Skip to main content

4- أدلة تاريخية وعقلية تؤيد الشرح المذكور

أولا – الأدلة التاريخية

1 – إن علماء المسيحيين في القرون الأولى نادوا بأن حديث المسيح عن التغذي بجسده ودمه في (يوحنا 6)، يراد به المعنى المجازي، أو بالحري الايمان القلبي بشخصه. فمن المأثور عن يوسابيوس القيصري أنه قال في شرح للآية "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة": "كأن المسيح يقول لتلاميذه، لا تظنوا أني أتكلم معكم عن الجسد الذي أنا حامله، كأن هذا يجب أن يؤكل. ولا تظنوا أني أقدم لكم دمي المادي لكي تشربوه. لكن أعلموا أن الكلمات نفسها التي كلمتكم بها هي روح وحياة، حتى أن ذات كلامي هو لحم ودم، والذي يخصصه لنفسه يقتات كما بطعام سماوي. ويكون شريكا في الحياة السماوية"... وعن أغسطينوس أنه قال، "إن حديث المسيح عن الأكل من جسده لا يجوز فهمه حرفياً، لأن نعمته لا تقبل بالأسنان". وعن أثناسيوس الرسولي أنه قال: إن التناول من جسد المسيح ودمه لا يكون إلا روحياً"، أي أن هذا التناول لا يكون بالفم مع الاعتقاد في النفس بأن الخبز والخمر هما ذات جسد المسيح ودمه" (كما يقول المؤمنون بالاستحالة)، بل أن التناول المذكور يكون روحياً، أي باستقبال النفس (وليس الفم) له (نظام التعليم ص 445 وريحانة النفوس ص 87 وشرح كلمة "eucharist" في المراجع الانجليزية العامة).

2 – كما أن أحرار الفكر من رجال الدين عند الكاثوليك قد عرفوا مثل الإنجيليين أن الأكل من جسد المسيح والشرب من دمه الوارد في (يوحنا 6)، ليس خاصاً بالعشاء الرباني، بل بالايمان بالمسيح. فقد قال المسيو البرتينوس (مثلا) في كتابه "deuchariste" إن اثنين من الباباوات وأربعة من الكرادلة وخمسة من الأساقفة وبعض علماء اللاهوت الذين ظهروا لغاية العصر الذي عاش فيه، قد نادوا بأن حديث المسيح الوارد في (يوحنا 6)، خاص بالايمان بشخصه (Houstons p120). وفي الكنيسة الأرثوذكسية أيضاً أشخاص يعرفهم الكتاب تمام المعرفة، يعتقدون بهذه الحقيقة عينها، ولكنهم لا ينادون بها خشية أن يتهموا (حسب رأيهم) بأنهم إنجيليون. مع أن الحقيقة المذكورة (كما اتضح لنا من أقوال القديسين السابق ذكرهم في البند الأول، وكما سيتضح بأكثر تفصيل في الباب الرابع)، كانت من صميم العقائد المسيحية في القرون الثلاثة الأولى، أي قبل ظهور جماعة الإنجيليين على الأرض بأكثر من 1300 سنة.

ثانياً – الأدلة العقلية

1 – أخيراً نقول لو كان حديث المسيح عن التغذي بجسده ودمه الوارد في (يوحنا 6) خاصاً بالعشاء الرباني، لكان هذا العشاء هو أهم الموضوعات الدينية، لأنه يكون في هذه الحالة السبيل الوحيد للحصول على الحياة الأبدية، ولكان المسيح تبعاً لذلك قد حرّض سامعيه على التناول منه في كل مرة من المرات التي كان يعلن لهم فيها السبيل إلى هذه الحياة – ولكن إذا تأملنا تحريضاته في كل مرة من المرات، نجد أنه كان يقصرالسبيل إلى الحياة الأبدية على الايمان (أو بالحري الايمان الحقيقي) بشخصه، كما اتضح لنا في الفصل الأول من هذا الباب.

كما أنه لو كان هذا الحديث يراد به العشاء المذكور، لأنه يكون في هذه الحالة هو ذات المسيح بلاهوته وناسوته، والذي يجب أن نعبده ونسجد له (كما يعتقد المؤمنون بالاستحالة)، ولكان المسيح تبعاً لذلك قد صرف معظم المدة التي مرت بين هذا الحديث وبين تأسيس العشاء الرباني في إعلان تفاصيل الاستحالة ودقائقها، وكيفية حدوثها ووقت حدوثها، والشروط اللازمة لإتمامها، حتى لا يكون هناك اختلاف كبير أو صغير بشأنها. كما حدث ويحدث بين القائلين بالاستحالة أنفسهم، إذ فضلاً عن الاختلافات التي ذكرناها في أول الباب الثاني، فهناك اختلافات أخرى كثيرة بينهم نذكر منها ما ياتي:

(أ) يقول فريق منهم إن الخبز وحده يتحول إلى المسيح بكامله، أو بالحري إلى جسده ودمه معاً، لأن الدم عنصر من عناصر الجسد (ولذلك يكفي التناول من الخبز وحده). ويقول فريق آخر إن الخبز يتحول فقط إلى جسد المسيح، إنما الخمر هي التي تتحول إلى دمه، ولذلك يجب التناول من الخبز والخمر معاً (أسرار الكنيسة السبعة ص 108 ومختصر اللاهوت الأدبي 1 ص 272).

