Skip to main content

الإصحاح الثاني والثلاثون: خواء وخيبة الخصومة

لقد أفرغ أليفاز وبلدد وصوفر كل ما عندهم من أفكار. وأيوب بدوره سكت أيضاً! حينئذ دخل في المشهد شخص جديد وهو أليهو الذي معناه "الله نفسه". وتكلم الروح القدس على لسانه (1 بطرس 4: 11). وقد ظهر عجز الإنسان بوضوح، ففي أيوب ظهر عدم القدرة على احتمال التجربة، وفي أصدقائه ظهر بُطل التعزيات البشرية. والآن وقد ظهر بُطل الحكمة الأرضية. يتكلم الحكمة التي من فوق في أليهو (يعقوب 3: 14-17) لقد خزي الشيوخ الأربعة أمام هذا الرجل الأصغر منهم سناً. إن أليهو عنده تمييز. وقد انتظر بصبر نهاية الأحاديث السابقة. إن الشبان بصفة خاصة عليهم أن يتعلموا الإصغاء، وفي هذا علامة من علامات الحكمة (يعقوب 1: 19).

إن معرفة واختبارات الأكبر منهم هي أكبر من معرفتهم واختباراتهم بصفة عامة! وفي هذا أيضاً علامة من علامات الأدب والاحترام- ولكن هذه الاعتبارات لم تمنع أليهو من أن يغضب غضباً مقدساً. لقد مسّ أيوب ورفقائه مجد الله ولم يستطع رجل الله الأمين احتمال ذلك، وليس من حقه أن يتملّق أحداً أو أن يحابي لأحد وهذان خطران قلما نفلت منهما (ع21).

هذا القسم تمهيدي بوجه خاص. ولنا أولاً وفي أسلوب نثري ديباجة تفسيرية تقدم أليهو- شبيهة إلى حد ما بالإصحاح الأول والأخير من السفر ويعقب هذه الديباجة تفسير مهذّب يعلل به سكوته الطويل، وتوبيخ ضار للأصحاب من أجل خيبتهم. على أنه مملوء كلاماً. وينبغي أن يتحدث دفاعاً عن كرامة صانعه دفاعاً لا ينقصه الوعي المحقق. وهو يختم ديباجته بأقوال لطيفة لأيوب، مصالحاً إياه، داعياً له بأن يجيب بأي كلام يشاء والقسم كله يؤلف فاتحة مدهشة، تمتزج فيها خصائص التواضع والسخط والتشوق واللطف.

ويمكن تقسيم الإصحاح إلى أربعة أجزاء.

(ع1-5) مقدمة تفسيرية.

(ع6-10) أسباب سكوته.

(ع11-13) خيبة الأصحاب.

(ع14-22) لا بدّ أن يتكلم.


(ع1-5) مقدمة تفسيرية.

هذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها أليهو. فلا نقرأ عنه بين زمرة أصحابه الذين زاروا أيوب: أليفاز، بلدد، صوفر. ولئن لم نجد أي قول مباشر عن هذا الأمر، فليس من غير المحتمل أن أشخاصاً آخرين بخلاف هؤلاء الأصحاب كانوا قد جاءوا ورحلوا خلال المجادلات. ومهما يكن من أمر فإن أليهو كان طوال الوقت مستمعاً شغوفاً، ولذا فقد كان في مركز يؤهله للكلام عندما سكت الآخرون.

وفي دلالة اسمه مناسبة كبيرة "إلهي هو" فهو لا يتكلم عن نفسه لحساب نفسه، بل عن الله ولحساب الله. ومن هنا فهو رمز لسيدنا الذي كانت غايته الوحيدة أن يتكلم نيابةً عن الآب، "عرّفتهم اسمك" (يوحنا 17: 26).

إن كلمة أليهو التي تعني "إلهي هو" يمثل أمام الذهن الروحي صورة الرب يسوع المسيح الذي هو "الكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد" (رومية 9: 5) "الله ظهر في الجسد، الوسيط الوحيد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح".

والنقطة التي عندها يظهر أليهو في المشهد تستدعي منّا التفاتاً خاصاً. فقد فشل الأصحاب الثلاثة تمام الفشل عن معالجة أيوب لأن خدمتهم كانت ذات وجه واحد، فقد سلطوا عليه كمية كبيرة من الحق ولكن بدون النعمة (ص25: 4-6). فقد استطاعوا أن يجرحوا ولكن لم يمكنهم أن يعصبوا لذلك نرى أيوب من حين إلى آخر ينطق بمرارة في نفسه قائلاً "صحيح أنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة" "أطباء بطّالون كلكم" "معزون متعبون كلكم" "حتى متى تعذبون نفسي" "تراءفوا أنتم عليّ يا أصحابي".

