Skip to main content

الفصل التاسع - السبعون أسبوعاً

نعرف من مطلع الإصحاح التاسع في سفر دانيال أن نبوات دانيال لم تأت دفعة واحدة بل استغرقت عدة سنين فالحلم الأول الذي رآه دانيال، رآه في السنة الأولى لبيلشاصر الملك. والرؤيا الثانية ظهرت لدانيال في السنة الثالثة لملك بيلشاصر. أما الحديث عن السبعين أسبوعاً فقد جاء في السنة الأولى لداريوس المادي، الذي يقال أن كورش ملكه على مملكة الكلدانيين. وأكبر الظن أن دانيال في ذلك الوقت كان قد أصبح شيخاً ولكنه كان في شيخوخته رجل الكتاب كما كان في شبابه.لقد كانت شركته مع الله شركة مستمرة لم تنقطع. وما أحلى العمر الذي يقضى في شركة دائمة مع الرب.

والآن إلى كلمات الإصحاح التاسع.

"وفي السنة الأولى لداريوس بن أحشو يرش من نسل الماديين الذي ملك على مملكة الكلدانيين. في السنة الأولى من ملكه أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى ارميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دانيال 9: 1- 2).

واضح أن دانيال كان يفحص كتب الأنبياء في العهد القديم، ويقيناً أنه كان يؤمن بصدق وحرفية النبوات، وقد فهم من هذه النبوات ما جاء بخصوص خراب أورشليم سبعين سنة.

وقد وردت هذه النبوات في موضعين من سفر أرميا.

الموضع الأول نقرأ فيه الكلمات "لذلك هكذا قال رب الجنود. من أجل أنكم لم تسمعا لكلامي. هاأنذا أرسل فآخذ كل عشائر الشمال يقول الرب وإلى نبوخذ راصر عبدي ملك بابل وأتى بهم على هذه الأرض وعلى كل سكانها وعلى كل هذه الشعوب حواليها فأحرمهم وأجعلهم دهشاً وصفيراً وخرباً أبدية. وأبيد منهم صوت الطرب وصوت الفرح صوت العريس وصوت العروس صوت الأرحية ونور السراج. وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاً وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة. ويكون عند تمام السبعين سنة أنى أعاقب ملك بابل وتلك الأمة يقول الرب" (إرميا 25: 8- 12).

 الموضع الثاني نقرأ فيه الكلمات "لأنه هكذا قال الرب. إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع" (إرميا 29: 10).

عندما أعطى الرب لدانيال رؤياه الثالثة، كانت الإمبراطورية البابلية قد زالت من الوجود. وكان الماديون والفارسيون تحت قيادة قورش الفارسي قد هزموا البابليين وملكوا إمبراطوريتهم، وأعطيت بابل والمنطقة الكلدانية لداريوس المادي الذي قرأنا عنه في الإصحاح السادس.

وهاهو دانيال يفهم من الكتب كمالة السبعين سنو خراب أورشليم ويسجل صلاته في هذا الإصحاح.

ولنلاحظ أن رجال الله في كل العصور ربطوا دراسة الكلمة بالصلاة. فقراءة الكلمة بدون الصلاة تقود إلى البرودة الروحية، والصلاة بدون دراسة الكلمة تقود إلى التطرف غير الكتابي، وإلى انعدام التوازن في الحياة الروحية.

وينقسم هذا الإصحاح إلى قسمين:

القسم الأول: صلاة دانيال المسبي

القسم الثاني: مدة القضاء الإلهي

القسم الأول: صلاة دانيال المسبي:

فهم دانيال من النبوات، بعد أن قضى حوالي سبعين سنة في بابل، أن الوقت قرب ليتمم الرب وعده بخصوص أورشليم.

فماذا كان رد الفعل لمعرفته؟

كان من الممكن أن يعد رسالة ويقدم حديثاً عن علامات الأزمنة. كان من الممكن أن يقول أن وعد الرب سيتم على أية حال فلا داعي للتفكير في هذا الأمر. لكن دانيال لم يفعل شيئاً من ذلك وإنما وجه وجهه إلى الله وصلى "فوجهت وجهي إلى الله السيد طالباً بالصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد" (دانيال 9: 3).

لقد رتب الرب أن تكون الصلاة إحدى الوسائل التي يستخدمها لإتمام مقاصده. وقد عرف دانيال بحساسيته الروحية أن الشعب القديم ليس في الحالة الروحية التي تؤهله لإتمام الوعد الإلهي برجوعه، ولذا صلى لأجل هذا الشعب المتمرد العنيد.

ويجدر بكل قديس مكرس للرب أن يصلي حتى يتمم الرب مجيئه. هذا ما قاله بطرس الرسول "فبما أن هذه كلها تنحل أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى. منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب" (2 بطرس 3: 11 و 12). وهذا ما فعله يوحنا بعد أن رأى رؤياه بكل تفاصيل أحداث الضيقة العظيمة، والمجد العتيد، وبعد أن سمع وعد الرب "أنا آتي سريعاً" (رؤيا 22: 20) فقد رفع الصلاة قائلاً "آمين. تعال أيها الرب يسوع" (رؤيا 22: 20).


في صلاة دانيال وجه وجهه إلى الله السيد.

لقد نسي كل ما حوله، وركز نظره كله في الله، ويسميه هنا "الله السيد" اعترافاً بسيادته على الكون كله وعلى كل أحداث التاريخ.

