Skip to main content

الفصل الحادي عشر - الملك المتعظم

تستمر الرؤيا المعطاة لدانيال في الإصحاح العاشر إلى نهاية السفر، والملاك المرسل من الله لإعطاء هذه النبوة لدانيال يستمر في حديثه حتى يصل إلى أحداث وقت النهاية.

وينقسم الإصحاح الحادي عشر إلى ثلاثة أقسام

أولاً: زمن الإمبراطورية الفارسية (دانيال 11: 1 و 2)

ثانياً: زمن الإمبراطورية اليونانية (دانيال 11: 3 - 35)

ثالثاً: زمن الوحش الطالع من البحر وأحداث وقت النهاية (دانيال 11: 36 - 45)

ويحتاج دارس سفر دانيال إلى دراسة تاريخ الإمبراطوريات العالمية القديمة.. الإمبراطورية الفارسية، الإمبراطورية اليونانية، والإمبراطورية الرومانية حتى يستطيع فهم نبوات هذا السفر النبوي العظيم.

ينتهي الإصحاح العاشر بالكلمات "ولكني أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق" وكتاب الحق هنا هو كما قلنا كتاب الخطة الإلهية المرسومة لهذه الإمبراطوريات، وفيه سجل الله خطته التي قضى بها على الإمبراطوريات التي ستحكم الأرض خلال أزمنة الأمم، وتنتهي بالمجيء الثاني للمسيح، الذي فيه يؤسس الرب يسوع ملكه الألفي السعيد على الأرض. وتسجيل هذا القضاء المرسوم في كتاب الحق يؤكد سيادة الله المطلقة على الأمم والشعوب والملوك والأفراد "وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل" (دانيال 4: 35) كما يؤكد أنه الإله المطلق المعرفة، الذي يعرف النهاية من البداية والذي يقول "قدموا دعواكم يقول الرب. أحضروا حججكم يقول ملك يعقوب. ليقدموها ويخبرونا بما سيعرض. ما هي الأوليات أخبروا فنجعل عليها قلوبنا ونعرف آخرتها أو أعلمونا المستقبلات. أخبروا بالآتيات فيما بعد فنعرف أنكم آلهة" (أشعياء 41: 21 - 23) [اقرأ أيضاً أشعياء 44: 6 - 8].

هكذا تؤكد النبوات لاهوت إلهنا، فهو الله المطلق الوجود، المطلق القدرة، المطلق المعرفة. وهو الذي كل أعماله حق.

يستمر الملاك حديثه لدانيال فيقول:

"وأنا في السنة الأولى لداريوس المادي وقفت لأشدده وأقويه" (دانيال 11: 1).

انتهت الإمبراطورية البابلية بكارثة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين "فأخذ المملكة داريوس المادي وهو ابن اثنتين وستين سنة" (دانيال 5: 31).

ويقول الملاك الذي يتحدث إلى دانيال "وأنا في السنة الأولى لداريوس المادي وقفت لأشدده وأقويه".

والسؤال هو: من هو الشخص الذي وقف هذا الملاك القوي يشدده ويقويه.. هل هو داريوس أو هو الملاك ميخائيل؟ قال بعض المفسرين أن الملاك وقف ليشدد داريوس حتى يعامل الشعب القديم بالحسنى. لكن في رأينا أن الملاك وقف ليشدد "ميخائيل" في حربه مع رئيس فارس.

ففي السنة الأولى لداريوس المادي، حين انتقلت السلطة من الإمبراطورية البابلية إلى الإمبراطورية الفارسية ترينا القصة المسجلة في الإصحاح السادس أن هناك محاولة جرت لجعل داريوس يقف موقف العداء من الشعب القديم، وكانت أول خطوط هذه المحاولة الإيقاع بدانيال الذي فاق على الوزراء والمرازبة وفكر الملك في أن يوليه على المملكة كلها (دانيال 6: 3). ودبر الوزراء والمزاربة مكيدة للقضاء على دانيال، انتهت بطرحه في جب الأسود، وبأن جاء ملاك وسد أفواه الأسود (دانيال 6: 22) وكان من نتيجة هذا التدخل الإلهي العجيب أن تحولت سياسة داريوس لمصلحة الشعب القديم ونادى في كل مملكته بعبادة إله إسرائيل (دانيال 6: 25 - 27).

فالكلمات "وقفت لأشدده وأقويه" تعود إلى ميخائيل الرئيس القائم للشعب القديم الذي نجح كما رأينا في مهمته بإنقاذه دانيال من الأسود.


زمن الإمبراطورية الفارسية

"والآن أخبرك بالحق. هوذا ثلاثة ملوك يقومون في فارس والرابع يستغني بغنى أوفر من جميعهم وحسب قوته بغناه يهيج الجميع على مملكة اليونان" (دانيال 11: 2)

في الوقت الذي رأى فيه دانيال هذه الرؤيا كان "كورش" الملك الفارسي هو الملك الحاكم (دانيال 10: 1) والملوك الثلاثة الذين قاموا بعده والذين يذكرهم الملاك لدانيال بكلماته "هوذا ثلاثة ملوك يقومون في فارس" هم "قمبيز Cambyses" ابن كورش وهو أحشويرش المذكور في (عزرا 4: 6). و"سميردس Smirdis" وهو ارتحشستا المذكور في (عزرا 4: 7). و"داريوس هستاسبس Darius Hystaspes" المذكور في (عزرا 4: 24). أما "الرابع" الذي يستغني بغنى أوفر من جميعهم. وحسب قوته بغناه بهيج الجميع على مملكة اليونان فهو الملك "كسركس Xerxes" وهو المذكور في سفر استير باسم "أحشويرش الذي ملك الهند إلى كوش على مئة وسبع وعشرين كورة" (أستير 1: 1) ووفرة غنى الملك أحشويرش تظهر في عظمة وبذخ الوليمة التي عملها لجميع رؤسائه وعبيده وشرفاء بلدان مملكته" (أستير 1: 2 - 8).

ويحدثنا التاريخ أن الملك أحشويرش استخدم غناه الوفير في إقامة وتدريب جيش قوى من كل شعوب إمبراطوريته زاد عدده عن مليوني مقاتل استعداداً لغزو مملكة اليونان. وقد استخدم أحشويرش هذا الجيش في محاولته غزو اليونان سنة 480 قبل الميلاد. وعلينا أن نذكر أن الرؤيا التي رآها دانيال أعطيت له في السنة الثالثة لكورش ملك فارس التي ربما كانت سنة 537 قبل الميلاد أي قبل حدوث هذا الغزو بزمن طويل. قد تراجع الغزاة الفارسيون بعد أن حطم الأثينيون أسطولهم الحربي في معركة سلاميس Salamis البحرية وهي إحدى المعارك الحاسمة في التاريخ.


زمن الإمبراطورية اليونانية

"ويقوم ملك جبار ويتسلط تسلطاً عظيماً ويفعل حسب إرادته. وكقيامه تنكسر مملكته وتنقسم إلى رياح السماء الأربع ولا لعقبه ولا حسب سلطانه الذي تسلط به لأن مملكته تنقرض وتكون لآخرين غير أولئك" (دانيال 11: 3 و 4)

إن كر مملكة اليونان في عدد 2 هو مفتاح تحديد شخصية الملك الجبار المذكور في عدد 3. فالنبوة تنتقل للحديث عن قيام ملك جبار، لكنها لا تذكر من هو ولا من أين هو.. لكن بربط عدد 2 بعدد 3 يتبين لنا أن الملك الجبار المذكور في عدد ليس 3 ليس ملكاً فارسياً بل ملك يوناني وهو باليقين "الاسكندر الأكبر" الذي رأينا مملكته في التمثال البهي الذي رآه الملك نبوخذ نصر وذكرت بالكلمات "بطنه وفخذاه من نحاس" (دانيال 2: 32) ورأيناه في "تيس المعز الذي جاء من المغرب" (دانيال 8: 5)

بعد حوالي قرن ونصف من الغزو الفارسي لليونان، قاد الاسكندر القوات اليونانية في هجوم ساحق وانتصر على الإمبراطورية الفارسية، وقد كان الاسكندر ملكاً جباراً تسلط على دول كثيرة، وتميز بعبقرية عسكرية، وفعل حسب إرادته إذ كان ملكاً أوتوقراطياً ويقال أنه بكى حين لم يجد أمامه أرضاً للغزو.

