Skip to main content

الأصحاح الثالث - عدد 10

الصفحة 9 من 15: عدد 10

فقال إنك مباركة من الرب يا بنتي، لأنك أحسنت معروفك في الأخير أكثر من الأول. إذ لم تسعي وراء الشبان فقراء كانوا أو أغنياء" ( ع 10).

كما رأينا طريق الإيمان في راعوث، نرى طريق النعمة في بوعز. فالنعمة تشجع النفس، وتوحي إليها بالثقة، ثم تتجاوب معها، ثم هي تجازي أيضاً تلك الثقة التي أنبتتها. تلك هي خاصية النعمة التي نراها في كل الكتاب. فالروح القدس يبكت الخاطئ، ويقوده إلى الاعتراف أمام الله العادل القدوس بأنه خاطئ. ثم يسير ذلك الخاطئ على هدى هذه الثقة التي أحياها الروح القدس في قلبه، فيثق في صلاح هذا الإله القدوس البار. فلو أن عينا هذا الخاطئ تثبتتا على خطاياه فقط لفر من أمام الله إلى أبعد ما يستطيع، إذ أنه لن يرى سوى أن الله أقدس من أن ينظر إلى خطاياه، وأنه ليس عنده لهذه الخطايا سوى دينونة أبدية.

ونحن نرى عمل النعمة هذا أيضاً في معاملات الرب مع خاصته. فمثلاً عندما دعى الرب موسى، وجدعون، وإرميا إلى خدمته وجد قلوباً خائفة مرتعدة، مع إيمان قليل (خر 3،4، قض 6، إر 1). ومع ذلك ففي نعمته أعدهم للبركة التي قصد أن يعطيها لهم. والأصحاح الرابع من إنجيل يوحنا يلمع بخاصية النعمة هذه، إذ يكشف الرب صلاحه وصلاح الله كالمعطي للسامرية، حتى يولِّد في قلبها الثقة، ويجعلها تأتي إليه بخطاياها.

ونرى ذات هذه النعمة في بوعز، فقد كان وقوراً وصالحاً بصورة لها جاذبيتها وهو يشجعها في ص2. وهاهو الآن على أتم استعداد لأن يملأ كل رغبة قد أيقظها في داخلها بالثقة التي زرعها في قلبها من نحوه. فهو لا يأتي بها إلى هذه الدرجة من الثقة، ثم يخذلها في هذا الموقف.

إن راعوث بحسب مولدها كانت من هؤلاء الذين هم بلا مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لهم، وبلا إله في العالم (أف 12:2). ولكنها الآن قد رجعت إلى يهوه، إله شعب الله، وقد علم بوعز أنها الآن قد صارت تنتسب إلى هذا الشعب، فبالتالي قد ارتبطت بيهوه وصارت منتسبة إليه. وهكذا صار لها الحق في كل بركاته، تلك الحقائق التي أعطاها هو لشعبه في نعمته المطلقة. وهذا ما يتضمنه قول بوعز «مباركة أنت من الرب (يهوه)». ولكنه يضم أيضاً راعوث إلى علاقة شخصية مع نفسه إذ يدعوها قائلاً «يا بنتي». فقد تبناها كما لو كانت بالفعل من بنات إسرائيل، مع أنها جنساً لم تكن منهن، ولا كان لها ميراث بينهن. كذلك لم تكن لها صلة القرابة الجسدية الطبيعية مع بوعز، ولا كانت منتسبة إليه، بل كانت هناك خطوات أخر لابد من إتمامها حتى تأتي بعدها إلى هذا المركز. كان لابد من تخطي كافة الموانع، قبل أن تأخذ مكانها علانية كإسرائيلية، وكامرأة له. وكم كان هذا تشجيعاً طيباً لها.

سبق أن مدح بوعز في ص11:2 فضل راعوث الذي ظهر في معروفها الأول. ولكن ماذا كان معروفها في هذا الأمر الأخير؟ كان هذا المعروف في أنها لم تتبع رغبات وشهوات القلب البشري، وإنما أدركت حقوق بوعز عليها حسب كلمة الله، فتصرفت حسبما تعلمته منها. وهذا أمر يقدره الرب فينا كثيراً.

