الابن انبثق منه وهو جزء من كل ... جاء الابن من الآب، ولكنه لم يكن منفصلاً عنه. لأن الله ينتج الكلمة ... كما الجذر ينتج النبتة، والنبع النهر، والشمس الشعاع، حيث أن هذه المظاهر كانت "امتداداً" للجوهر الذي انبثقت منه. أنا لا أتردد في أن أدعو النبتة "بنت الجذر"، وكذلك النهر "ابن الينبوع"، والشعاع "ابن الشمس". حيث أن كل مصدر أصلي هو والد أو والدة، وما ينتجه هو ابنه أو ابنته، وهذه الحقيقة تصح أكثر بكثير على كلمة الله الذي حصل على اسم "ابن" كلقبه المناسب. ولكن النبتة ليست منفصلة عن الجذر، والنهر ليس منفصلاً عن الينبوع، والشعاع غير منفصل عن الشمس، وهكذا كلمة الله ليس منفصلاً عن الله. وعليه، واستناداً إلى هذه التناظرات، أعترف بأنني أتحدث عن اثنين: الله وكلمته، الآب وابنه. إن الجذر ونبتته هما اثنان، ولكنهما متحدان. النبع والنهر اثنان، ولكنهما موحدان؛ الشمس وشعاعها اثنان، ولكنهما متحدان. فإن أي شيء ينبثق من أي شيء آخر يحتاج إلى أن يكون شيئاً ثانياً، ولكنه ليس بالضروري منفصلاً عنه. وعندما يكون هناك واحد ثانٍ، فإنهما اثنان، وعندما يكون هناك ثالث يكونون ثلاثة. الروح القدس هو الثالث من الله والابن، كما الثمرة من النبتة فوق الأرض هي الثالثة من النبتة، والقناة من النهر هي الثالثة من النبع، والنقطة المضاءة بالشعاع هي الثالثة من الشمس. ولكن أحداً من هذه غير منفصل عن الأصل الذي تستمد منه صفاتها الخاصة. وعليه، فإن الثالوث ينبثق من الآب بخطوات مستمرة ومتصلة بعضها ببعضها الآخر. وهذا لا يطعن، بأي حال من الأحوال، في وحدته تعالى، ولكنه يحافظ على حقيقة كونه يعلن ذاته بطرق مختلفة" (27).

وبهذا، ختم ترتوليانوس حديثه قائلاً إن الابن والروح القدس انبثقا من الله نفسه. كانا موجودين مع الآب منذ الأزل، ولكن، في الوقت المعين أرسلا كإعلان عن الله نفسه. الكلمة هو الله، ولكن الله هو أكثر من مجرد كلمته. الروح القدس هو الله، ولكن الله أكثر من مجرد روحه. فالله يشتمل على كل هؤلاء: هو نفسه، كلمته وروحه. إن كلمة هو إعلانه عن نفسه تعالى. وروح الله هو إعلانه عن نفسه أيضاً، ولكنه يبقى هو الله نفسه، الله الواحد كما كان دائماً وكما سيبقى إلى الأبد.

ولكن ترتوليانوس اعترض على بعض الناس الذين يدعون أنه لم يكن هناك فرق أو تمييز بين الآب والابن، ويذهبون في ذلك إلى حد الجزم أن الله الآب مات على الصليب وحمل خطية الإنسان. أجابهم ترتوليانوس: "إن هذا القول هو تجديف على الله، فلنتوقف عنه، ولنكتف بالقول إن المسيح ابن الله هو الذي مات. لقد مات، لأن هذا هو ما يقوله الكتاب المقدس ... وعليه، وبما أن للمسيح طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة بشرية، وبما أنه متفق عليه أن الله لا يموت، إذاً الطبيعة البشرية هي وحدها المائتة. فمن الواضح أنه حين قال الرسول، إن "المسيح مات" فهو يتحدث عن الجسد والإنسان وابن الإنسان، وليس عن الروح والكلمة وابن الله" (28).