وتستمر النبوة فتقول "وكقيامه تنكسر مملكته".. وهنا نرى دقة النبوة وروعتها، وكلمة "كقيامه" تعني عندما يصل إلى قمة جبروته وسلطانه، كما نقرأ في دانيال 8: 8 "فتعظم تيس المعز جداً ولما اعتز انكسر القرن العظيم". وتعني كلمة "كقيامه" أيضاً مدى قصر مدة سلطان الاسكندر، فقد مات في بابل وهو في الثانية الثلاثين من عمره سنة 323 قبل الميلاد.

وتستمر النبوة فتقول "وتنقسم مملكته إلى رياح السماء الأربع ولا لعقبه ولا حسب سلطانه الذي تسلط به" (دانيال 11: 4)

بعد موت الاسكندر بسنوات قليلة انقسمت مملكته إلى أربع أجزاء، ولم يرث عرش الاسكندر أحد من نسله "ولا لعقبه" مع أن الاسكندر كان له ابنان الأول اسمه "هيركيولس Hercules" من زوجته برسين Barsine ابنة داريوس وقد اغتال بوليسبركون Polysperchon هذا الابن بعد موت أبيه بزمن قصير. والثاني وقد ولد بعد وفاة أبيه من زوجته روكسانا Roxana وقد أسمته أمه الاسكندر، وقد اغتيل هذا الابن مع حارسه سنة 310 قبل الميلاد، وهكذا تمت النبوة بحرفيتها إذ لم يرث الاسكندر أحد من بنيه.

انقسمت الإمبراطورية إلى أربعة أقسام سنة 301 قبل الميلاد بعد زمن من الفوضى والحروب بين أربعة من قادة الجيش يطلق عليهم التاريخ اليوناني اسم "الخلفاء" هؤلاء الأربعة هم: بطليموس، سيلقوس، ليسيماخوس، كاساندر.

وهكذا انقسمت مملكة اليونان إلى رياح السماء الأربع، ولكن لم يصل أحد هؤلاء القادة إلى سلطان الاسكندر كما تقول النبوة "ولا حسب سلطانه الذي تسلط به" وهذا ما سبق أن قرأنه في الكلمات "وإذا انكسر – أي الاسكندر الأكبر – وقام أربعة عوضاً عنه فستقوم أربعة ممالك من الأمة ولكن ليس في قوته" (دانيال 8: 22) وهكذا بهذا التقسيم للإمبراطورية اليونانية انقرضت هذه المملكة كإمبراطورية موحدة، وأعطيت في النهاية لآخرين غير هؤلاء القادة ونسلهم إذ أخذتها الإمبراطورية الرومانية.

"ويتقوى ملك الجنوب. ومن رؤسائه من يقوى عليه ويتسلط. تسلط عظيم تسلطه" (دانيال 11: 5)

انقسمت الإمبراطورية اليونانية إلى أربعة أجزاء كما ذكرنا في الفصل الثامن، أخذ بطليموس مصر، وهو ونسله من البطالسة هم ملوك الجنوب في النبوة، لأن مصر تقع جغرافياً في جنوب فلسطين.

وأخذ سيلقوس سوريا، وهو ونسله من السلوقيين وهم ملوك الشمال في النبوة.

ومن العدد الخامس الذي نحن بصدد تفسيره تتحدث النبوة عن العلاقات بين هاتين الأسرتين الملكيتين.

وتقول النبوة "ويتقوى ملك الجنوب" الذي هو بطليموس ملك مصر. "ومن رؤسائه من يقوى عليه ويتسلط تسلط. عظيم تسلطه" (دانيال 11: 5)

الرئيس المذكور هنا هو سيلقوس Seleucus الذي كان أحد قادة جيش الاسكندر والذي صار والياً على بابل، وقد اضطر إلى الهرب لأن أنتيجونس Antigonus أخذ منه بابل، فجاء بطليموس الذي عينه قائداً في الجيش واستطاع بعدئذ أن يستعيد لنفسه بابل سنة 312 قبل الميلاد، وهو التاريخ الذي يبدأ منه عصر السلوقيين. وهكذا تقوى سيلقوس، وتسلط تسلط عظيم.

وإنها لحقيقة تاريخية أن سلطة السلوقيين فاقت كثيراً سلطة البطالسة.

"وبعد سنين يتعاهدان وبنت ملك الجنوب تأتي إلى ملك الشمال لإجراء الاتفاق ولكن لا تضبط الذراع قوة ولا يقوم هو ولا ذراعه وتسلم هي والذين أتوا بها والذي ولدها ومن قواها في تلك الأوقات" (دانيال 11: 6)

بعد مرور سنين يتعاهد ملك الجنوب مع ملك الشمال، أي تقوم بينهما فترة هدنة حربية على أساس زواج بنت ملك الجنوب لملك الشمال. والمعاهدة المذكورة في هذا النص تمت بعد 35 سنة من موت سيلقوس. فقد جاءت "برنيس Berenice" بنت بطليموس الثاني وتزوجت انتيوخوس الثاني ملك الشمال، وكان القصد من هذا الزواج سياسياً وبشرط أن يطلق "أنتيوخوس ثيوس" المسمى بأنتيوخوس الإلهي زوجته "لاوديس Laodice" ولكن هذا الزواج السياسي الذي قصد به إيجاد السلام بين الملكين انتهى بكارثة لأن "برنيس" لم تستطع الاحتفاظ بقوتها باعتبارها زوجة الملك بعد موت والدها الذي حدث بعد زواجها بوقت قصير. فقد هجرها "أنتيوخوس ثيوس" الذي عرف بشخصيته المتقلبة، وأعاد زوجته الأولى "لاوديس". ومع أن لاوديس رجعت إليه لكنها لم تغفر له أبداً إبعادها ليكون حراً ويتزوج برنيس المصرية. وقررت في قلبها قراراً سرياً لتنتقم لنفسها. وفي أول فرصة سنحت لها قتلت زوجها أنتيوخوس وبرنيس. وهكذا تمت النبوة بحرفيتها "وسلمت برنيس" لهذه النهاية الشنيعة. وتحطم أنتيوخوس وقوته. (دانيال 11: 6)

ولما صار العرش شاغراً توجت لاوديس ابنها "سيلقوس كالينيكس Seleucus Callinicus" مكان أبيه.

"ويقوم من فرع أصولها قائم مكانه ويأتي إلى الجيش ويدخل حصن ملك الشمال ويعمل بهم ويقوى. ويسبي إلى مصر آلهتهم أيضاً مع مسبوكاتهم وآنيتهم الثمينة من فضة وذهب ويقتصر سنين عن ملك الشمال. فيدخل ملك الجنوب إلى مملكته ويرجع إلى أرضه" (دانيال 11: 7 - 9)

بعد أن عرف "بطليموس إيرجتس Ptolemy Euergetes" خبر قتل أخته برنيس قاد جيشاً قوياً متجهاً إلى شمال سوريا واستولى على ميناء إنطاكية، ونهب الهياكل، وحمل معه إلى مصر كميات ضخمة من الذهب والفضة، وأصنام السوريين. وبعد هذه الحملة الجبارة اقتصر ملك الجنوب عن ملك الشمال عدة سنين.