هذه هي الكلمات التي فاضت بها نفس أيوب تحت تأثير خدمة أصحابه ذات الوجه الواحد ومع أنهم كانوا بلا شك مخلصين وصالحي النيّة إلاّ أنه كانت تعوزهم النعمة ولذلك لم يستطيعوا أن يخبروا أيوب أين يجد من يبحث عنه. لم يستطيعوا أن يعينوا من لا قوة له، ولا أن يشيروا على من لا حكمة له ولا أن يعصبوا الجريح ولا أن يعالجوا المريض. فلهجتهم كانت ناموسية قاسية وأمثال هؤلاء لا يصلحون لمعالجة الخاطئ المسكين الأثيم. لأنهم يطلبون أن يقف الشخص أمامهم كاملاً بلا عيب ولا جرح ولا وجع. أما إن وجدوا هناك جرحاً فحينئذ ينظرون إليه بكل حدة سائلين عن سبب ذلك الجرح، حقاً إنهم أطباء بطّالون وإن وجدوا هناك مصاباً فحينئذ يسألون بكل قساوة عن سبب ذلك المصاب.

لذلك كان من الطبيعي أن هؤلاء الأصحاب لا يصلون إلى التفاهم مع أيوب لأنهم طلبوا منه ما لا يمكنه تقديمه، وهو كان محتاجاً إلى ما لم يمكنهم إعطاؤه له فكانوا يتكلمون معه على أساس غير صحيح وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا أن يوصلوه إلى الأساس الصحيح لمجاوبتهم فهو كان يبرر نفسه وهذه غلطته وهم كانوا يدينونه وذلك نقصهم ولو أنهم تبادلوا مراكزهم معاً لأمكنهم الوصول إلى نتيجة. أما على حالتهم تلك فلم يصلوا إلاّ إلى أخذ ورد بلا نهاية. لأنه لم يرضَ أن يعترف أمامهم بشيء وهم لم يرضوا أن يتسامحوا معه في شيء. وعلى ذلك انقطع كل أمل في التفاهم.

وهنا برز أليهو فكان الرجل الكفء لهذا الموقف. وُجد ومعه العلاج الذي يحتاجه أيوب ولم يستطع أصحابه أن يقدموه له. فقد كان هو الرجل الذي طلبه أيوب وتمنّى أن يقف أمامه. وها هو قد وقف أمامه في شخص أليهو الذي يرمز لربنا المبارك الذي فيه قد أتت النعمة والحق "الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" وفي هذه الكلمات يظهر بهاء مجد الرب يسوع الأدبي ومجد خدمته. فقد أتى بالحق لإظهار حقيقة حال الإنسان وبالنعمة لمعالجة تلك الحالة التي أظهرها الحق.

فالحق يضع الخاطئ في مركزه الصحيح والنعمة تأتي بالله إليه حيث هو: فالنعمة لا تستطيع أن تعمل بدون الحق. والحق لا فائدة في عمله من دون النعمة. وكلاهما مرتبطان معاً في خدمة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. وكل منهما له مجد خاص ولكن ذلك المجد يزداد تألقاً عندما ننظر إليهما في ارتباطهما معاً. فالحق الذي يبيّن ويقرّر مطاليب الله يزداد بهاء ولمعاناً لارتباطه بالنعمة، والنعمة التي تسدّ أعواز الخاطئ يزيدها جمالاً أنها ترتكز عل أساس الحق وسنرى هذين العنصرين. النعمة والحق واضحين في خدمة أليهو التي نتأمل فيها الآن.

هو ابن برخئيل الذي يترجم "ليت الله يبارك". ومن هذه الدلالة نستطيع أن نتبيّن أن بركة الله أو رضاءه هي من نصيب الشخص الذي يقف إلى جانبه تعالى فحسب "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" وكابن برخئيل. لنا في هذه النسبة فكرة عن العلاقة أو النسبة القائمة بين سيدنا وبين الآب "ابن المبارك" وقد كان أبداً هكذا: فلما جاء إلى العالم استطاع أن يقول "إن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت". على أنه فيما عدا هذه الفكرة الكاملة نستطيع أن نستنتج أن بركة الله تنشئ الأمانة له وتصاحبها عل طول الطريق.