وكانت صلاته طلبات، وتضرعات، ارتبطت بالصوم للتفرغ التام لها، والمسح للإذلال والاتضاع، والرماد للندم والحزن على الخطية.

"وصليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت أيها الرب الإله العظيم المهوب حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه" (دانيال 9: 4).

إن صلاة دانيال في هذا الإصحاح هي إحدى الصلوات الفريدة التي سجلت كلها في الإصحاح التاسع من كل سفر ذكرت فيه. فهنا في الإصحاح التاسع نقرأ صلاة دانيال، وفي الإصحاح التاسع من سفر عزرا، في الإصحاح التاسع من سفر نحميا نقرأ صلاة نحميا.

لم تكن صلاة دانيال كمعظم صلواتنا.. مجرد طلبات من الله وإنما كانت صلاة تميزت بكثير من المميزات التي يجب أن تتصف بها صلواتنا.

ففيها نجد اعترافاً بعظمة وهيبة الله (عدد 4)

وفيها نجد اعترافاً بأمانة الله وحفظه لعهوده (عدد 4)

وفيها نجد اعترافاً بأن أمانة الله في حفظه لعهوده ورحمته تتجه إلى محبيه وحافظي وصاياه. (عدد4)

"أخطأنا وأثمنا وعملنا الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك. وما سمعنا من عبيدك الأنبياء الذين باسمك كلموا ملوكنا ورؤساءنا وآباءنا وكل شعب الأرض" (دانيال 9: 5 و 6)

لقد تميزت صلاة دانيال بعلاقته الخاصة بإلهه فهو يقول "صليت إلى الرب إلهي"، فقد كان الله العظيم إلهه... كانت له شركة خاصة معه. وكان الدافع وراء صلاة دانيال لا أن يعرف الحساب الزمني لمدة السبي، بل أن يطلب الرحمة من الله لشعبه المرتد الأثيم. وفي عددي 5 و 6 نرى خطية الشعب القديم في مجموعها "أخطأنا" أي تعدينا على وصاياك "لأن الخطية هي التعدي" (1 يوحنا 3: 4) "وأثمنا" أ يتصرفنا بحسب طبيعتنا الساقطة ولوثنا حياتنا (مزمور 51: 2) "وعملنا الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك" وسر عمل الشر هو التمرد على الله والحيدان عن وصاياه وأحكامه "وما سمعنا من عبيدك الأنبياء الذين باسمك كلموا ملوكنا ورؤساءنا وآباءنا وكل الشعب" (دانيال 9: 6) وهنا لا عذر لأحد فالجميع من الملك إلى رجل الشارع قد سمعوا رسالة الله بواسطة الأنبياء. وهنا نجد اعترافاً بأن كلام الأنبياء هو كلام الله، وكم من مرات نسمع النبي يقول "وكان إلى كلام الرب قائلاً" (حزقيال 25: 1)

إن دانيال يضع نفسه بين الخطاة، فهو لا يتعالى عنهم، بل يعترف بخطيته معهم، فالمؤمن المكرس للرب يعرف مدى شر طبيعته في الداخل.

"لك يا سيد البر. أما لنا فخزي الوجوه كما هو اليوم لرجال يهوذا ولسكان أورشليم ولكل إسرائيل القريبين والبعيدين في كل الأراضي التي طردتهم إليها من أجل خيانتهم التي خانوك إياها. يا سيد لنا خزي الوجوه لملوكنا لرؤسائنا ولآبائنا لأننا أخطأنا إليك. للرب إلهنا المراحم والمغفرة لأننا تمردنا عليه، وما سمعنا صوت الرب إلهنا لنسلك في شرائعه التي جعلها أمامنا عن يد عبيده الأنبياء. وكل إسرائيل قد تعدى شريعتك وحادوا لئلا يسمعوا صوتك فسكبت اللعنة والحلف المكتوب في شريعة موسى عبد الله لأننا أخطأنا إليه. وقد أقام كلماته التي تكلم بها علينا وعلى قضاتنا الذين قضوا لنا ليجلب علينا شراً عظيماً ما لم يجر تحت السموات كلها. كما أجرى على أورشليم. كما كتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشر ولم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا لنرجع من آثامنا ونفطن بحقك. فسهر الرب على الشر ولم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا لنرجع من آثامنا ونفطن بحقك. فسهر الرب على الشر وجلبه علينا لأن إلهنا بار في كل أعماله التي عملها إذ لم نسمع صوته" (دانيال 9: 7 - 14).

في هذا الجزء من صلاة دانيال نجد أن دانيال يعترف بأن الله بار في كل أفعاله مع شعبه "لك يا سيد البر"، وقد ظهر بر الله في إرساله الأنبياء لتحذير وإنذار شعبه من السير في طريق الخطية، كما ظهر في إرساله إياهم إلى السبي عقاباً لخطاياهم.

ويعلن استحقاقه وشعبه لخزي الوجوه، أي للخجل والحيرة. ويبدأ الخزي من المناصب العليا ويتدرج إلى المناصب الأدنى "لملوكنا لرؤسائنا ولآبائنا".. وإن الخزي والخجل والحيرة كانت نتيجة منطقية "لأننا أخطأنا إليك".

ويعود دانيال فيعلن أن الله له المراحم والمغفرة "فالمغفرة للرب وحده. لأن عندك المغفرة لكي يخاف منك" (مزمور 13: 4) ويستطرد دانيال في صلاته فيقول أن الشعب القديم لم يسمع لصوت الرب ليسلك شرائعه، وأن كل إسرائيل قد تعدي على شريعة الله وحادوا لئلا يسمعوا صوته، كما يقول إرميا النبي "لأن شعبي عمل شرين. تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً مشققة لا تضبط ماء" (إرميا 2: 13).