 "فيدخل ملك الجنوب إلى مملكته ويرجع إلى أرضه" (دانيال 11: 9) والترجمة الأفضل لهذا النص "فيدخل إلى مملكة ملك الجنوب ويرجع إلى أرضه" بمعنى أن ملك الشمال يدخل إلى مملكة ملك الجنوب لكنه يضطر للرجوع إلى أرضه.

وهذا ما تم تاريخياً إذ بعد سنتين من هجوم ملك الجنوب على ملك الشمال انتقاماً لأخته برنيس، استطاع سيلقوس كالينيكس أن يستعيد قوته، وأن يقود جيشه للهجوم على بطليموس ملك الجنوب، لكن بطليموس هزمه هزيمة ساحقة واضطر ملك الشمال أن يرجع إلى أرضه.

"وبنوه يتهيجون فيجمعون جمهور جيوش عظيمة ويأتي آت ويغمر ويطمو ويرجع ويحارب حتى إلى حصنه" (11: 10) بنو ملك الشمال يتهيجون، أي يمتلكهم الهياج وحب الانتقام، والإشارة هنا إلى بني ملك الشمال سيلقوس سيرانوس Seleucus Cenaunus وأنتيوخوس الأكبر. "ويأتي آت ويغمر ويطمو" هذه الكلمات تصف جمهور الجيوش العظيمة الآتية المتدفقة كطوفان غامر، وكلمة "يأتي آت" تشير إلى أنتيوخوس وحده لأن أخاه سيلقوس سيرانوس قتل في إحدى المعارك في آسيا الصغرى "يرجع ويحارب حتى إلى حصنه" وهذا يعني رجوع أنتيوخوس لاستئناف القتال ضد مصر، وبعد استيلائه على لبنان وفلسطين ثبت نفسه في غزة أو ربما في رفح وكانت تعتبر في ذلك الوقت حصناً لمصر.

"ويغتاظ ملك الجنوب فيخرج ويحاربه أي ملك الشمال ويقيم جمهوراً عظيماً فيسلم الجمهور في يده" (دانيال 11: 11)

يغتاظ ملك الجنوب، بطليموس ملك مصر بسبب الهجوم السوري، ويتجمع الشعب المصري وراء ملكه لينتقموا لأنفسهم من السوريين، ويتأهب جيش عظيم للسير نحو الشمال لمحاربة سوريا. ويقال أن جيش بطليموس كان مكوناً من 70000 من الجنود المشاة، و5000 فارس، و73 فيلاً. وعندئذ يخرج أنتيوخوس ملك الشمال وقد أعد جيشاً عظيماً لمواجهة الهجوم المصري، ولكن ملك الشمال أصيب بهزيمة ساحقة، ويقول جيروم Jerome أن أنتيوخوس خسر كل جيشه، وكاد يقع أسيراً في يد ملك الجنوب لولا أن بادر بالهرب إلى الصحراء، وهكذا تمت النبوة "فيسلم الجمهور في يده" أي أن جيش ملك الشمال الكثير العدد وقع في يد ملك الجنوب.

"فإذا رفع الجمهور يرتفع قلبه ويطرح ربوات ولا يعتز" (دانيال 11: 12)

عندما يهزم بطليموس ملك مصر، أنتيوخوس ملك سوريا، ويجرف جمهور جيشه أمام القوات المصرية وهذا ما تعنيه الكلمات "فإذا رفع الجمهور" أي إذا جرف الجيش وهزم "يرتفع قلبه" أي يرتفع قلب بطليموس فيتكبر بسبب نصرته "ويطرح ربوات" أي يهزم الألوف، وقد تم هذا حرفياً في معركة رفح التي هزم فيها بطليموس أنتيوخوس، ويقول بوليبيوس Polybius المؤرخ اليوناني "أن السوريين خسروا 10000 من الجنود المشاة، و300 من الفرسان، و5 فيلة، كما وقع في الأسر 4000 أسير".

لكن هذا النصر العظيم لم يكن سبباً في تقوية ملك الجنوب ولذا تقول النبوة "ولا يعتز" أي لا يصبح قوياً بهذا النصر، والسبب هو أن بطليموس كان رجلاً منغمساً في الملذات وقد احتفل بنصرته بالإغراق في شهواته ولم يستطع أن يجعل من نصرته الساحقة قوة لنفسه.

"فيرجع ملك الشمال ويقيم جمهوراً أكثر من الأول ويأتي بعد حين بعد سنين بجيش عظيم وثروة جزيلة" (دانيال 11: 13).

استطاع أنتيوخوس أن يجمع جيشاً كبيراً بسبب نجاحه في غزو الشرق، وهو الآن يعود لمحاربة ملك الجنوب "بعد سنين" بجيش عظيم وثروة جزيلة، ويمكن ترجمة عبارة "ثروة جزيلة" إلى "معدات حربية كثيرة"، وقد حدثت هذه الحرب بعد 13 سنة من هزيمة أنتيوخوس في رفح.

"وفي تلك الأوقات يقوم كثيرون على ملك الجنوب وبنو العتاة من شعبك يقومون لإثبات الرؤيا ويعثرون" (دانيال 11: 14).

"يقوم كثيرون" الإشارة هنا إلى أنتيوخوس الذي تحالف مع فيليب المقدوني، وربما تشير كذلك إلى المتمردين الذين ظهروا في مصر، وكل هؤلاء قاموا على "ملك الجنوب" ملك مصر وكان "بطليموس فيلوباتور"، وزوجته الملكة قد ماتا بطريقة غامضة، وخلفه ابنه الغلام الصغير بطليموس الخامس سنة 203 قبل الميلاد.

"وبنو العتاة من شعبك يقومون لإثبات الرؤيا ويعثرون" بنو العتاة هم الظالمون القساة، وفي ترجمة أخرى "اللصوص، The Robbers".. هؤلاء قاموا ضد ملك الجنوب خيانة وظلماً، رغم الإحسانات الكثيرة التي أغدقها ملوك البطالسة على اليهود – أي بني العتاة هنا "من شعبك" أي من اليهود شعب دانيال. وعبارة "يقومون لإثبات الرؤيا ويعثرون" قد تعني أحد معنيين، محاولتهم إثبات الرؤيا التي رآها دانيال بوقوفهم ضد ملك الجنوب، أو أن وقوفهم هذا أدى إلى "إثبات الرؤيا" إشارة إلى الاضطهاد الفظيع الذي أوقعه عليهم أنتيوخوس أبيفانس. ولكنهم "يعثرون" أي يفشلون في غرضهم وربما يسقطون في الحرب.

"فيأتي ملك الشمال ويقيم مترسة ويأخذ المدينة الحصينة قلا تقوم أمامه ذراعا الجنوب ولا قومه المنتخب ولا تكون له قوة للمقاومة" (دانيال 11: 15)

إذ تشجع المصريون بقوة روما المتزايدة، والتي هددت سوريا، قامت الجيوش المصرية بقيادة "سكوباس Scopas" لمحاربة ملك الشمال، ولكن ملك الشمال استطاع هزيمة سكوباس عند مدينة بانيس Paneas، قرب منابع مياه نهر الأردن، ومن ثم أرغم "أنتيوخوس" "سكوباس" على الاستسلام عند صيدون التي تسميها النبوة "المدينة الحصينة" وهي المدينة التي استولى عليها الملك السلوقي ما بين سنة 199 – 198 قبل الميلاد.

"فلا تقوم أمامه ذراعا الجنوب ولا قومه المنتخب ولا تكون له قوة للمقاومة" (دانيال 11: 15)

والذراع في الكتاب المقدس ترمز إلى القوة (مزمور 71: 8) فقوة ملك الجنوب لا تستطيع الصمود أمام قوات ملك الشمال، كما لا يستطيع أفضل جنوده الصمود، ولا تبقى لديهم قوة للمقاومة.