ثم نقرأ عن الأسماء العائلية "البوزي من عشيرة رام" كان بوز واحداً من أبناء ناحور، ولذلك فهو مرتبط بإبراهيم. أما رام فيفترض أنه اختصار للفظ آرام. تمييزاً للمنطقة التي أقامت فيها الأسرة. إذاً فقد كان أليهو من عائلة مشهورة وبلاد معروفة. لكن عندما نتأمل في دلالة هذه الأسماء. نجد تطابقاً عجيباً مع الأقوال السالفة. فإن اسم بوزي يترجم "المحتقر والمرفوض والمرذول". واسم رام يترجم "المرتفع، المعظّم". ونحن نعلم على من تصدق هذه التسميات. "محتقر ومخذول من الناس" "يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً" وهكذا نجد تأييداً توضيحياً لمركز أليهو وعمله الرمزيان. والآن نتقدم إلى الخطاب.

لما كفّ الأصحاب الثلاثة عن الكلام، وتُرك أيوب متحصناً في بره الذاتي، حمي غضب أليهو مضاعفاً، ضد أيوب لأنه فشل في تمجيده الله بواسطة الاعتراف ببره تعالى، وضد الأصحاب لإصرارهم العنيد على اتهاماتهم بينما عجزوا عن إقامة الدليل على صحة دعاواهم. وفي هذه الكلمات الموجزة تتضح وجهة نظر أليهو. أما الأعداد الباقية من الجزء الأول فإنها تفسّر كياسته في بقائه صامتاً. بسبب حداثته وشيخوختهم.

"على أيوب حمي غضبه لأنه حسب نفسه أبر من الله" هذا حق أن أيوب يرد نفسه، فالإصحاح السابق (31) الذي فرغنا منه كان كله من أوله إلى آخره يدور حول تبرير ذاته. إنه كان يتناول حقائق لا شك فيها ولكنها لم تكن لائقة في معرض الحديث عن معاملات الله ولماذا حلّت به هذه الكارثة العظيمة".

"وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه لأنهم لم يجدوا جواباً واستذنبوا أيوب" ونحن نسأل: ما الذي عاق هؤلاء الأصحاب الثلاثة عن فهم أيوب؟ الجواب نفس الشيء الذي أعاق أيوب نفسه. وهو الذات. فالذات لم تُدان. والواقع أن الذات هي إحدى الصعوبات الكبرى في طريق المسيحي كما هي في طريق الخاطئ.

"وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام لأنه أكبر منه أياماً" نعم وذلك كان جميلاً منه.

"فلما رأى أليهو أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة حمي غضبه" ولماذا؟ ليس من أجل نفسه يقيناً، ولكنه غضب عليهم من أجل الله.


(ع6-10) أسباب سكوته.

والآن يعلل سكوته بعبارات ملؤها المجاملة واللباقة. على أن مجرد كثرة الأيام ليس هو الذي يهب الحكمة، بل الروح المعطاة من الله. نسمة الله التي تجعل الإنسان المائت يختلف عن البهائم والحيوانات. فإذا ما تكلم أليهو عن حكمة الله، فمن حقه أن يسمعه الباقون.

"فأجاب أليهو بن برخئيل البوزي وقال أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأي فقلت الأيام تتكلم وكثرة السنون تظهر حكمة". وهكذا كان يجب أن يكون "ولكن في الناس روحاً" شيئاً أسمى من الاختبار فالروح هي أسمى جزء في طبيعة الإنسان. إن الجسم هو الإناء الخارجي والنفس هي التي تجعل الإنسان إنساناً وقد تكون عامة مشتركة بين الناس في حين أن لكل إنسان روحه الخاصة التي تميزه عن عداه. فمثلاً: جاء عن يوحنا المعمدان أنه جاء في روح إيليا وقوته وما كان ممكناً أن يقال عنه إنه جاء في نفس إيليا. لأن كل واحد إنما يأتي في نفسه الخاصة فالنفس هي مركز الشخصية. ولكن الروح هي طاقة الإنسان وقدرته. ولكن النفس والروح تسيران معاً في تشابه عجيب لدرجة أنه يصعب على أي ذكاء بشري التمييز بينهما، فهما مرتبطتان ومتحدتان معاً لكونهما من طبيعة روحية وعندما يموت الإنسان تصعد نفسه وكذلك تصعد روحه. كلاهما يصعدان، ويصعدان معاً بالضرورة.