ويعلن دانيال أنه بسبب جيدان شعب الله عن وصاياه أنه سكب عليهم اللعنة والحلف المكتوب في شريعة موسى عبد الله. اللعنة التي نجدها في الكلمات "لا يشاء الرب أن يرفق به بل يدخن حينئذ غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء" (تثنية 29: 20) (اقرأ تثنية 28: 15 – 68 و 29: 1 - 28) ونجدها أيضاً في الكلمات "لكن إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كل هذه الوصايا. إن رفضتم فرائضي وكرهت أنفسكم أحكامي فما عملتم كل وصاياي بل نكثتم ميثاقي.. أصير مدنكم خربة ومقادسكم موحشة ولا أشتم رائحة سروركم.. وأذريكم بين الأمم وأجرد وراءكم السيف فتصير أرضكم موحشة ومدنكم تصير خربة" (لاويين 26: 14 و 15 و 31 و 33).

إن ذكر دانيال لشريعة موسى عبد الله يؤكد إيمانه المطلق بوحي كلمة الله وبحرفية هذا الوحي.

ويكرر دانيال استحقاق الشعب القديم للعقاب "لأننا أخطأنا إليك".. ويعلن أن الله عادل في إقامة كلماته كما سجلها موسى عبده. وأنه رغم هذا العقاب الفظيع الذي أوقعه الله على الشعب المرتد "لم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا لنرجع من آثامنا ونفطن بحقك" فالشعب استمر في ارتداده وتمرده، ولم يرجع عن آثامه، ولم يعد إلى كلمة الرب ليتعلم منها كيف يميز بين الطاهر والنجس، وهذه هي الفطنة الحقيقية كما قال كاتب المزمور "أكثر من الشيوخ فطنت لأني حفظت وصاياك" (مزمور 119: 100).

ويختتم دانيال هذا القسم من صلاته فيقول "فسهر الرب على الشر وجلبه علينا لأن الرب إلهنا بار في كل أعماله التي عملها إذ لم نسمع صوته" (دانيال 9: 14).

لم ينطق دانيال بكلمة تذمر ضد تصرفات الله كما يفعل الكثيرون حين يقعون تحت التأديب الإلهي، ولكنه أعلن أن الله سهر على الشر، أي رصد الشر ليوقع قصاصه على الشعب العاصي في الوقت المناسب، وهو تعبير مأخوذ من إرميا 1: 12 "فقال الرب لي أحسنت الرؤية لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها".

ويعلن دانيال مرة ثانية أن الله بار في كل أعماله. بار في عقابه الرهيب الذي أنزله على شعبه بسبب عصيانهم لكلمته.

"والآن أيها السيد إلهنا الذي أخرجت شعبك من أرض مصر بيد قوية وجعلت لنفسك اسماً كما هو هذا اليوم قد أخطأنا عملنا شراً. يا سيد حسب رحمتك اصرف سخطك وغضبك عن مدينتك أورشليم جب قدسك إذ لخطايانا ولآثام آبائنا صارت أورشليم وشعبك عاراً عند جميع الذين حولنا. فاسمع الآن يا إلهنا صلاة عبدك وتضرعاته وأضئ بوجهك على مقدسك الخرب من أجل السيد. أمل أذنك يا إلهي واسمع افتح عينيك وانظر خربنا والمدينة التي دعي اسمك عليها لأنه لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك بل لأجل مراحمك العظيمة. يا سيد اسمع يا سيد اغفر يا سيد أصغ واصنع. لا تؤخر من أجل نفسك يا إلهي لأن اسمك دعي على مدينتك وعلى شعبك" (دانيال 9: 15).

في هذا القسم من صلاة دانيال نرى مدى معرفة هذا الرجل بأسفار العهد القديم، واستخدامه لكلمة الله في الصلاة. فهو يعرف أن الله سيد الأرض كلها كما يدعوه "والآن أيها السيد".. هو الذي أخرج شعبه من أرض مصر بيد قوية، ويعرف أنه بهذا الفعل العظيم جعل الرب لنفسه اسماً كما قال لفرعون عن يد موسى "ولكن لأجل هذا أقمتك لكي أريك قوتي ولكي يخبر باسمي في كل الأرض" (خروج 9: 16).

ويعترف مكرراً بخطيته وخطية شعبه "قد أخطأنا عملنا شراً" ويلجأ إلى رخمة الله كما لجأ داود عندما أخطأ خطيته المعروفة (المزمور 51: 1) فيقول "يا سيد حسب كل رحمتك اصرف سخطك وغضبك عن مدينتك أورشليم".

ومدينة أورشليم سميت "مدينة الله" (مزمور 87: 3) و"مدينة الملك العظيم" (متى 5: 35) و"المدينة المقدسة" (رؤيا 11: 2) و"المدينة العظيمة" (رؤيا 16: 19).

ويقول دانيال للرب "اصرف سخطك عن مدينتك أورشليم" وأورشليم هي مدينة الله لأنها المكان الذي اختاره الرب ليحل اسمه فيه كما يقول موسى "فالمكان الذب يختاره الرب إلهكم ليحل اسمه فيه تحملون إليه كل ما أنا أوصيكم به محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم وكل خيار نذوركم التي تنذرونها للرب" (تثنية 12: 11) وكما نقرأ في سفر زكريا "لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم" (زكريا 3: 2) [اقرأ أيضاً تثنية 16: 11 و 16 و 26: 2].