"والآتي عليه يفعل كإرادته وليس من يقف أمامه ويقوم في الأرض البهية وهي بالتمام بيده" (دانيال 11: 16) الآتي هنا هو ملك الشمال، أنتيوخوس الذي تسيطر عليه نشوة النصر فيفعل كإرادته، وليس من يقف أمامه، ويستولي على الأرض البهية، الأرض المقدسة فلسطين، وتصبح تحت سيطرته التامة.

"ويجعل وجهه ليدخل بسلطان كل مملكته ويجعل معه صلحاً ويعطيه بنت النساء ليفسدها فلا تثبت ولا تكون له" (دانيال 11: 17)

إذ يشعر ملك الشمال بتهديد روما "يجعل وجهه" أي يقرر أن يقوم بعمل صلح سياسي مع ملك الجنوب، ويعطي أنتيوخوس ملك الشمال ابنته كليوباترا زوجة للملك الغلام الصغير بطليموس الخامس ملك الجنوب الذي كان في ذلك الوقت في السابعة من عمره.

و"كليوباترا" تسمى في النبوة بنت النساء على اعتبار أنها حوت في شخصيتها جمال وجاذبية وحيل النساء، وربما يكون المعنى أنها "بنت النساء" إذ تربت على أيدي مربيات من النساء. ونسبتها إلى "النساء" لا إلى أبيها يظهر تأثير النساء على حياتها.

ولقد كان غرض أنتيوخوس من تزويج ابنته كليوباترا للملك الغلام بطليموس الخامس غرضاً سياسياً. وكلمة "ليفسدها" قد تعني إفساد كليوباترا بإدخالها في اللعبة السياسية، وقد تعني إفساد المملكة المصرية بواسطة ولاء كليوباترا إلى أبيها.

ولكن أنتيوخوس فشل في هدفه السياسي لأن ابنته كليوباترا حين تم زواجها الفعلي بعد سنين من بطليموس وقفت دائماً إلى جانب زوجها ضد أبيها وهكذا لم تثبت خطته ولم تكن ابنته في صفه.

"ويحول وجهه إلى الجزائر ويأخذ كثيراً منها ويزيل رئيس تعييره فضلاً عن رد تعييره عليه. ويحول وجهه إلى حصون أرضه ويعثر ويسقط ولا يوجد" (دانيال 11: 18 و 19)

يتجه أنتيوخوس ملك الشمال بعد فشل خطته في مصر بغزو جزر البحر الأبيض المتوسط وعلى الأخص جزر آسيا الصغرى "ويأخذ كثيراً منها".

"ويزيل رئيس تعييره فضلاً عن رد تعييره عليه" (دانيال 11: 18)

ابتدأ التيار في التحول ضد أنتيوخوس الأكبر، عندما جاء "رئيس" هو القنصل الروماني "لوسيوس سيسبيو أسياتيكوس Lucius Scipio Asiaticus" وهو الرجل الذي قال عنه يونج أنه تسبب في هزيمة أنتيوخوس وطالب أنتيوخوس بالتوقف عن توسعه، وكانت لهجة الرئيس الروماني شديدة أحس فيها أنتيوخوس نغمة التعبير، فبدأ في معاملة السفراء الرومان باستهزاء في اجتماع عقد في ليسماخيا Lysimachia وقال لهم بغرور وازدراء "إن آسيا ليست تحت سيطرة الرومان، وأنا لا أخضع لأوامرهم" وهكذا "رد تعييره عليه"

لكن غروره كان بداية انهياره

بعد أن هزم أنتيوخوس القوات المصرية، اتجه إلى مواجهة التهديد الآتي من الغرب وحاول غزو اليونان وفشل في غزوه فشلاً ذريعاً وهزم هزيمة منكرة سنة 191 ق.م. عند ثيرموبالي Thermopylae شمال أثينا، ثم سنة 189 ق.م. عند ماجنيسيا Magnesia جنوب شرق أفسس وكانت هزيمته بواسطة الجنود الرومان تحت قيادة الجنرال سيسبيو Scipio الروماني. وهكذا تمت النبوة "ويحول وجهه إلى حصون أرضه" إذ أنه فشل في غزو حصون الأراضي اليونانية، كان عليه أن يحمي حصون أرضه هو ولكنه فشل فشلاً نهائياً وتمت الكلمات "ويعثر ويسقط ولا يوجد".

"فيقوم مكانه من يعبر جابي الجزية في فخر المملكة وفي أيام قليلة ينكسر لا بغضب ولا بحرب" (دانيال 11: 20).

تتحدث هذه النبوة عن الملك السلوقي، الذي ملك في الحقبة ما بين زمن أنتيوخوس الأكبر وأنتيوخوس أبيفانس، وهو الملك "سيليكوس الرابع Selecus IV".. فبسبب تزايد قوة روما، اضطر إلى دفع جزية للرومان قدرها ألف وزنة كل سنة. ولكي يستطيع توفير هذا القدر الكبير من المال كان لابد لسيليكوس أن يضع ضرائب خاصة من اليهود تحصل منهم بواسطة "جابي الجزية" ويذكر السفر التاريخي سفر المكابيين أن اسم هذا الجابي كان "هيليودوروس رئيس الوزراء Heliodorus" وقد أخذ هذا الرجل كنوزاً من الهيكل في أورشليم. ويقول "زوكلر Zockler": "بعد تعيين هيليودوروس بوقت قصير جداً لنهب الهيكل انتهى سيليكوس فجأة وفي ظروف غامضة ربما عن طريق سم وضعه له هيليودوروس" وتمت النبوة بدقة رائعة.

هذا كله قاد إلى الاضطهاد العظيم الذي أوقعه أنتيوخوس أبيفانس على اليهود من الشعب القديم.


أنتيوخوس أبيفانس ووقت النهاية

"فيقوم مكانه محتقر لم يجعلوا عليه فخر المملكة ويأتي بغتة ويمسك المملكة بالتملقات" (دانيال 11: 21).

ابتداء من هذا العدد نتقابل ثانية مع ذلك الحاكم الشرير "أنتيوخوس أبيفانس"، الذي هو "القرن الصغير" المذكور في الإصحاح الثامن. وعلينا أن نضع في أذهاننا أن النبوة في هذا الإصحاح لا تتحدث فقط عن أنتيوخوس أبيفانس، بل تتحدث عن المستقبل البعيد، وعن ظهور الوحش الطالع من البحر، الذي كان أنتيوخوس أبيفانس رمزاً باهتاً له. نقول هذا لأن الملاك الذي تحدث إلى دانيال في الرؤيا قال له "وجئت لأفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة لأن الرؤيا إلى أيام بعد" (دانيال 10: 14) ثم يعود فيقول "وبعض الفاهمين يعثرون امتحاناً لهم للتطهير وللتبييض إلى وقت النهاية. لأنه بعد إلى الميعاد" (11: 35) وأخيراً يقول "أما أنت يا دانيال فأخف الكلام واختم السفر إلى وقت النهاية. كثيرون يتصفحونه والمعرفة تزداد" (دانيال 12: 4).

فالرؤيا التي رآها بدأت بالإمبراطورية الفارسية، ثم بالإمبراطورية اليونانية ورأسها العظيم الاسكندر الأكبر، وبانقسام هذه الإمبراطورية إلى رياح السماء الأربع، وتركزت بعد ذلك في سوريا ومصر، على اعتبار أن سوريا يحكمها "ملك الشمال" وأن مصر يحكمها "ملك الجنوب" وأخيراً وصلت بنا إلى عصر "أنتيوخوس أبيفانس" الذي كان كما ذكرت رمزاً باهتاً للحاكم العالمي القادم، الوحش الطالع من البحر.