ومن هنا نفهم قوة القول "إن في الإنسان روحاً". فالروح معناها الطاقة الروحية، وهذه لا تقاس بالاختبار، فقد يكون لدى الإنسان الشاب طاقة روحية أكبر جداً مما عند الشيوخ وهذا كان الحال مع أليهو الذي يقول بعد ذلك "ونسمة القدير تعقلهم" إن الله هو الذي نفخ في الإنسان نسمة الحياة وفي تلك النتيجة لم تكن النفس فقط بل الروح أيضاً.

وهذا هو السبب في أن الإنسان وحده نفساً خالدة. إن الله لم ينفخ قط في أي حيوان على الأرض ولكنه نفخ في الإنسان وحده ومن أجل ذلك فإن نفس الإنسان وروحه خالدتان، ولكنه قد يكون خلوداً في جهنم، أو قد يكون خلوداً مباركاً في السماء، فهو خلود لا يمنع الإنسان من أن يكون خاطئاً ولا من تحمل نتائج ذلك، ولا هو يمنعه من الجهة الأخرى-بالأولى- من اقتبال الحياة الأبدية من الرب يسوع. فعندئذ تعطى له حياة أخرى.

إن خدمة أليهو تمتاز بميزة خاصة وتختلف تمام الاختلاف عن خدمة الأصحاب الثلاثة. إنه يدخل الله في الأمر ويضع حداً نهائياً للمجادلة بين أيوب وأصحابه فهو لا يحاجج على أساس الاختبار ولا يستند على التقاليد القديمة ولا ينطق بنبرات الناموس والقضاء ولكنه يحضر الله وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء كل مجادلة وإسكات كل فم وإبطال كل حرب كلامية. دعنا الآن نسمع ماذا يقول هذا الشخص العجيب "وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام لأنه أكثر منه أياماً فلما رأى أليهو أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة حمي غضبه".

لاحظ القول "أنه لا جواب" ففي كل حججهم وبراهينهم وفي كل إشاراتهم إلى الاختبار والتقليد والقضاء لم يكن هناك من جواب، هذه نقطة مليئة بالتعليم والإرشاد فأصحاب أيوب قد طرقوا كل باب وجالوا في كل ميدان قالوا أشياء حقيقية كثيرة وجرّبوا أجوبة عديدة ولكنهم مع كل ذلك لم يجدوا جواباً. نعم فإنه لا يوجد في دائرة الأرض أو الطبيعة أي جواب للقلب المتمسّك ببرّه الذاتي. الله وحده يستطيع الإجابة على قلب كهذا وسنرى ذلك في النتيجة. والقلب الغير منكسر يستطيع أن يجد جواباً حاضراً لكل من يتكلم معه ماعدا الله.

هنا ابتدأ النور الإلهي أو بالاحرى نور الوحي ينبثق ويلقي شعاعه على المشهد ويبدد تلك الغيوم الكثيفة التي سببتها مجادلة الألسنة ونحن نشعر بما هنالك من قوة أدبية جديدة في ذات اللحظة التي ابتدأ فيها هذا الخادم المبارك يفتح شفتيه لا بل نشعر إننا نسمع رجلاً يتكلم كما بأقوال الله. رجلاً يعرف تماماً إنه واقف في حضرة الله. رجلاً لا يستمد روحه من مخزن اختباره الحقير الصغير ذي الوجه الواحد، كما أنه ليس بالرجل الذي يستشهد بالآثار القديمة البالية أو بالتقاليد المشّوشة المربكة أو بأصوات الآباء المتضاربة كلا فأمامنا رجل يقودنا توّاً إلى حيث "نسمة القدير" نفسه.

"ليس الكثيرون هذه الأيام حكماء ولا الشيوخ يفهمون الحق" كلا "لذلك قلت اسمعوني أنا أيضاً أُبدي رأي" فهو لم يحاول أن يقاطع أحد قط، بل سكت سكوتاً ولم ينطق بكلمة واحدة. يدهش البعض أحياناً إذ يجدون هذا الشاب يبرز فجأة في الميدان بعد أن يصمت ليس الأصحاب الثلاثة فقط بل أيوب أيضاً.


(ع11-13) خيبة الأصحاب.