ويعلن دانيال أنه بسبب خطايا الشعب القديم وآثام آبائه صارت أورشليم والشعب القديم عاراً عند جميع الذين حولهم "البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب خطية" (أمثال 14: 34).

ويصل دانيال إلى نهاية وهدف صلاته فيطلب من الله أن يسمع صلاته وتضرعاته، وأن يضيء بوجهه على مقدسه الخرب بمعنى أن يبارك هذا المقدس كما قال الرب لموسى "كلم هارون وبنيه قائلاً هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم. يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً، فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم" (عدد 6: 23 - 27) وهو يطلب استجابة صلاته "من أجل السيد" (عدد 17) فهل كان يعني من أجل اسمك؟ أو كان يعني "من أجل السيد" أي الرب يسوع الذي قال عنه داود في المزمور "قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك" (مزمور 110: 1) والذي رآه دانيال في رؤياه الأولى آتياً مع سحب السماء (دانيال 7: 13 و 14) والذي نقرأ عنه في زكريا 3: 2 "فقال الرب للشيطان لينتهرك الرب يا شيطان. لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم". في اعتقادنا أن دانيال قد رفع صلاته هنا باسم المسيح الذي كان عتيداً أن يتجسد في ملء الزمان.

ودانيال يتوسل إلى إلهه أن يمي أذنه، معلناً مرة ثانية علاقته الشخصية وشركته القوية معه "أمل أذنك يا إلهي"، وأن يسمع، ويفتح عينيه، لينظر خراب المدينة التي دعى اسمه عليها.

لقد جاء هذا الخراب كعقاب لشر الشعب القديم كما يقول إرميا "ها إنكم متكلون على كلام الكذب الذي لا ينفع. أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذباً وتبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها. ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وتقولون قد أنقذنا. حين تعلمون كل هذه الرجاسات. هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم. هأنذا قد رأيت يقول الرب. لكن اذهبوا إلى موضعي الذي في شيلوه الذي أسكنت فيه اسمي أولاً وانظروا ما صنعت به من أجل شر شعبي إسرائيل. والآن من أجل عملكم هذه الأعمال يقول الرب وقد كلمتكم مبكراً ومكلماً فلم تسمعوا ودعوتكم فلم تجيبوا. أصنع بالبيت الذي دعي باسمي عليه الذي أنتم متكلون عليه وبالموضع الذي أعطيتكم وآباؤكم إياه كما صنعت بشيلوه. وأطرحكم من أمامي كما طرحت كل أخوتكم نسل أفرايم. وأنت فلا تصل لأجل الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح عليّ لأني لا أسمعك" (إرميا 7: 8 - 16) [اقرأ 1 يوحنا 5: 16].

أما الآن فقد انتهت مدة السبي التي عينها الرب لكمالة سبعين سنة، ولذا فإن دانيال يصلي ويتوسل قائلاً "لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك بل لأجل مراحمك العظيمة" فالله يستجيب الصلاة من أجل مراحمه العظيمة.

ويستطرد متوسلاً "يا سيد اسمع يا سيد اغفر يا سيد أصغ" فهل نجد في تكرار كلمة "يا سيد" ثلاث مرات إشارة للثالوث العظيم؟؟ (أشعياء 6: 3). ويستمر دانيال فيقول "اصنع لا تؤخر من أجل نفسك يا إلهي لأن اسمك دعي على مدينتك وعلى شعبك" (دانيال 9: 19).

ولقد كان اسم الله هو الحجة التي على أساسها طلب رجال الله طلباتهم. وهاهو يشوع يقول للرب "فيسمع الكنعانيون وجميع سكان الأرض ويحيطون بنا ويقرضون اسمنا من الأرض، وماذا تصنع لاسمك العظيم" (يشوع 7:9).

وها هو الرب يقول للشعب القديم "هكذا قال السيد الرب. ليس لأجلكم أنا صانع يا بيت إسرائيل بل لأجل اسمي القدوس" (حزقيال 36: 22).

وفي ختام صلاة دانيال نجد الصلة الدائمة بينه وبين الله إذ يدعوه "يا إلهي".. لقد اختبر دانيال إلهه، وذاق حلاوته، وعرف سعادة وفرح المتكلين عليه.

وقد استجاب الله صلاة دانيال ورد سبي شعبه كما نقرأ في سفر عزرا، وكما قال أحدهم "إن وراء سفر عزرا ظل رجل يصلي" هذا الرجل هو بكل يقين "دانيال".


مدة القضاء الإلهي

كانت مشغولية دانيال بمدينة أورشليم ومستقبلها، مشغولية ملأت كل تفكيره وكيانه. فقد أحب دانيال المدينة التي اختارها الله ليضع اسمه فيها. وقد استجاب الله لأشواق دانيال فأراه المستقبل القريب والبعيد لمدينته المقدسة.

"وبينما أنا أتكلم وأصلي وأعترف بخطيتي وخطية شعبي إسرائيل وأطرح تضرعي أمام الرب عن جبل قدس إلهي. وأنا متكلم بعد بالصلاة إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مطاراً واغفاً لمسني عند وقت تقدم المساء. وفهمني وتكلم معي وقال يا دانيال إني خرجت الآن لأعلمك الفهم" (دانيال 9: 20 - 22).