ونحن نرى أن هذا هو ترتيب النبوة في سفر دانيال، فهي تبدأ بالحديث عن الأحداث التي ستتم قريباً لكنها تنتقل وتتركز في أحداث وقت النهاية، الوقت الذي سيسبق المجيء الثاني للمسيح. وهذا واضح في الإصحاح السابع (دانيال 7: 8 - 27) ثم في الإصحاح الثامن (دانيال 8: 23 - 26)، ثم في الإصحاح التاسع (دانيال 9: 26 و 27) ثم في الإصحاح العاشر (دانيال 10: 14) ثم هنا في الإصحاح الحادي عشر (دانيال 11: 21 - 45).

"فيقوم مكانه محتقر لم يجعلوا عليه فخر المملكة ويأتي بغتة ويمسك المملكة بالتملقات" (دانيال 11: 21).

هذا "المحتقر" هو أنتيوخوس أبيفانس، ولم يكن من حقه الشرعي أن يرتقي العرش، لأن الملك كان يجب أن يعطي لابن الملك "سيلقوس فليوباتور Selecus Philopator" "ديمتريوس سوتر Demetrius Soter" بالوراثة، لكن أنتيوخوس قرر أن يأخذ المملكة لنفسه. وبالتملقات كسب المملكة واستسلم السوريون له بهدوء وسلام.

كان أنتيوخوس أبيفانس من الشخصيات التاريخية الغريبة ويصفه "ستيوارت" بالوصف التالي:

"كان طماعاً وكان ضالاً، وكان مفرطاً في انغماسه بالشهوات، كما كان سادياً يميل إلى تعذيب الآخرين، وكان مزيجاً من الحماقة الشديدة والضعف في كثير من نواحي شخصيته، كما كان يتميز بالدهاء والمهارة في نواحي أخرى وخاصة فيما يختص بالتملقات. في فترة من ملكه كان هناك احتمال أن يصل إلى قمة القوة، ولكن التيار تحول ضده، ومات في ظروف تشبه تلك التي مات فيها أبوه. ويقيناً أن وحشيته وحماقاته ستكون دائماً حديث التاريخ. ولقد أطلق على نفسه اسم "أبيفانوس Epiphanes" ومعناه "المجيد" بينما أطلق عليه معاصروه اسم "أبيمانس Epimanes" ومعناه "المجنون".

"وأذرع الجارف تجرف من قدامه وتنكسر وكذلك رئيس العهد" (دانيال 11: 22).

الأذرع في الكتاب المقدس تشير إلى القوة (خروج 6: 6، مزمور 136: 12، حزقيال 20: 23، خروج 15: 16، مزمور 77: 15) وأذرع الجارف هنا لا تشير إلى القوات التي حاولت استعادة الملك لابن سيلقوس، ولكنها تشير إلى القوات المصرية التي هزمها أنتيوخوس وهكذا "تجرف من قدامه" "وتنكسر" كمل تنكسر آنية الخزف. "وكذلك رئيس العهد" والكلمات تشير إلى رئيس كان له عهد مع أنتيوخوس. يقول بعض المفسرين أن هذا الرئيس هو "بطليموس فيلوميتور Ptolemy Philometor" الذي تحالف مع أنتيوخوس، ولكن هذا التفسير لا يصف العلاقة التي بين الاثنين، ولو كان هذا الرئيس هو بطليموس لأعطته النبوة اسمه "ملك الجنوب". ويقول مفسرون آخرون أن "رئيس العهد" هو "أونياس Onias" الكاهن اليهودي الذي عزله أنتيوخوس. ويبدو أن الرأي الثاني هو الأرجح، وأن العهد المذكور هو "عهد الله" مع شعبه القديم (دانيال 11: 28).

"ومن المعاهدة معه يعمل بالمكر ويصعد ويعظم بقوم قليل" (دانيال 11: 23)

يقول جيروم أن أنتيوخوس أظهر روح الصداقة للمصريين، وهكذا كسب قلوبهم إذ عاهدهم بالسلام، وكان ماكراً في خطته، وبهذا المكر السياسي صعد نجمه وعظم شأنه ووصل إلى مركز القوة، والقوم القليل المشار إليهم في النص هم المشايعون لأنتيوخوس والذين أيدوه في ملكه.

"يدخل بغتة على أسمن البلاد ويفعل ما لم يفعله آباؤه ولا آباء آبائه. يبذر بينهم نهباً وغنيمة وغنى ويفكر أفكاره على الحصون وذلك إلى حين" (دانيال 11: 24).

يقيم أنتيوخوس "بغتة" أي بدون سابق إنذار، والناس يظنون أنهم في طمأنينة وسلام ويدخل على أسمن البلاد أي أغناها، ويعمل عملاً لا يخطر على البال "لم يفعله آباؤه ولا آباء آبائه" "يبذر بينهم نهباً وغنيمة وغنى" فهو يدخل أسمن وأغنى البلاد والمقاطعات ويسلبها ثم يوزع النهب والغنيمة والغنى على الناس، وبهذا يخدعهم ويسلب قلوبهم، ويكسب حبهم. وبعد أن تنجح خطته في كسب عواطف رعاياه "يفكر أفكاره على الحصون" والحصون هنا هي حصون مصر التي فكر أنتيوخوس في غزوها.. واستمر تفكيره "إلى حين" أي إلى الوقت المحدد من الله.

الحملة ضد مصر (دانيال 11: 25 - 28)

"وينهض قوته وقلبه على ملك الجنوب بجيش عظيم وملك الجنوب يتهيج إلى الحرب بجيش عظيم وقوي جداً ولكنه لا يثبت لأنهم يدبرون عليه تدابير" (دانيال 11: 25)

يصور النص الحالة السياسية في الحقبة التي تمت فيها هذه النبوة، ومشاعر العداء بين ملك الشمال "أنتيوخوس أبيفانس" وملك الجنوب وهو على الأرجح "بطليموس فيلوميتور" التي سادت بين الملكين في ذلك الوقت. ومع أ ملك الجنوب واجه حملة الشمال بجيش عظيم وقوي جداً إلا أنه هزم بسبب خيانة أولئك الذين تظاهروا بمساعدته.

"والآكلون أطايبه يكسرونه وجيشه يسقط كثيرون قتلى" (دانيال 11: 26).

كان الذين خانوا ملك الجنوب هم الذين يأكلون أطايبه وقد كسروه بتدابيرهم التي دبروها ضده. ومع أن جيشه كان قوياً جداً، حارب ببسالة إذ اقتحم المعركة كالمياه الطامية الغامرة إلا أن كثيرين قد سقطوا قتلى وحاقت الهزيمة بملك الجنوب.

"وهذان الملكان قلبهما لفعل الشر ويتكلمان بالكذب على مائدة واحدة ولا ينجح لأن الانتهاء بعد إلى ميعاد" (دانيال 11: 27)

كان المؤتمر الذي عقد بين الملكين على غرار الكثير من المؤتمرات السياسية التي سجلها التاريخ، فقد قابل أنتيوخوس عدوه ملك الجنوب بمظاهر الود ولكنه تصرف ضد التقاليد الشرقية إذ كلمه بالكذب، وتظاهر ملك الجنوب بتصديق أنتيوخوس وهو يعلم أنه كاذب. وتفشل خطة الملكان، ولا ينجح كذبهما لأن وقت الله المحدد لانتهاء الحروب بينهما لم يكن قد حان بعد.

"فيرجع إلى أرضه بغنى جزيل وقلبه على العهد المقدس فيعمل ويرجع إلى أرضه" (دانيال 11: 28)

رجع أنتيوخوس من مصر بغنى جزيل، وقلبه على العهد المقدس أي على الأرض المقدسة وسكانها أصحاب العهد المقدس مع الله، وقد وضع أنتيوخوس في قلبه العداء لله ولشعبه القديم "فيعمل ويرجع إلى أرضه" وقد عمل غرض قلبه ورجع إلى أرضه.

