Skip to main content

الفَصلُ الثامِن "نماذِج بُولُس" - رحلَة بُولُس إلى رُوما

الصفحة 4 من 4: رحلَة بُولُس إلى رُوما

رحلَة بُولُس إلى رُوما

إحدَى أكثر القصص إثارَةً في هذا السفرِ التاريخيّ المُوحَى بهِ، هُوَ سردُ لُوقا لرَحلَةِ بُولُس في البَحرِ إلى رُوما (أعمال 27). لقد برهَنَ بُولُس عن قُدُراتٍ قِيَادِيَّة غير إعتِيادِيَّة عندما حمَلَ شهادَةً عجائِبِيَّة لكُلِّ الناجِينَ من هذه الرحلة معَهُ. لقد أخذَ كَلِمَةً من الرَّبّ أنَّهُ بسبب ظُروف الطقس التي تُهدِّدُ سفرَهُم بالخَطر، فعلى السفينة أن لا تُبحِر عندما تَصِلُ إلى كريت. ولكنَّ القادَةَ الرُّومانِيين لم يُصغُوا لنصيحَةِ سجينِهم بُولُس.

وعندما هبَّت العاصِفة التي تنبَّأَ بها بُولُس، وبعدَ أربَعةَ عشرَ يَوماً من إستسلامِ السفينةِ لأهواءِ العاصِفة الهوجاء، وبعدَ أن أصبحَ المُسافِرونَ مُصابينَ بدُوارِ البَحرِ، وغيرَ قادرينَ على تناوُلِ الطعام، وعظَ بُولُس هؤُلاء المُسافِرينَ المَذعُورينَ رُفَقاءَهُ (20- 26). لقد أكَّدَ بُولُس لكُلِّ المُسافِرينَ على مَتنِ السفينَةِ أنَّ اللهَ ظهرَ لهُ وأكَّدَ لهُ أنَّهُ بالرُّغمِ من أنَّ السفينَةَ سوفَ تتحطَّمُ إلى أشلاء، ولكنَّ أحداً من رُكَّابِها لن يُصابَ باذىً، بل سينجُون.

وعندما تحقَّقت الكلمة النَّبَويَّة التي أخذَها بُولُس من الرَّبّ بِحذافِيرِها، نجحَ النَّاجُونَ في الوُصُولِ إلى جزيرَةِ مالطا. فأشعَلوا ناراً لكي يُجفِّفُوا ثِيابَهُم المُبلَّلَة وأجسادَهُم التي كانت ترتَجِفُ برداً. وإذا بأفعى سامَّة تنشُبُ من وسطِ الحطَب المُشتَعِل وتنقَضُّ على يدِ بُولُس وتلسعهُ. فظنَّ سُكَّانُ مالطا الأصليِّين أنَّ بُولُس كانَ ولا بُدَّ مُذنِباً بجرائِمَ فظيعة، ولهذا كانَ اللهُ يقتصُّ منهُ العِقاب. ولكن عندما نفضَ بُولُس الأفعى السامَّة من يدِهِ إلى النار، ولم يُصبهُ شيءٌ من الضرَر، ظنَّ السُّكَّانُ الأصلِيُّونَ أنَّهُ ينبَغي أن يكُونَ إلهاً.

عندما تمَّت مُتابَعةُ الرِّحلة إلى رُوما على متنِ سفينَةٍ أُخرى، قدَّمَ لُوقا صُورَةً جميلةً عن المُجتَمَعِ المَسيحي الرُّوحِي في رُوما، الذي هُوَ كنيسةُ المسيح الحَي القائم من الموت. مِنَ المُؤثِّر جِدَّاً أن نقرَأَ كيفَ تعلَّمَ المُؤمِنُونَ في رُوما عن وُصولِ بُولُس المُتوقَّع، وكيفَ تشجَّعَ وتعزَّى قَلبُهُ، عندما لاقاهُ المُؤمنونُ عندَ دُخُولِهِ إلى مدينَةِ رُوما سجيناً.

بينما سُلِّمَ السُّجناءُ إلى سُلطاتِ السجن الرُّومانِيَّة، سُمِحَ لبُولُس أن يسكُنَ في الإقامَةِ الجَبرِيَّة في بيتٍ إستأجَرَهُ لنَفسِهِ، حيثُ مكثَ قسرِيَّاً لمُدَّةِ سنتَين. لقد سُمِحَ لهُ بدَعوَةِ قادَةِ اليَهُود في المدينة، وإنسجاماً معَ ستراتيجيَّتِهِ التي تقُولُ "لليهودِي أوَّلاً"، راحَ يكرِزُ بالإنجيل مُعلِناً أنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح المُرسَل لهُم. فآمنَ البعضُ منهُم، ولكنَّ مُعظَمَهُم أصبَحوا أعداءَ ألِدَّاء لبُولُس.