كان دانيال في روح الصلاة، والاعتراف، وطلب الغفران لشعبه، والتحرير لأرض إلهه... وهو هنا يسمي فلسطين "جبل قدس إلهي"، لأن هذه الأرض بالذات هي مركز تحركات خطة الله الكاملة للنبوات القادمة، والله يسميها "أرضي" (حزقيال 38: 16) فمع أن الأرض كلها لله (مزمور 24: 1) إلا أن أرض إسرائيل تتميز بملكيته الخاصة لها، لأنها مركز إتمام للخطة الإلهية للعالم، ومسرح أحداث الأيام الأخيرة ومعركة هرمجدون وملك المسيح.

بينما كان دانيال في روح الصلاة والمشغولية بأرض الله، جاء جبرائيل الملاك في صورة رجل، وقد ظهرت الملائكة مراراً في العهد القديم، وهم دائماً يتخذون هيئة الرجال ولم يحدث قط أن ملاكاً ظهر في صورة امرأة.. جاءه "مطاراً واغفاً" أي مدفوعاً إلى الطيران بسرعة.. وكون جبرائيل أتى طائراً يرينا أن للملائكة أجنحة. وكان وقت مجيء جبرائيل هو "وقت تقدمة المساء" ما بين الساعة الثالثة والرابعة مساء.

وقد قال جبرائيل لدانيال أنه خرج ليعلمه الفهم.. أي خرج من محضر الله ذاته ليعطي لدانيال الفهم لمستقبل شعبه وأرضه.

"في ابتداء تضرعاتك خرج الأمر وأنا جئت لأخبرك لأنك أنت محبوب. فتأمل الكلام وأفهم الرؤيا" (دانيال 9: 23) لقد وعد الله القديسين "ويكون أنى قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (أشعياء 65: 24) وتمم وعده لدانيال، فقد خرج الأمر الإلهي، وجاء جبرائيل لإخبار دانيال بالأمر، وذلك لأن دانيال كان محبوباً، كان غالياً جداً عند الله، وأي إنسان يتصف بصفات دانيال ويعيش حياة أمينة مكرسة للرب ولا يكون غالياً جداً على الرب؟!؟

وطلب جبرائيل من دانيال أن يتأمل الكلام الذي سيقوله له ويفهم الرؤيا.


السبعون أسبوعاً

"سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم وليؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين" (دانيال 9: 24).

نعترف بداية أن هذا النص هو من أصعب النصوص في نبوات دانيال، وإن هناك عدداً كبيراً من الشروحات لهذا النص، كل شرح يتفق مع مدرسة الشارح. ولكننا هنا سنلتزم بالنص ونسير معه خطوة خطوة.

وعلينا أن نضع في أذهاننا أن سفر دانيال ظل سفراً مختوماً إلى وقت غير بعيد كما نقرأ "أما أنت يا دانيال فأخف الكلام واختم السفر إلى وقت النهاية. كثيرون يتصفحونه والمعرفة تزداد" (دانيال 12: 4) وكما نقرأ أيضاً "فقال اذهب يا دانيال لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت النهاية" وقد بلغنا الآن وقت النهاية وعجلة النبوات بدأت تدور، ولذلك نثق أن إلهنا يعطينا فهماً أكثر لهذا السفر العميق.

"سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة" وفي الأصل العبري "سبعون سبعة قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة".

ولأن النبوة تتحدث عن زمن محدد، فلنا كل الحق أن نقول أن السبعين سبعة تشير إلى حقبة زمنية خلالها سيتم القضاء الإلهي على الشعب القديم وعلى مدينة أورشليم.

كما علينا أن نضع في أذهاننا أن هذه النبوة خاصة بالشعب القديم وبمدينة أورشليم، فالحقبة الزمنية المكونة من السبعين سبعة "قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة" أي على الشعب القديم وعلى مدينة أورشليم.

والآن ما هي هذه السبعين سبعة؟

عرف الشعب القديم ثلاثة أنواع من السباعيات الزمنية:

السبعة الأولى هي أسبوع الأيام (خروج 20: 8 - 11)

السبعة الثانية هي أسبوع السنين (لاويين 25: 3 - 7)

السبعة الثالثة هي سبعة سبوت سنين (لاويين 25: 8 - 13)

فالتعبير "سبعة سبوت سنين" (لاويين 25: 8) كان معروفاً عند الشعب القديم، وهو يرينا أن السبعة كانت مفهومهم تشير إلى أسبوع سنين.

وذات الفهم نجده في سفر التكوين فالسبع بقرات التي رآها فرعون في حلمه، والسبع سنابل كانت كل منها تشير إلى سبع سنين.

وعلى هذا يمكننا القول أن السبعين سبعة التي نقلها المترجم العربي "سبعون أسبوعاً" تشير إلى سبعين أسبوع سنين أي 490 سنة يحدث خلالها للشعب القديم ولمدينة أورشليم أموراً سلبية وأخرى أيجابية.

الأمور السلبية هي (1) تكميل المعصية (2) تتميم الخطايا (3) كفارة الإثم. والأمور الإيجابية هي (4) ليؤتى بالبر الأبدي (5) ولختم الرؤيا والنبوة (6) ولمسح قدوس القدوسين.