حملة أخرى ضد مصر (دانيال 11: 29)

"وفي الميعاد يعود ويدخل الجنوب ولكن لا يكون الآخر كالأول. فتأتي عليه سفن من كتيم فييئس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس ويعمل ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" (دانيال 11: 29 و 30)

"وفي الميعاد" أي حين يحين الوقت المحدد من الله، فهو سيد الأرض كلها، يحرك قلوب الملوك "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله" (أمثال 21: 1).

حين يحين هذا الوقت يدخل ملك الشمال ملك سوريا في معركة حربية أخرى ضد ملك الجنوب ملك مصر، ولكنه لا ينتصر في هذه الجملة العسكرية كما انتصر في حملته السابقة "ولكن لا يكون الآخر كالأول".. ويبدو أن السبب في نكسته العسكرية هو مجيء سفن من كتيم "فتأتي عليه سفن من كتيم" و"كتيم" هي الاسم العبري لجزيرة قبرص حيث وقف الأسطول البحري الروماني عند إتمام هذه النبوة.

ومجيء "سفن كتيم" ضد أنتيوخوس هو مقدمة التعريف بالقوة الجديدة التي ظهرت في شرق البحر المتوسط وهو قوة روما.

ويخبرنا يوسيفوس المؤرخ اليهودي عن ما حدث لأنتيوخوس بواسطة الأسطول الروماني فيقول "ولكن أنتيوخوس أبيفانس طرد ليس فقط من الإسكندرية، ولكن من مصر كلها بإعلان الرومانيين، الذين أمروه أن يترك مصر وشأنها. ورجع الملك أنتيوخوس من مصر خوفاً من الرومان، وقام بحملة ضد أورشليم، ولما كان هناك سنة 143 من ملك السلوقيين استولى على المدينة بغير حرب، لأن الذين من جماعته فتحوا له أبواب المدينة"

عاد أنتيوخوس بعد أن يأس من غزو مصر بسبب تدخل الأسطول البحري الروماني، ودخل أورشليم، والغيظ الذي لم يستطع سكبه على مصر، صبه على أورشليم وسكانها المشار إليهم "بالعهد المقدس" وتقول النبوة "ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" وقد أصغى أنتيوخوس إلى اليهود المرتدين عن عهد إلههم، ووجد في مشورتهم الوسيلة التي يتمم بها غرض قلبه.

"وتقوم منه أذرع وتنجس المقدس الحصين وتنزع المحرقة الدائمة وتجعل الرجس المخرب"

"تقوم منه أذرع" وهذه الأذرع هي قوات أنتيوخوس العسكرية، وقد قامت هذه القوات بتنجيس "المقدس الحصين" الهيكل القديم، وأوقفت اليهود عن تقديم محرقاتهم اليومية المشار إليها بالعبارة "المحرقة الدائمة"، ومع ذلك كله بنى أنتيوخوس مذبحاً للوثن فوق مذبح المحرقة وذبح خنزيراً على ذلك المذبح. وكان عمله الفظيع بتقديمه الخنزير في الهيكل المقدس إتماماً للنبوة "وتجعل الرجس المخرب" فقد عملت قواته العسكرية هذا العمل المشين.

لقد سعى أنتيوخوس أبيفانس جاهداً أن يزيل كل أثر للديانة اليهودية، ويدخل بدلها الحضارة اليونانية.

"والمعتدون على العهد يغويهم بالتملقات. أما الشعب الذين يعرفون إلههم فيقوون ويعملون" (دانيال 11: 32).

المعتدون على العهد هم المرتدون من اليهود، وأنتيوخوس سيغويهم أي يفسدهم بأساليب التملق التي اشتهر بها. أما الشعب الذين يعرفون إلههم، أي يعرفون أنه إله قدوس، وقادر، فهؤلاء يقوون ولا يتنجسون بأي أطعمة نجسة، ويفضلون الموت عن التعدي على عهد إلههم. بل يموتون في ولائهم لربهم.

"والفاهمون من الشعب يعلمون كثيرين. ويعثرون بالسيف وباللهيب وبالسبي وبالنهب أياماً" (دانيال 11: 33).

الفاهمون أي الذين تعلموا شريعة الله ومعنى النبوات، يعلمون كثيرين حتى يثبتوا، ويظلوا في أمانتهم لله. والبعض بسبب الاضطهادات القاسية "بالسيف وباللهيب وبالسبي وبالنهب أياماً" (مزمور 73: 1 - 3).

لقد قامت قوات أنتيوخوس بمهاجمة أورشليم يوم سبت، وأخذوا النساء والأطفال أسرى، وهدموا الكثير من البيوت، واحتلوا القلعة المطلة على الهيكل. وقد استمر هذا الاضطهاد والتعذيب أياماً.

"فإذا عثروا يعانون عوناً قليلاً ويتصل بهم كثيرون بالتملقات" (دانيال 11: 34).

تمت هذه النبوة بظهور "يهوذا المكابي"، الذي أعلن اليهود ولكن لم يكن في مقدوره أن يضع حداً لعذابهم واضطهادهم. وبسبب ظهور يهوذا المكابي ووقفته ضد أنتيوخوس اتصل كثيرون من اليهود المرتدين، باليهود الذين يقاومون أنتيوخوس بالتملقات. ويبدو أن اتصالهم بهؤلاء المقاومين كان نتيجة المعاملة القاسية التي عاملهم بها أنتيوخوس.

"وبعض الفاهمين يعثرون امتحاناً لهم للتطهير وللتبييض إلى وقت النهاية. لأنه إلى الميعاد" (دانيال 11: 35).

إن قصد الله من السماح بكل هذا الاضطهاد وهذا العذاب لشعبه القديم هو تطهير هذا الشعب وتبييضه، وعثرة بعض الفاهمين هي "امتحان" لفصل الحنطة عن التبن، ولعزل الحق عن الباطل، ولفصل أولئك الأمناء الشجعان، عن الخونة الجبناء. وتقول النبوة إن هذا الاضطهاد على الشعب القديم سيستمر إلى "وقت النهاية".. ويقيناً أن وقت أنتيوخوس لم يكن وقت النهاية، لكنه كما قلنا كان رمزاً ومثالاً لم سيحدث لليهود في وقت النهاية. هذا الوقت هو "إلى الميعاد" أي أنه وقت محدد بالتدقيق في خطة الله لشعبه.


الوحش الطالع من البحر

"ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة وينجح إلى إتمام الغضب لأن المقضي به يجري، ولا يبالي بآلهة آبائه ولا بشهوة النساء وبكل إله لا يبالي لأنه يتعظم على الكل. ويكرم إله الحصون في مكانه وإلهاً لم تعرفه آباؤه يكرمه بالذهب والفضة وبالحجارة الكريمة والنفائس. ويفعل في الحصون الحصينة بإله غريب. من يعرفه يزيده مجداً ويسلطهم على كثيرين ويقسم الأرض أجرة" (دانيال 11: 35 - 39).

تنتقل النبوة من الحديث عن أنتيوخوس أبيفانس إلى الحديث عن الملك المتعظم.. هذا الملك يوصف بهذه الصفات:

/1/- إنه ملك أوتوقراطي "يفعل الملك كإرادته" عدد 36

/2/- إنه ملك متعظم على كل إله عدد 36

/3/- إنه ملك مجدف على الله عدد 36

/4/- إنه ملك ناجح في إتمام هدفه "ينجح في إتمام الغضب" عدد 36

/5/- إنه ملك لا يبالي بآلهة آبائه عدد 37

/6/- إنه ملك لا يبالي بشهوة النساء عدد 37

/7/- إنه ملك يكرم إله الحصون وإله لم تعرفه آباؤه عدد 38

لم تنطبق هذه الأوصاف على أنتيوخوس أبيفانس، ولكنها تنطبق على الحاكم العالمي القديم، الوحش الطالع من البحر، إنسان الخطية، الأثيم. (2 تسالونيكي 2: 3 - 11)

وقبل أن نستطرد في الحديث عن هذا الملك الأوتوقراطي القادم، علينا أن نميز بين الوحش الطالع من البحر الحاكم العالمي القادم، وبين الوحش الطالع من الأرض النبي الكذاب.