"فد صبرت لكلامكم أصغيت إلى حججكم حتى فحصتم الأقوال فتأملت فيكم وإذ ليس من حججّ أيوب ولا جواب منكم لكلامه" وهذا صحيح إلى أقصى حد "فلا تقولوا قد وجدنا حكمة".

كان أليهو يرى أن حل المسألة كلها عند الله، وإنهم في كل أحاديثهم لم يأتوا قط بالإله الحقيقي كما هو، "الله يغلبه لا الإنسان" هذا ما سبق أن قاله أيوب، ومنه ندرك أن أيوب كان إلى هذا الحد على صواب أكثر جداً من أصحابه.

لقد كان يصغي بانتباه إلى كل ما قالوه، لكنّ أحداً منهم لم ينفع أيوب أو يجاوبه إجابة شافية. وما علينا إلاّ أن نسترجع خطابات أليفاز التي تبدأ بأسلوب رفيع سامٍ وتنتهي باتهامات وحشية، وبالمثل ول في تهور أقل- خطابات بلدد، ثم أخيراً إقرارات صوفر الطائشة: فنرى كيف كان أليهو على حق في أقواله. ولقد كان في مقدوره أن يزيد، أنه لا حق لهم في الادعاء بأنهم وجدوا أو أظهروا حكمة. فالله- لا الإنسان- هو الذي أوقع أيوب وغلبه، وجعله يتحقق من عجزه.


(ع14-22) لا بدّ أن يتكلم.

"فإنه لم يوجه إليّ كلامه" ولذلك فإني في مركز يؤهلني للتحدث معه بهدوء وفي غير هياج، لو أنه هاجمني لشيء قلته فقد يبدو كلامي تشفّياً أو انتقاماً، أما وإنه لا يوجد ضدي أي كلام، فأنا لا أحمل له أية ضغينة ولذلك أتكلم هنا لوجه الله وبالنيابة عن الله. ولو أني شاب صغير "ولا أرد أنا عليه بكلامكم" فإنهم كانوا مجردين من القوة.

"تحيّروا لم يجيبوا بعد انتزع عنهم الكلام". ها هو الاختبار والتقليد والناموس يكسحون بعيداً ليتركوا مكاناً "لنسمة القدير" ولحكم الله وخدمته المباشرة النافذة المفعول.

إن خدمة أليهو تتجه بقوة غريبة وكمال عجيب إلى النفس مباشرة وهي تتناقض تماماً مع خدمة الأصحاب الثلاثة الناقصة وذات الوجه الواحد. والحق يقال إننا نتنفّس الصعداء إذ نصل إلى نهاية مناقشة طويلة يظهر أنها كانت مزمعة على أن لا يكون لها نهاية. مناقشة بين بر الذات من جانب والاختبار والتقليد والقضاء من جانب آخر. مناقشة قد خلت من كل فائدة فيما يختص بأيوب نفسه بينما هي قد تركتهم جميعاً وهم حيث كانوا في البداية لم يتقدموا شبراً واحداً ومع كل فهذه المناقشة لا تخلو من فائدة لنا نحن. فهي تعلمنا بطريقة واضحة جلية أنه عندما يدخل طرفان في مناقشة فليس من الممكن البتة أن يصلا إلى تفاهم ما لم يوجد قليل من التواضع والخضوع في طرف منهما وهذا درس ثمين جداً نحتاج كلنا أن ننتبه إليه انتباهاً خاصاً إذ يوجد كثير من التصلّف والأفكار المتشامخة ليس فقط في العالم ولكن أيضاً في الكنيسة كثير من المشغولية بالذات وكثيراً من "أنا" وهذه الروح تظهر أيضاً حتى حيث لا نحسب لها وجوداً في الغالب حيث تكون مندسّة بصورة خفية أو بعبارة أخرى في الأمور المتعلقة بخدمة المسيح المقدسة. وبكل تأكيد فإن محبة الذات تكون أكره ما يكون عندما تظهر نفسها في طريق خدمة ذاك القدوس المبارك الذي لم يجعل لنفسه أي صيت أو جاه والذي كانت حياته كلها إخلاء النفس من البداية للنهاية ولم يقصد مجده الذاتي في أي عمل من أعماله ولم يجري قط وراء مصلحته الذاتية أو إرضاء مطاليبه الشخصية.