الأمور السلبية:

(1) تكميل المعصية: هناك معنيان لهذه العبارة، المعنى الأول كبح أو ردع المعصية، فالمعصية العارية أمام عيني الله البار ستختفي بالكفارة من أمام عينيه ولا تذكر فيما بعد. أما المعنى الثاني وهو الأقرب إلى الصواب باعتبار أن النبوة تتعلق بالشعب القديم هي تكميل معصية الشعب القديم برفضهم المسيح الآتي إليهم وصلبه على الصليب. وقد قال الرب لإبراهيم عن تكميل معصية الأموريين "لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً" (تكوين 15: 16).

(2) تتميم الخطايا: وكلمة تتميم ترجمتها الحرفية من العبرية "لختم الخطايا" وهي تحمل معنيين الأول: "لختم الخطايا" والتحفظ عليها إلى أ، ينال مرتكبوها عقابهم كما قال أيوب "معصيتي مختوم عليها في صرة" (أيوب 14: 17) وكما نقرأ في تثنية 32: 34 و 35 "أليس ذلك مكنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني. لي النقمة والجزاء. في وقت تنزل أقدامهم". والثاني: لردع الخطايا وكبحها، وهو أمر سيتم في الملك الألفي السعيد، عندما يعطي الرب لشعبه القديم قلباً جديداً وروحاً جديدة يكبح بهما جماح خطيتهم فيسلكون في فرائضه (حزقيال 36: 25 - 29)، وسيتم هذا عند المجيء الثاني للمسيح (رومية: 11: 27). ونحن نعرف أنه عندما يأتي المسيح بعد نهاية الأسبوع السبعين، الشيطان نفسه سيطرح في الهاوية، ويقمع الله الخطية فلا تعود تسيطر على سكان الأرض (أشعياء 11: 9).

(3) كفارة الإثم: كلمة كفارة تعني تغطية، كما قال الشاعر العربي "في ليلة كفر الغمام نجومها" أي ستر الغمام وغطى نجومها. لقد اعترف دانيال لله قائلاً "أخطأنا وأثمنا"، وكان رد الله عليه، إن الإثم سيغطى، والذي غطى إثم إسرائيل وآثام العالم كله هو شخص المسيح الكريم الذي قال عنه يوحنا الرسول "وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً" (1 يوحنا 2: 2). والذي قال عنه بولس الرسول "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره لأجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله" (رومية 3: 24 و 25).

الأمور الإيجابية:

(4) ليؤتى بالبر الأبدي: هذا البر الأبدي هو بر الداخل والخارج، وهو بر مصدره الله، إنه حالة العلاقة الصحيحة مع الله، هذه الحالة التي يحصل عليها الفرد بإيمانه بالمسيح "الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء" (1 كورنثوس 1: 30). هذا البر ليس هو البر الذاتي المكتوب عنه "وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة أعمال برنا" (أشعياء 64: 6)، ولكنه البر الذي جاء به الرب يسوع الذي قال عنه أشعياء النبي "وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها" (أشعياء 53: 11) وهو البر الذي سيتمتع به الشعب القديم مستقبلاً "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجح ويجري حقاً وعدلاً في الأرض. في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برنا" (إرميا 23: 5 و 6) – وبر المسيح بر أبدي لا يزول (أشعياء 51: 89).

(5) ولختم الرؤيا والنبوة: ظن البعض أن كلمة "ختم الرؤيا والنبوة" تعني وضع ختم الله عليها لإعلان صدقها ودقتها. ولكن المعنى الذي يحمله الأصل العبري يعني إتمام الرؤيا والنبوة للشعب القديم، وبهذا يختم عليها إذ لا تعود هناك حاجة إليها بعد أن تتم بحرفيتها.

(6) ولمسح قدوس القدوسين: اختلف مفسرو الكتاب المقدس في شرح هذه العبارة فقال بعضهم أنها تشير إلى نزول الروح القدس على المسيح بهيئة جسمية مثل حمامة إتماماً للنبوة "أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مزمور 45: 7) وإتماماً لنبوة أشعياء "روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق" (أشعياء 61: 1).

وقال آخرون أن كلمة "قدوس القدوسين" يمكن ترجمتها "قدس الأقداس" وبهذا تشير إلى مسح الهيكل الألفي الذي وصفه حزقيال في سفره [اقرأ حزقيال 41: 1 – 42: 20]. وقد أمر الربموسى في القديم قائلاً "وتأخذ دهن المسحة وتمسح المسكن وكل ما فيه وتقدسه وكل آنيته ليكون مقدساً" (خروج 40: 9) ويعتقد "لاركن" أن الإشارة في هذا النص إلى مكان لا إلى شخص.


تقسم السبعين أسبوعاً

"فاعلم وأفهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع وستون أسبوعاً يعود ويبني سوق وخليج في ضيق الأزمنة. وبعد اثنين وستين أسبوعاً يقطع المسيح وليس له وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها. ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب." (دانيال 9: 25 - 27).

قسم جبرائيل السبعين أسبوعاً إلى ثلاث حقب:

الأولى: سبعة أسابيع أي 7 × 7 تساوي 49 سنة

الثانية: اثنان وستون أسبوعاً 62 × 7 تساوي 434 سنة

الثالثة: أسبوع واحد أي سبع سنين

ويصف جبرائيل الأحداث التي ستتم خلال هذه الفترة الزمنية التي ارتبطت ببعضها والتي مدتها سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً أي 49 + 434 تساوي 483 سنة. ولكنه أبقى الأسبوع منفصلاً وتحدث عن أحداثه الرهيبة.

الحقبة الزمنية الأولى: سبعة أسابيع

"فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها سبعة أسابيع" (دانيال 9: 25).