للمسيح طبيعتان، أضاف ترتوليانوس، "متحدان في شخص واحد، يسوع، الذي هو الله والإنسان ... لقد ظل كل جوهر محتفظاً بخصائصه، بحيث تمم الروح في المسيح نشاطاته الخاصة – القوى والمعجزات والأمارات – بينما جسده اختبر ما يختص بالجسد – الجوع عندما التقى المسيح بإبليس، والعطش في مقابلته المرأة السامرية، والبكاء عند موت اليعازر، والاكتئاب حتى الموت، وأخيراً موت الجسد" (29). لقد جرب المسيح بجسده وفكره، الإغراءات نفسها التي تصيبنا (30)، فلم يكن محصناً ضد الإغراءات، كما لم يكن متأكداً من النصر الفوري عليها. ولكنه كان يستمد القوة من الروح الإلهي الموجود فيه، فلم يستسلم قط. تألم ومات بجسده البشري كابن الإنسان، ومع ذلك فقد بقي روحه الإلهي حياً. ترك روحه الجسد في لحظة الوفاة (31). ولكنه عاد إليه مرة ثانية عند قيامته من الأموات.

وهنا نرى الفرق بين الابن والآب. الآب لا يتغير وليس له جسد مادي. فهو لا يموت ولا يقوم من الأموات. الابن هو الذي عانى وتألم ومات بالجسد، كما يحدث للإنسان فقط. لقد صرخ يسوع: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (32). قال ترتوليانوس: "لقد كانت هذه الصرخة صرخة الجسد والنفس؛ كانت صرخة الإنسان، لا صرخة الله. وهذا ما عناه الرسول بقوله إن الآب لم يشفق على ابنه (33)، وقبل هذا، صرح أشعياء النبي قائلاً: "والرب وضع عليه إثم جميعنا" (34). كان الله الآب هو الذي بذل الله الابن من أجلنا. وكان الله الابن وحده من انبثق من الآب، وتجسد، وحمل أوزار الخطية. "الآب يختلف ويتميز عن (إنسانية) الابن، مع أنه لا يختلف عنه بألوهيته". وقد قدم ترتوليانوس الإيضاح هنا بالقول: "إذا كان هناك جدول مياه ملوث ... فهذا لا يؤثر في مصدره أو منبعه، مع أنه ليس هناك انفصال بين المصدر والجدول" (35). لقد أميت الابن، ولكن ليس للآب جسد بشري، لذا لا يمكن أن يموت. وهنا يكمن الفرق بين أقانيم اللاهوت.

لقد كانت مثل هذه المناظرات اللاهوتية ضرورية لحفظ الإيمان ونقله إلى الأجيال الصاعدة من دون فساد أو خطأ. ولكن لا يفترض بالجميع أن يتبعوا مثل هذه التعقيدات من الإثباتات المنطقية والتفنيد. ولحسن الحظ نقول إن التعاليم الأساسية للمسيحية كانت واضحة وعملية بشكل ممتاز. وكان أبسط المؤمنين يتمكن من قبول كلمات يسوع بمعناها الظاهري – لإطاعتها والإيمان بها، حتى وإن لم يفهمها بالكامل. فالإنسان يستطيع أن يخدم المسيح من دون أن يقرأ حجج ترتوليانوس المعقدة، أو يفهمها تماماً.

منذ البدء راح المبشرون والوعاظ ينادون بالإنجيل في مناطق نائية لم تصلها بعد هذه الرسالة، وكانوا من ثم يعلمون المهتدين، كيفية الحياة كمسيحيين. عرف معظم أولئك الرحالة رسالة المسيح بشكل جيد، وفسروها بوضوح ودقة، ولكن بعضهم، مثل أبلوس في أفسس، وغيره، كانوا هم أنفسهم في حاجة إلى تعلم طريق الرب بأكثر تدقيق (36). لقد خلفوا وراءهم مجموعات صغيرة من المؤمنين هنا وهناك ليناضلوا بأنفسهم، من دون أن يكون لديهم ولو جزء يسير من أسفار الكتاب المقدس. أنتجت بعض تلك المجموعات الجديدة أفكاراً وتعاليم غير صحيحة تماماً؛ وبعضهم الآخر أظهروا على نحو واضح، أن تعليمهم يختلف عن التعليم الأصيل. والمشكلة التي جابهت قادة الكنائس الموجودة هناك، هي كيف يمكنهم أن يميزوا بين المجموعات التي يجوز اعتبارها ككنائس حقيقية للمسيح، والمجموعات الأخرى المرفوضة. فاقترح ترتوليانوس مقياسين يمكن الحكم من خلالهما. أولاً، يسأل في الكنيسة إن كانت قد تأسست على يدي واحد من الرسل الإثني عشر، أو أحد الخدام الموافق عليهم، والذين تم تعيينهم من أحد الرسل. ثانياً، هل الكنيسة تعلم المبادئ نفسها التي علمها المسيح ورسله؟ فإذا ما طابقت المجموعة هذين المقياسين يمكن اعتبارها رسولية، ويجري قبول أعضائها كإخوة في المسيح.