الوحش الطلع من البحر (رؤيا 13: 1 - 8) سيكون أممياً، بينما الوحش الطالع من الأرض سيكون يهودياً، لأنه سيكون نبياً كذاباً واليهود لن يقبلوا نبياً ليس من وسطهم (رؤيا 13: 11 - 17)

الوحش الطالع من البحر سيكون ملكاً سياسياً.

الوحش الطالع من الأرض سيكون قائداً روحياً... فهو الذي سيقوم بالترويج للوحش الطالع من البحر والمناداة به إلهاً (رؤيا 13: 12 - 15). وسيكون الوحش الطالع من الأرض "النبي الكذاب" (رؤيا 19: 20) من سبط دان كما قال يعقوب في نبوته "يكون دان حية على الطريق أفعواناً على السبيل" (تكوين 49: 17) ويسميه يوحنا ضد المسيح. (1 يوحنا 4: 3)

وحديث نبوة دانيال خاص بالوحش الطالع من البحر، وبالحاكم العالمي القادم، وهي نبوة ستتم بحرفيتها في وقت الضيقة العظيمة، وهذا واضح من الكلمات "وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت" (دانيال 12: 1).

فالوقت الذي سيظهر فيه هذا الملك الأوتوقراطي المتعظم هو زمان الضيق العظيم.. وخلال هذا الزمان سيظهر ذلك الملك وسينتهي.

يصفه دانيال بقوله "ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظم على كل إله..."

هو إذاً "نبوخذ نصر" آخر سيتمتع بحكم أوتوقراطي، ويفعل كإرادته بلا دستور، أو برلمان، أو قوة قضائية رادعة.

"ويرتفع ويتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة وينجح في إتمام الغضب لأن المقضي به يجري" (دانيال 11: 36)

وكلمات النبوة هنا تنطبق تماماً على كلمات النبوة في سفر الرؤيا كما تنطبق على كلمات النبوة التي سجلها بولس في رسالته الثانية للتسالونيكيين.. وبهذا نعرف أن الملك الذي تحدث عنه دانيال، هو نفسه الوحش الطالع من البحر الذي تحدث عنه يوحنا، وهو نفسه إنسان الخطية الأثيم الذي تحدث عنه بولس. [اقرأ رؤيا 13: 1 – 8 و2 تسالونيكي 2: 3 - 12].

والآن تعال معي لنقرأ كلمات يوحنا في سفر الرؤيا.

"ثم وقفت على رمل البحر. فرأيت وحشاً طالعاً من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلى قرونه عشرة تيجان وعلى رؤوسه اسم تجديف. والوحش الذي رأيته كان شبه نمر وقوائمه كقوائم دب وفمه كفم أسد وأعطاه التنين قدرته وعرشه وسلطاناً عظيماً... وأعطى فماً يتكلم بعظائم وتجاديف وأعطى سلطاناً أن يفعل اثنين وأربعين شهراً. ففتح فمه بالتجديف على الله ليجدف على اسمه وعلى مسكنه وعلى الساكنين في السماء. وأعطى أن يصنع حرباً مع القديسين ويغلبهم وأعطى سلطاناً على كل قبيلة ولسام أمة. فسيسجد له جميع الساكنين على الأرض الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذبح" (رؤيا 13: 1 - 8).

هنا نرى أنه كما أن "الملك المتعظم" في دانيال "يتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة" أي يتكلم بعظائم وتجاديف على الله.. هكذا الوحش الطالع من البحر "فتح فمه بالتجديف على الله وعلى اسمه".

وكما أن الملك المتعظم في دانيال سينجح إلى إتمام الغضب، أي إلى الوقت المحدد من الله للضيقة العظيمة، كذلك الوحش الطالع من البحر "أعطى سلطاناً أن يفعل اثنين وأربعين شهراً" وهو الوقت المحدد للأوجاع الرهيبة في فترة الضيقة.

"ولا يبالي بآلهة آبائه ولا بشهوة النساء وبكل إله لا يبالي لأنه يتعظم على الكل" (دانيال 11: 37).

من عبارة "ولا يبالي بآلهة آبائه" نرى أن هذا الملك ليس يهودياً بل أممياً كان آباؤه يؤمنون بآلهة كثيرة.. لأن اليهود لا يؤمنون إلا بإله واحد "اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد" (تثنية 6: 4).

وعبارة "شهوة النساء" أعطيت لها عدة مفاهيم. قال بعض المفسرين أن كل امرأة إسرائيلية كانت أن يولد منها المسيح "مشتهى كل الأمم" (حجي 2: 7) وهذا الملك المتعظم لا يبالي بالمسيح. وقال آخرون أن "شهوة النساء" كانت الإله تموز معبود النساء كما نقرأ في حزقيال "وقال لي بعد تعود تنظر رجاسات أعظم هم عاملوها. فجاء بي إلى مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز" (حزقيال 8: 13 و 14) وقال آخرون أن "شهوة النساء" هي الحب كما قال داود وهو يرثي يوناثان "محبتك لي أعجب من محبة النساء" (2صموئيل 1: 26) وقال آخرون أن "شهوة النساء" هي الشهوة الجنسية كما نقرأ في أشعياء "شهوتك وجدت لذلك لم تضعفي" (أشعياء 57: 10).

وفي اعتقادي أن هذه العبارة تصور هذا الملك المتعظم خال من كل عواطف الحب الإنساني الطبيعي وهو "بكل إله لا يبالي" فهو لا يعبأ بأي إله مهما كان "لأنه يتعظم على الكل".

وتعظمه على الكل يأتي بنا إلى نبوة بولس الرسول في رسالته الثانية إلى التسالونيكيين، فقد كتب بولس يقول:

"ثم نسألكم أيها الأخوة من جهة ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه. أن لا تتزعزعوا سريعاً عن ذهنكم ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا أي أن يوم المسيح قد حضر. لا يخدعنكم أحد على طريقة ما. لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولاً ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك. المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهاً أو معبوداً حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله" (2 تسالونيكي 2: 1 - 4).

"ويكرم الله الحصون في مكانه وإلهاً لم تعرفه آباؤه يكرمه بالذهب والفضة وبالحجارة الكريمة والنفائس" (دانيال 11: 38).

بينما هذا الملك المتعظم "بكل إله لا يبالي" عدد 37، نقرأ عنه هنا "يكرم إله الحصون".. وفي اعتقادنا أن إله الحصون هنا هو إله الحرب ليس "مارس" إله الحرب.. بل الحرب باعتبارها الإله الذي يؤمن به.. الحرب التي مركزها الحصون، والقوة العسكرية.

"وإله لم تعرفه آباؤه يكرمه بالذهب والفضة".. من هو هذا الإله الذي لم تعرفه آباؤه؟ أن هذا الحاكم المستبد لا يبالي بالآلهة فكيف يكرم هذا الإله الذي لم تعرفه آباؤه بالذهب والفضة؟ هل هذا الإله هو إله الحرب الذي وضع عند قدميه كل ميزانية دولته؟ أو هو إله من ابتكار عقله المريض؟!