إذا فنقطة البداية في هذه الحقبة هي "خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها" أي خروج أمر أحد الملوك العظام لتجديد أورشليم.

وقد سجل العهد القديم ثلاثة أوامر ملكية:

الأمر الأول: أصدره كورش الملك سنة 538 قبل الميلاد (عزرا 1: 1 – 4 و 5: 13 - 17) [اقرأ أيضاً أشعياء 44: 28، 45: 1 – 4، 2 أخبار 36: 22 و 23] هذا الأمر الملكي كان محدداً بإعادة بناء بيت الله (عزرا 6: 3). ولأن أمر الملك كورش لم يذكر إعادة بناء أورشليم، بل بيت الله فقط، فنحن سنستبعد هذا الأمر لأنه يتفق في تفاصيله مع ما جاء في سفر دانيال (9: 25).

الأمر الثاني: أصدره الملك داريوس سنة 517 قبل الميلاد وهو مذكور في سفر عزرا 6: 1 – 12، وهو تثبيت من الملك داريوس لأمر الملك كورش، ولا نجد فيه ذكراً لإعادة بناء أورشليم.

الأمر الثالث: أصدره ارتحشستا الملك سنة 445 قبل الميلاد، وهو ينطبق تماماً على ما ذكره دانيال 9: 25 في تفاصيله، وهذا الأمر الملكي مذكور في سفر نحميا الإصحاح الثاني، ويذكر بدقة إعادة بناء سور أورشليم "سور المدينة" (نحميا 2: 8). وبعد أن أخذ نحميا هذا الأمر قال للشعب "هلم فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً" (نحميا 2: 17). وقد "كمل السور" (نحميا 6: 15).

فأمر الملك ارتحشستا هو في اعتقادنا بداية إتمام نبوة دانيال، ومن صدور هذا الأمر إلى الانتهاء من تجديد أورشليم وبنائها مرت سبعة أسابيع أي 49 سنة بني خلالها سوق وخليج وسط الضيق الذي عاناه نحميا ومن معه من الشعب القديم. وقد استغرق تجديد أورشليم مدة 49 سنة. (يوحنا 2: 20).

الحقبة الزمنية الثانية: اثنان وستون أسبوعاً

ثم يستمر الارتباط بين السبعة أسابيع والاثنين وستين أسبوعاً.

"وبعد اثنين وستين أسبوعاً يقطع المسيح وليس له"

تذكر النبوة أنه بعد اثنين وستين أسبوعاً من تجديد أورشليم وبنائها "يقطع المسيح وليس له" أي يقطع من أرض الأحياء لا بسبب ذنب جناه بل لأجل خطية شعبه، وخطايا العالم كله.

هذا القطع كان إتماماً لنبوة أشعياء "وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا، كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا.. من الضغطة ومن الدينونة أخذ. وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء أنه ضرب من أجل ذنب شعبي" (أشعياء 53: 5 - 8) وقد مات المسيح على الصليب بعد 434 سنة من تجديد أورشليم وبنائها.

"وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها" (دانيال 9: 26).

تنتقل النبوة إلى وقت خراب أورشليم سنة 70 ميلادية، ولكنها في دقتها تذكر أن الخراب سيتم بواسطة شعب رئيس آت، وهنا يجب أن نذكر أن النبوة هنا تتحدث عن رئيسين "المسيح الرئيس" (دانيال 9: 25) و"الرئيس الآتي" (دانيال 9: 26) وتؤكد أن "الرئيس الآتي" سيأتي من الشعب الذي سيخرب المدينة ويهدم الهيكل، وهو الشعب الروماني.

وقد جاء الرومان بقيادة "تيطس فيسباسيانوس" وخربوا مدينة أورشليم وهدموا الهيكل سنة 70 ميلادية.

وينتهي هذا الخراب بطوفان الغضب "انتهاؤه بغمارة" "وإلأى النهاية" أي إلى نهاية هذا الدهر فقد قضى الله على الشعب القديم أن يعيش وسط الحرب والخرب.

الحقبة الزمنية الثالثة: أسبوع واحد

هنا تتوقف عجلة النبوة ويبقى من الحقبة الزمنية أسبوعاً واحداً لم تتم حوادثه.

وليس بدعاً أن لا تتم النبوة كلها دفعة واحدة، فالكثير من النبوات المذكورة في نصوص واحدة لم تتم دفعة واحدة أو في وقت واحد، بل أن هناك فاصلاً زمنياً طويلاً يفصل بينها.

خذ مثلاً النبوة المذكورة في أشعياء 61: 1 و 2 و 3 "روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق. لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا. لأعزي كل النائحين. لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة فيدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد".

عندما دخل الرب يسوع إلى المجمع في الناصرة وفتح السفر، كان الموضع الذي وجده هو أشعياء إصحاح 61 وقد توقف عند "وأكرز بسنة مقبولة للرب" (لوقا 4: 16 - 19).

فهو في مجيئه الأول تمم الجزء الأول من نبوة أشعياء 61: 1 – 3، والجزء الثاني سيتم في مجيئه الثاني، مجيء يوم الانتقام، والعزاء للشعب القديم (أشعياء 63: 1 - 5). وبين إتمام الجزء الأول والثاني من هذه النبوة فاصل زمني وصل حتى الآن حوالي ألفي سنة مع أن النبوة جاءت في نص واحد.

خذ أيضاً نبوة زكريا "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان. وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم وتقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زكريا 9: 9 و 10).