وبعد ذلك يضع ترتوليانوس المبدأ العظيم: اتحاد الكنائس الناتج من أصلها الواحد. فيعيدنا إلى التلاميذ الأحد عشر الذين اختارهم يسوع: "لقد شهدوا أولاً بالإيمان بيسوع المسيح في كل أنحاء اليهودية وأسسوا كنائس هناك، ومن ثم ذهبوا إلى العالم وهم ينادون الأمم بالعقيدة نفسها المختصة بالإيمان نفسه. وبالطريقة نفسها أسسوا كنائس في كل مدينة، ومنها اقتبست كنائس أخرى برعم الإيمان وبذور العقيدة ... ولاتزال تقتبسها في كل يوم ... وهكذا فالكنائس، مهما كثرت وعظمت، هي شبيهة بتلك الكنيسة القديمة الواحدة التي أسسها الرسل، والتي انبثقت منها ... فكل الكنائس واحدة. وهي تبرهن وحدتها بسلامها المشترك. وباللقب "إخوة"، وبرباط الضيافة المتبادلة" (37).

تحدى ترتوليانوس كنائس جديدة، كانت قد عرضت مبادئ وتعاليم غريبة، لتثبت نسبها وأصالتها. فقال: "فليعرضوا أصول كنائسهم، وليكشفوا قوائم بأسماء نظارهم المتعاقبين بشكل متواصل منذ البداية، بحيث يستطيع أول نظارهم أن يؤكد أن أحد الرسل أو أحد تابعي هؤلاء الرسل هو سلف له في الخدمة، ومصدر لسلطته" (38).

إلا أن ترتوليانوس أصر كذلك على فحص التعليم في الكنائس الجديدة، ليرى ما إذا كان يتناسب مع تعليم الكنائس التي أسسها الرسل أنفسهم. "والآن يجب الموافقة على مادة الوعظ في هذه الكنائس، أي إعلان المسيح لها، على أن يتم ذلك في نظري في ضوء شهادة الكنائس الأولى التي أسسها الرسل إذ كرزوا لها شخصياً، وبواسطة رسائلهم فيما بعد ... نحن في شركة مع الكنائس الرسولية إذ لا اختلاف في العقيدة. وهذا ما يضمن أننا نعلم الحق" (39).

وقد زادت الحال تعقيداً بسبب وجود بعض المعلمين المبتدعين الذين قدموا مستندات تدعم نظرتهم الخاصة التي ادعوا أنها من مخطوطات الرسل. فرد ترتوليانوس على هذا بالقول: "حتى وإن استنبطت هذه البدع أنساباً كهذه، فلن يفيدهم ذلك في شيء، حيث عند مقارنة تعاليمهم مع تعاليم الرسل، تظهر باختلافها وبعدم تشابهها أنها لم تصدر لا عن الرسل، ولا عن أي شخص كان له علاقة برسول ... يجب أن تخضع لهذا الفحص جميع الكنائس اللاحقة التي تؤسس يومياً. ومع أنهم قد لا يستطيعون أن يذكروا رسولاً أو شخصاً له علاقة برسول، كمؤسس لهم، إلا أنهم يستطيعون، إن اتحدوا حول الإيمان الواحد، أن يحسبوا أيضاً رسوليين، وذلك بسبب التجانس في التعليم" (40).