ولكن ألا نرى كم من الأنانية ومظاهر الذات تتجلى في مشهد المسيحية الاسمية والخدمة المسيحية؟ إننا بكل أسف لا يمكننا أن ننكر هذا الأمر ومع كل ذلك تأخذنا الدهشة عندما يقع نظرنا على المناقشة الغريبة التي دارت بين أيوب وأصحابه. فعجب كل العجب عندما نرى ما يقرب من مائة مرة يشير فيها أيوب إلى نفسه في الإصحاحات (29-31) وحدها أو بالاختصار عندما نرى كلمة "أنا" تملأ المشهد من أوله لآخره.

ولكن دعنا ننظر إلى أنفسنا. دعنا نحكم عل قلوبنا ونفحص ما في أعماقها. دعنا نمتحن طرقنا في نور الحضرة الإلهية، ليت الرب يجعلنا متواضعين تواضعاً حقيقياً وهكذا نكن مخلصين ومكّرسين حياتنا له.

وليتعلم الجميع درساً نافعاً وقيّماً من أليهو- درساً بكل تأكيد نحن في أمسّ الحاجة إليه. قد يقول البعض أنه درس صعب، ولكن كلا فإن فقط عشنا في حضرة الرب وفي الشعور المستمر بأننا في ذواتنا لا شيء وبأنه هو فيه كل الكفاية لا بد أننا ندرك السر الثمين لكل خدمة فعالة. ندرك كيف نعتمد على الله وحده وبذلك نكون مستقلين عن الناس بمعنى الكلمة. عندئذ يمكننا أن ندرك عمق وقوة معنى كلمات أليهو التالية "لا أحابين وجه رجل ولا أملّث إنساناً. لأني لا أعرف الملث. لأنه عن قليل يأخذني صانعي" (ع21، 22) إنه يخبر أيوب وأصحابه جليّاً بأنه لا يعرف كيف يملّث (يداهن) إنساناً وهنا صوت "الحق" يرّن في آذاننا بوضوح تام.

إن الحق يضع كل إنسان في مكانه الخاص ولأنه يفعل ذلك لا يمكنه بحال أن يداهن مخلوقاً مذنباً حقيراً مهما كانت المداهنة مشبعة لقلب ذلك المخلوق. يجب أن يعرف الإنسان ذاته ويرى حقيقة حاله ويعترف بما هو عليه حقيقة. هذا عين ما كان أيوب في حاجة إليه إنه لم يكن يعرف ذاته ولم يستطع أصحابه أن يوصّلوه إلى تلك المعرفة كان يحتاج إلى من يقوده إلى الأعماق، الأمر الذي لم يستطعه أصحابه على الإطلاق، كان يحتاج إلى إدانة الذات، الأمر الذي عجز عنه أصحابه تمام العجز، ليس هكذا أليهو إنه يتخذ وجهة أخرى تختلف عن وجهتهم تمام الاختلاف إنه يسلّط نور الحق على ضمير أيوب وفي الوقت نفسه يقدّم إلى قلبه بلسم النعمة الثمين الشافي.

أليهو لم تكن بينه وبين أيوب مخاصمة، ولا ينزل إلى ساحة الآخرين ليخاصم أقوالاً غير مجدية. فإن ما ران عليهم من صمت لهو دليل، أقطع دليل، على أنهم قد غلبوا على أمرهم. والآن هو يتكلم. إذ هو ملآن، ولا بدّ أن ينفّس عن الروح التي تشتعل في داخله والتي تشبه الخمر الجديدة، تحاول الانطلاق. فهو محصور. والضرورة موضوعة عليه. وكم يختلف هذا عن المناقشات والحجج المتحذلقة التي أرغم أيوب أن يستمع إليها، أو عن الاندفاع الذي انطوى على قلة من الحكمة والعدالة. وهنا نتذكر قول الرسول "الضرورة موضوعة عليّ". كما أن أليهو لم يلجأ إلى كلمات الإطراء. هو لم يكن يحابي الوجوه، الأمر الذي أهلّه لأن يتكلم نيابةً عن الله. وذلك جميعه عظيم بديع. ثم إن أقواله لم تخل من رنّة السلطان. "وليس كالكتبة". السلطان الذي ينبّئ عن شخص يعرف لماذا يتكلم.


معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح الثاني والثلاثون

ص    ع          الكلمة                      معناها

32: 12          حجّ    :   غلب بالحجة والبرهان.

32: 17          حصة  :    النصيب.

32: 19         الزقاق  :    إناء مصنوع من الجلد (قربة).

32: 21         أملّث   :    الملث – المداهنة – أداهن.

  • عدد الزيارات: 13449