(ب) ويقول فريق إن الخبز يتحول إلى جسد المسيح بما فيه من عظام ومفاصل وعروق وغير ذلك (الكاتيزم الروماني ق 2 ف 4).

(ج) ويقول فريق إن العشاء الرباني يتحول إلى ناسوت المسيح مع لاهوته ونفسه. ويقول فريق آخر إنه يتحول إلى ناسوت المسيح ولاهوته دون نفسه، لأن هذا العشاء ذبيحة والذبيحة تكون خالية من النفس (الافخارستيا ص 16 و 21، واللاهوت النظري ج 3 ص 75، والرد على العشاء الرباني ص 64).

(د) ويقول فريق إن الخبز الذي يستعمل في العشاء الرباني يجب أن يكون فطيراً (أي خالياً من الخمير)، ويقول فريق آخر إنه يجب أن يكون خبزاً، أي به خمير (أسرار الكنيسة السبعة ص 113 – 125).

(ه) ويقول فريق إن الإستحالة تحدث عندما يردد الكاهن في القداس قول المسيح "هذا هو جسدي"، ويقول فريق آخر إنها تحدث بعد ذلك، عندما يستدعي الكاهن الروح القدس لكي يحل على الخبز والخمر (الافخارستيا ص 18، 20 واللاهوت النظري ج 4ص 157). وهكذا يرمي كل فريق صاحبه بالخطأ دون أن يستطيع إقناعه، وذلك لسببين:

الأول: لا توجد آية واحدة كتابية تنص على كيفية حدوث الاستحالة أو الوقت الذي تحلم فيه. أو الشروط التي يجب أن تتوافر لحدوثها.

الثاني: إن الإستحالة التي يقولون عنها ليست واقعية، إذ أنها لا تترك أي أثر يدل عليها.

مما تقدم يتضح لنا أنه نظراً لأن المسيح لم يذكر لنا شيئاً من تفصيلات الاستحالة، وفي الوقت نفسه نبّر على أن الحياة الأبدية هي بواسطة الايمان الحقيقي بشخصه لا يكون قد قصد بالتغذي بجسده ودمه الوارد في (يوحنا 6)، المعنى الحرفي، بل المعنى الروحي الذي هو الإيمان الحقيقي بشخصه كما ذكرنا.

2 – إن المسيح نطق بحديثه الوارد في (يوحنا 6)، في أوائل خدمته على الأرض، ولم يعمل العشاء الرباني إلا قبل موته بساعات لكي يكون تذكاراً لموته هذا. وبما أن أهم الشروط الواجب مراعاتها في الحديث أن يكون متناسباً مع الوقت الذي يقال فيه، وقد راعى المسيح هذه الحقيقة في كل حديث من أحاديثه، لذلك فإن حديثه الوارد في (يوحنا 6)، كان بكل تأكيد متناسباً مع الوقت الذي قيل فيه. وبما أن الحديث الذي يتناسب مع أوائل خدمة المسيح، هو تحريض الناس على الايمان به، لذلك يكون حديثه الوارد في هذا الاصحاح خاصاً بالايمان وليس بالعشاء الرباني.

3 – فضلا عن ذلك فإننا إذا وضعنا أمامنا أن الحديث عن هذا العشاء يقدم إلى المؤمنين الحقيقيين، وليس إلى غير المؤمنين أو المؤمنين بالاسم، وأن معظم اليهود الذين كان المسيح يتحدث معهم في (يوحنا 6)، كانوا غير مؤمنين به أو مجرد مؤمنين بالاسم، اتضح لنا بيقين ليس بعده يقين أن حديثه معهم لا بد أنه كان عن وجوب الإيمان بشخصه، وليس عن التناول من العشاء الرباني.

فحديث المسيح مع اليهود عن التغذي من جسده ودمه، يشبه والحالة هذه حديثه مع السامرية الوارد في (يوحنا 4: 1 – 14)، والذي يتلخص في القول: "إن كل من يشرب من ماء العالم يعطش أيضاً، ولكن من يشرب من الماء الذي يعطيه المسيح، فلن يعطش إلى الأبد، بل إن هذا الماء يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية".

وكل ما الأمر أن المسيح صاغ حديثه مع السامرية في أسلوب الشرب، لأنها كانت تريد أن تشرب، وصاغه مع اليهود في أسلوب الأكل، لأنهم كانوا يريدون أن يأكلوا. غير أن السامرية عندما أدركت أن المسيح هو الماء الذي لا يعطش من يشرب منه، وأن الشرب منه معناه الإيمان به، آمنت ومن ثم ارتوت وخلصت من خطاياها. أما اليهود، فمع أنهم أدركوا أن المسيح هو الطعام الذي لا يجوع من يأكل منه، وأن الأكل منه معناه الإيمان به، لم يؤمنوا على الإطلاق، ومن ثم ظلوا في خطاياهم وعدم إيمانهم إلى الآن.

  • عدد الزيارات: 4071