وحين واجه ترتوليانوس التكاثر المستمر للكنائس الجديدة، شعر بأنه من المرغوب فيه عند كل كنيسة أن تسجل أصالتها ونسبها خطوة خطوة، حتى تعود بهذه الأصالة أو النسب إلى أحد الرسل، ولكن المحك الأهم للتعليم الصحيح كان بوضوح، إمكانية إثبات أن عقيدتها تتناسب مع عقيدة الرسل، كما هي مدونة في الكتاب المقدس، وكما كانت تعلم الكنائس القديمة. مع ذلك، لم يعش ترتوليانوس ليرى حشد القوى المتناحرة، للمعركة الكبيرة بين "العقيدة" و"النسب والأصالة" التي وقعت بعد قرن واحد من وفاته.

 

 

حواشي الفصل:

1- لا ينبغي لنا أن نخلط بين رسالة برنابا وما يسمى "بإنجيل برنابا"؛ إذ لا توجد أي إشارة إلى هذا الأخير في أي وثيقة قبل نهاية القرن الخامس، حين ذكر كعمل هرطقي متأخر وغير مقبول. وهناك كتاب يرجع إلى القرن الثامن عشر يدعي أنه هو ذاك الإنجيل المفقود. لكنه مكتوب بالإيطالية، ويحتوي على اقتباسات من قرآن القرن السابع ومن "الكوميديا المقدسة" لدانتي في القرن الثالث عشر للميلاد. لذا، فلا شك في أن هذه الوثيقة الإيطالية لا ترجع إلى زمن الرسل. وأخيراً نلاحظ أنه لم يتم العثور على أي وثيقة أخرى عن هذا "الإنجيل" المزيف.

2- Epistolae Festales 39; Bainton p. 98

3- Adversus Praxean 11

4- (2 بطرس 1: 21)

5- Apologeticus 39

6- بالإشارة إلى (فيليبي 3: 2)

7- Adversus Marcionem 2:5 . راجع ترجمة: Bettenson ECF pp. 111 – 112

8- Adversus Marcionem 2:6

9- Adversus Marcionem 2:27

10- De Carne Christi 6

إن المعجزات التي مجدت ولادة المسيح وخدمته الشفائية وقيامته وصعوده تبين بوضوح أنه أعظم من أي واحد من الأنبياء. لذلك، ومنذ الأزمنة الأولى، نال اللقب الفريد والسامي: "ابن الله"، بوصفه الشخص الذي مثل الألوهية وأظهرها في الأرض. هذا، وإن المسيحيين في الماضي، كما في الحاضر، يعرفون أن لهذا التعبير مفهوماً رمزياً وروحياً، وليس جسدياً أو مادياً.

11- De Resurrectione Carnis 6

12- De Resurrectione Carnis 6

13- بالإشارة إلى (يوحنا 3: 6)

14- Adversus Praxean 27 ؛ بالإشارة إلى (1 تيموثاوس 2: 5)

15- Adversus Praxean 5

16- (يوحنا 1: 1 - 3)

17- بالإشارة إلى (1 كورنثوس 11: 7)

18- Adversus Praxean 5

19- Adversus Praxean 7

20- Adversus Praxean 7

21- (يوحنا 1: 14)

22- (يوحنا 17: 5)

23- (يوحنا 17: 24)

24- (يوحنا 17: 18)

25- (يوحنا 10: 30 و38 ؛ 8: 16)

26- (يوحنا 14: 28)

27- Adversus Praxean 7

28- Adversus Praxean 29

29- Adversus Praxean 27

30- (عبرانيين 4: 15)

31- (متى 27: 50)

32- (متى 27: 46)

33- بالإشارة إلى (رومية 8: 32)

34- Adversus Praxean 30 ؛ بالإشارة إلى (أشعياء 53: 6)

35- Adversus Praxean 29

36- (أعمال 18: 24 - 26)

37- De Praesceiptione Haereticorum 20

38- De Praesceiptione Haereticorum 32

39- De Praesceiptione Haereticorum 32

40- De Praesceiptione Haereticorum 32

راجع بشأن أمر تثبيت قانونية أسفار العهد الجديد:

Bainton pp. 97 – 99 ؛ Schaff HOTCC Vol. II pp. 516 . بالنسبة إلى كتابات ترتوليانوس التي تشكل موضوع جدل، راجع ANF Vols. III & IV. يعرض Bettenson ECF ترجمة حديثة أكثر بالإنجليزية لمقاطع مختارة من عمل ترتوليانوس.

  • عدد الزيارات: 3678