في هذا المنزِلِ المُستَأجَر، كتبَ بُولُس رسائِلَهُ المدعُوَّة برسائِلِ السجن – غلاطية، أفسُس، فيلبِّي، وفيلمون – وكانَ مسمُوحاً لهُ بإستِقبالِ الضُّيُوف، وكانت آخِرُ صُورَةٍ رسمها لنا لُوقا عن هذا الرسُول المحبُوب، هي أنَّهُ كانَ يكرِزُ بملكوتِ اللهِ لكُلِّ الذين كانُوا يزُورونَهُ ويُصغُونَ إليهِ (28: 30، 31).

بمعزَلٍ عمَّا نتعلَّمُهُ من رسالةِ بُولُس الرسُول الثانِية إلى تيمُوثاوُس، علينا أن نعتَمِدَ على تاريخِ الكنيسة لكي نعرِفَ نهايَة حياة بُولُس وخدمته. يعتَقِدُ مُعظَمُ المُفسِّرينَ أنَّ بُولُس مَثَلَ للمُحاكَمَةِ أمامَ قيصَر، ثُمَّ أُطلِقَ سراحُهُ، ثُمَّ ذهبَ مدعُوماً من كنيسةِ رومية لكي يُوسِّعَ تُخُومَ خدمتِهِ الإرساليَّة العظيمة إلى إسبانيا.

عندما أَحرَقَ نَيرُون رُوما، وألقى اللائمةَ على المسيحيِّين، إنفجرَ ضدَّ الكنيسةِ إضطِّهادٌ عنيفٌ إستمرَّ لمُدَّةِ ثلاثِ قُرونٍ. فأصبَحَ المُؤمنونَ بالمسيح مكرُوهِينَ، واعتُبِرُوا وكأنَّهُم ألدّ أعداء حُكُومَة وشعب رُوما. ولقد أصبَحَ كُلٌّ من بطرُس وبُولُس أكثَرَ شخصيَّتين مكروهتين. فأُلقِيَ القبضُ مُجدَّداً على بُولُس. ويعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّهُ سُجِنَ عندَها في سجنِ المَامِرتَاين المُرعِب في رُوما، من حَيثُ كتبَ رسالتَهُ الثانِية إلى تيموثاوُس، قبلَ أن يُقطَعَ رأسُهُ.

هل تشعُرُ أنَّكَ بدأتَ تتآلَفُ معَ هذا الرسُول العظيم والرائع؟ إنَّهُ كاتِبُ الأسفار الثلاثة عشر التالية من العهدِ الجديد، والتي سنقُومُ بدراستِها تِباعاً. فجميعُنا نحتاجُ إلى أبطال ونماذِج من الإيمان لنقتَدِيَ بها. صلاتي هي أن تُحِبَّ بُولُس كما أحببتُهُ أنا منذُ أن قرأتُ أوَّلاً هذه الإصحاحات من سفرِ أعمالِ الرُّسُل التي كُنَّا بِصددِ دراستِها.

من خِلالِ الإصحاحاتِ الأخيرة من هذا السفر التاريخيّ، لدينا شعُورٌ أنَّ كُلَّ شيءٍ يسيرُ نحوَ أَوْجِ القِمَّة، عندَ زِيارة بُولُس إلى عاصِمة الأمبراطُوريَّة الرُّومانِيَّة، وإلى مُحاكمتِهِ أمامَ قيصَر. يتولَّدُ لدينا الشعُور بأنَّ سِياقَ سَردِ التاريخ يتوقَّفُ فجأةً بدونِ نهايَة في آخرِ هذا السفر التاريخي. يعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّ الإضطِّهاد قد يكُونُ السبب الكامِن وراءَ هذه النهايَة المَبتُورة لسفرِ الأعمال. فإذا لاحظتَ ضمير المُتكلَّم الجمع "نحنُ" في الإصحاحَين الأخيرين، يتَّضِحُ أنَّ لُوقا كانَ معَ بُولُس في تِلكَ المرحلة البَحريَّة العاصِفة، وعندَ دُخُولِهِ إلى رُوما. ولرُبَّما تمَّ توقِيف لُوقا معَ بُولُس، فلم يعُدْ بإمكانِهِ أن يُتابِعَ كتابَةَ تاريخِهِ الرائع عن الجيل الأوَّل للكنيسة.

وكما ذكرتُ في بِدايَةِ هذا الكُتَيِّب، قد يكُونُ من ترتيبِ العنايَةِ الإلهيَّة، أنَّ تاريخَ الكنيسةِ هذا لم ينتَهِ، لأنَّنا نحنُ الآن، كما سبقَ لنا وكَّنا، نكتُبُ الإصحاحَ التاسِع والعِشرين من سفرِ الأعمال، مُنذُ يوم الخمسين، عندما وُلِدَت كنيسةُ المسيحِ المُقام.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 10142