فقد تم النصف الأول من هذه النبوة حين دخل المسيح أورشليم (متى 21: 1 - 11)، أما النصف الثاني فهو ينتظر الإتمام في المجيء الثاني للمسيح، والفاصل الزمني بين النصفين وصل حتى الآن إلى حوالي ألفي سنة.

هناك نبوة ثالثة هي نبوة جبرائيل الملاك للعذراء مريم إذ قال لها "ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 31 - 33).

وقد تم الجزء الأول من النبوة عندما ولد المسيح من العذراء، ولكن النصف الثاني سوف يتم في ملكه الألفي السعيد حين يأخذ كرسي داود أبيه، ولا يستطيع أحد أن ينهي ملكه.

وصلنا الآن إلى الأسبوع الأخير الباقي من السبعين أسبوعاً، ولكي نفهم هذا النص لابد أن نربطه بنبوة ربنا التي قالها وهو جالس على جبل الزيتون.

فنبوة ربنا في إنجيل متى 24: 1 – 41 تنقسم إلى ثلاثة أقسام. أولاً: ما قبل الضيق العظيم (متى 24: 4 - 8). ثانياً: الضيق العظيم نفسه (متى 24: 9 - 28). ثالثاً: ما بعد الضيق العظيم (متى 24: 29 - 31).

وكل حوادث هذه النبوة ستحدث في هذا الأسبوع الأخير الباقي من أسابيع دانيال السبعين.

وينقسم هذا الأسبوع إلى قسمين مبتدأ الأوجاع، والأوجاع الفظيعة خلال النصف الثاني منه، ثم معركة هرمجدون ومجيء ربنا يسوع المسيح ثانية.

تقول النبوة المذكورة في دانيال "ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب" (دانيال 9: 27).

قال بعض المفسرين أن العهد المذكور هنا هو عهد المسيح الرئيس مع كثيرين، وأنه بموته على الصليب أبطل الذبيحة والتقدمة، وجاء الخراب إلى الهيكل القديم في أورشليم.

وتفسير كهذا لا يستقيم مع النص مع اعترافنا بصعوبته، فإذا كان المسيح قد أبطل الذبيحة والتقدمة بموته على الصليب، فلماذا ينتظر إلى وسط الأسبوع ليبطل الذبيحة والتقدمة، والمنطق يدعونا إلى أن هذا الإبطال كان يجب أن يتم فوراً بعد قيامته من الأموات. لكن التاريخ أثبت أن الهيكل ظل قائماً، وظلت الذبائح الدموية تقدم فيه حتى سنة 70 ميلادية؟

التفسير المستقيم في اعتقادنا أن العهد المثبت بين " الرئيس الآتي" والكثيرين من الشعب القديم التي تنفرد هذه النبوة بالحديث عنهم، هو أن هذا "الرئيس الآتي" هو الحاكم العالمي القادم، هو الأثيم الذي ذكره بولس في (2 تسالونيكي 2: 8)، وهو إنسان الخطية ابن الهلاك (2 تسالونيكي 2: 3) وهو الوحش الطالع من البحر (رؤيا 13: 1 - 8)، وهو أحد أباطرة الرومان السابقين، والذي سوف يصعد من الهاوية (رؤيا 17: 8 و 11).

سيثبت هذا الحاكم العالمي القادم عهداً مع كثيرين من المرتدين من الشعب القديم فيقولون "قد عقدنا عهداً مع الموت وصنعنا ميثاقاً مع الهاوية. السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا لأننا جعلنا الكذب ملجأنا وبالغش استترنا" (أشعياء 28: 15).

وفي وسط الأسبوع "يبطل الذبيحة والتقدمة".. ويجلس نفسه في هيكل الله الذي سيبنى في أورشليم في مكان الهيكل القديم (2 تسالونيكي 2: 4) وهذه هي رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي، وهي الإشارة ببدء الضيقة العظيمة التي مدتها ثلاث سنين ونصف.

بجلوس الحاكم العالمي القادم في الهيكل يصبح الهيكل مكاناً لرجسة الخراب وتتم الكلمات "وعلى جناح الأرجاس مخرب" وقد أوقف إبليس يسوع على "جناح الهيكل" (متى 4: 5) وكان وقتئذ ما زال بيت الله، أما حين يجلس فيه الحاكم العالمي القادم مظهراً نفسه أنه إله فسيكون جناحه جناح الأرجاس لا جناح هيكل الله. ويستمر هذا الوضع الحزين الأسود حتى يتم ويصب المقضي على المخرب. أي حتى يتم قضاء الله المعلن في هذه النبوة على الهيكل أو على الحاكم العالمي القادم والذي أوضح الرب يسوع معناه لتلاميذه وهو جالس على جبل الزيتون.

إن عجلة النبوة تدور بسرعة مذهلة، والعالم اليوم يتدهور أدبياً، واقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً.. ويسرع إلى الضيقة العظيمة، وعلينا نحن الذين عرفنا الرب وكلمة النبوة أن نحفظ في قلوبنا كلمات ربنا "فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة فيصادفكم ذلك اليوم بغتة. لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه كل الأرض. اسهروا إذاً وتضرعوا في كل حين لكي تحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون وتقفوا قدام ابن الإنسان" (لوقا 21: 34 - 36).

فمع أن مجيء ربنا يسوع سيكون كلص في الليل لغير العارفين "وأما أنتم أيها الأخوة فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص" (1 تسالونيكي 5: 4).

  • عدد الزيارات: 24691