إن هذا الملك المتعظم أوجد إلهاً لم تعرفه آباؤه، ليس من آلهة المصريين، ولا من آلهة اليونان، ولا من آلهة الرومان... وكم من أناس صنعوا لأنفسهم آلهة من الجنس، أو المال، أو السلطة.. أما هذا الملك فهو سيكرم إلهاً لم تعرفه آباؤه. وهنا يجدر بنا أن نلاحظ أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بغير إله، فإما أن يتعبد الله الحي الحقيقي الذي يحرره من الخطية ويجدد قلبه بروحه، ويطهر حياته بدم المسيح الكريم، وإما أن يتعبد لإله من صنعه، إله يبتكره من خياله المريض... والإنسان بإيمانه في أي إله تجد لديه الاستعداد في إكرام هذا الإله بالذهب والفضة وبالحجارة الكريمة والنفائس (خروج 32: 2 و 3).

"ويفعل في الحصون الحصينة بإله غريب. من يعرفه يزيده مجداً ويسلطهم على كثيرين ويقسم الأرض أجرة" (دانيال 11: 39).

باعتناقه الحرب عقيدة وإلهاً يقوم الملك المتعظم بالسيطرة على الحصون. ومن يقف إلى جواره ويعرفه ويعترف بإلهه يزيده مجداً، ويضعه في مركز السلطة على جزء من مملكته، لأنه "يقسم الأرض أجرة".

لقد بدا واضحاً أن هذا الملك المتعظم سيتصف حكمه بالمادية، والقوة العسكرية، وعبادة الإله الغريب. وهنا تظهر الحكومة العالمية الموحدة تحت سلطته.


الشرق الأوسط في وقت النهاية

"ففي وقت النهاية يحاربه ملك الجنوب فيثور عليه ملك الشمال بمركبات وبفرسان وبسفن كثيرة ويدخل الأراضي ويجرف ويطمو" (دانيال 11: 40)

ففي وقت النهاية..

الأحداث المقبلة إذاً ترتبط بوقت النهاية، وقد وصل ذلك الملك المتعظم إلى قمة النجاح، وتجسدت خطط، وتحقق طموحه.

لقد أعطاه الشيطان قدرته وعرشه وسلطاناً عظيماً، ولكن القانون العام لابد أن ينطبق عليه "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً" لنضع في ذهننا أن الملك المتعظم هو الحاكم العالمي القادم، وفي وقت النهاية يحاربه ملك الجنوب، ولعل ملك الجنوب في هذا النص لا يشير إلى مصركما ذكرنا فيما سبق، بل إلى كل أفريقيا، نقول ذلك لأننا نجد مكاناً آخر لمصر في هذا النص "ويمد يده على الأراضي وأرض مصر لا تنجو" (دانيال 11: 42).

فعندما يحارب ملك الجنوب، الملك المتعظم، يثور ملك الشمال على ملك الجنوب بمركبات وبفرسان وبسفن كثيرة، لأن ملك الشمال في ذلك الوقت سيكون تحت سيادة الحاكم العالمي القادم "ويدخل الأراضي ويجرف ويطمو" والذي يدخل الأراضي هنا هو "الملك المتعظم"، وهو يبدو في هذه الصورة النبوية منتصراً ناجحاً.

"ويدخل إلى الأرض البهية فيعثر كثيرون وهؤلاء يفلتون من يده أدوم وموآب ورؤساء بني عمون" (دانيال 11: 41).

ودخول تاوحش، الملك المتعظم، إلى الأرض البهية، وهي الأرض المقدسة (دانيال 11: 16) سيتسبب في عثرة الكثيرين من اليهود، "وهؤلاء يفلتون من يده أدوم وموآب ورؤساء بني عمون"، ولعل إفلاتهم من يده سببه أنهم يقفون موقفاً عدائياً ضد الشعب القديم.

"ويمد يده على الأراضي وأرض مصر لا تنجو. ويتسلط على كنوز الذهب والفضة وعلى كل نفائس مصر" (دانيال 11: 42 و 43).

هنا نرى الحاكم العالمي القادم في حملاته العسكرية لحماية إمبراطوريته العالمية، يمد يده على الأراضي، ويسيء إلى مصر ناهباً كنوزها الذهبية الفرعونية، ونفائسها الأثرية التي لا تقدر بثمن.

"واللوبيون والكوشيون عند خطواته" (دانيال 11: 43).

وهذا يعني أن ليبيا والحبشة ستسير في خطوات الحاكم العالمي القادم، فتنضم إلى جيش الحاكم المنتصر وتخضع لسلطانه.

"وتفزعه أخبار من الشرق ومن الشمال فيخرج بغضب عظيم ليخرب وليحرم كثيرين" (دانيال 11: 44).

وربما تكون الأخبار المفزعة التي ستواجه هذا الملك المتعظم والآتية من الشرق، هي أخبار الملوك الذين من مشرق الشمس (رؤيا 16: 12) أما أخبار الشمال فلعلها من المنطقة الواقعة شمال فلسطين، ونتيجة هذه الأخبار أن هذا الملك يخرج بغضب عظيم ليخرب وليقتل كثيرين.

"وينصب فسطاطه بين البحور وجبل بهاء القدس ويبلغ نهايته ولا معين له" (دانيال 11: 45).

الفسطاط هو السرادق من الأبنية، أو الخيمة، والحاكم العالمي سيقيم خيمته بين البحور في أورشليم بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الميت "بين البحور وجبل بهاء القدس".

ويصل دانيال في نبوته إلى نهاية هذا الملك "ويبلغ نهايته ولا معين له".

وهنا نعود إلى نبوة زكريا وإلى سفر رؤيا يوحنا لنرى كيف بلغ هذا الملك العاتي، الذي تجسد فيه الشيطان ليدفع العالم لعبادته إلى نهايته..

وزكريا يقدم لنا صورة المعركة الأخيرة الحاسمة، معركة هرمجدون في الكلمات "هوذا يوم للرب يأتي فيقسم سلبك في وسطك. وأجمع كل الأمم على أورشليم للمحاربة فتؤخذ المدينة وتنهب البيوت وتفضح النساء ويخرج نصف المدينة إلى السبي وبقية الشعب لا تقطع من المدينة.

فيخرج الرب ويحارب تلك الأمم كما في يوم حربه يوم القتال. وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم" (زكريا 14: 1 - 4).

أما يوحنا الرائي فيرينا كيف ستجتمع الأمم على أورشليم للمحاربة، وكيف سيصل الوحش الطالع من البحر ومعه النبي الكذاب إلى نهايتهما فيقول:

"ورأيت من فم التنين ومن فم الوحش ومن فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة شبه ضفادع. فإنهم أرواح شياطين صانعة آيات تخرج على ملوك العالم وكل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم يوم الله القادر على كل شيء.. فجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون" (دانيال 16: 13 - 16).

وعلينا أن نذكر أنه قبل ذلك الوقت تكون روسيا قد هزمت تماماً بالتدخل الإلهي (حزقيال 38 و 39) وتكون أمريكا قد تدهورت حتى أن النبوة لم تذكر لها أدواراً في أحداث الأيام الأخيرة.

ويستمر يوحنا فيرينا كيف انتهت معركة هرمجدون، وانتهى بنهايتها الملك المتعظم، الأثيم، إنسان الخطية فيقول:

"ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا بفرس أبيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً وبالعدل يحكم ويحارب. وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم كلمة الله.. ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدرس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء. وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب.

ورأيت الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده. فقبض على الوحش والنبي الكذاب معه الصانع قدامه الآيات التي بها أضل الذين قبلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته وطرح الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه وجميع الطيور شبعت من لحومهم" (رؤيا 19: 11 – 16 و 19 و 20 و 21).

هكذا بلغ الملك المتعظم نهايته.

ولا معين له.

  • عدد الزيارات: 23465