إن قلوبنا ترغب دائماً في السير في طرقها الخاصة، وتتوق دائماً إلى أمور العالم، وإلى ما هو من الطبيعة، ولكن الرب له الحق في حياتنا، حق المحبة التي بها دفع ثمن فدائنا. لقد أحب المسيح الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها، حتى تكون له خالصة كما يريدها هو لنفسه (أف 25:5-27). لقد دفع الثمن عنها كاملاً، بل لقد باع كل ما له ليمتلكها (مت 46:13). لقد «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (في 7:2و8). هذا هو الثمن الذي دفعه لكي يخلصنا من الدينونة الأبدية، وليعطي لنا أسمى البركات السماوية، أفلا يعطيه هذا الثمن الغالي الذي دفعه الحق فينا؟ بلى، إن له الحق في أن يأخذ كل محبتنا، وقدرتنا، وطاعتنا له. بل له الحق في أجسادنا ونفوسنا وأرواحنا. له الحق فينا بكل ما لنا.

وفوق ذلك، فما زال هناك من الأسباب الكثير في كلمة الله، التي تنشئ علينا حقوقاً له. فهو الذي خلقنا، لذا فله الحق في أن نطيعه، لأن كل الأشياء "به وله" قد خلقت (كو 16:1). لقد عمل العالمين، وأيضاً قد خلق الإنسان ليخدمه ويمجده. ومعنى ذلك أن الإنسان قد تكوَّن في الخلق بطاقات وقدرات روحية، وإمكانات طبيعية لتوظَّف جميعها لخدمة الرب. وهذا حق، فإن قدرات الإنسان الطبيعية والعقلية لا تنعم بالاستقرار والراحة التي من الله إلا عندما يخدم خالقه في طاعة كاملة وتامة له. وليس هناك طريق آخر لأن تجد طاقات الإنسان هذه شبعها الحقيقي. قال أغسطينوس: إن الإنسان لن يجد راحته، حتى يجد الراحة في الله. لذلك نقرأ في تثنية 5:6 على سبيل المثال «فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك». وقد أضاف الرب يسوع عندما اقتبس هذا العدد «ومن كل فكرك» (مر 30:12).

ثم سبب ثالث تحدثنا عنه رسالة العبرانيين في مطلعها. فابن الله هو الذي له حق السلطان. ثم أخيراً فإن كل شيء، بحسب مشورات ومقاصد الله لابد وأن يخضع تحت قدميه كابن الإنسان (عب 5:2-8، كو 15:1).

والسؤال الآن هو: هل نحن نعترف بحق الرب الرباعي علينا؟ وهل نأتي إليه بكل رغباتنا وحاجاتنا؟ هل نحن نسأله في كل أمر عما يريدنا أن نفعله؟ هل نسأله عن نوعية العمل الذي يريدني أن ألتحق به؟ أو ماذا أفعل من أجل المستقبل أو أعد له؟ هل نطلبه لكي يكشف لنا عمن يريدنا هو أن نكون في شركة معهم؟ أو نسأله عن المكان الذي يريد لكل منا أن يسكن فيه؟ هل سألته عن الأثاث والأجهزة التي يريدها هو في بيتك؟ هل استشرته في كيفية تربية أولادك؟ أو أي عمل يجب أن أوجههم إليه. هل نسأله عن كل كبيرة وصغيرة في حياتنا، سواء كانت أموراً طبيعية أو فكرية أو روحية؟ هكذا يجب علينا ساعة بعد ساعة، بل ودقيقة بعد دقيقة، أن نسأله دائماً «ماذا تريد يا رب أن نفعل؟».

إن كلمة الله واضحة كل الوضوح من جهة هذا الأمر، فإن «الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً» (أع 36:2). هكذا أيضاً تعلمت راعوث من كلمة الله أن بوعز وليّ له حق الفكاك، لذلك فهي تنتسب إليه وترتبط به. وهكذا ذهبت إليه في خضوع، ووضعت نفسها وكل ما لها، بل ومستقبلها أيضاً بين يديه. ولنلاحظ أن هذا قد سر قلب بوعز، فتكلم إليها مبدياً سروره، وباركها. وبكل تأكيد فإن الرب يسر بنا، ويبتهج قلبه عندما نأتي إليه طوعاً، مقرين بكل حقوقه علينا، خاضعين ومسلمين أنفسنا له بالتمام بين يديه. لا يعني هذا أنه لنا حرية في أن نفعل ذلك أو لا نفعله، فهذا قرار الله الواجب النفاذ أن يخضع كل إنسان ويعترف بسلطان ابنه (في9:2-11، رو9:10،مز2). ولكن هناك فرقاً بين أن نخضع له طوعاً، وأن نخضع له قسراً. فإن كنا نفعل هذا بقلب طائع محبة له - إذ هو قد أحبنا أولاً (1يو 19:4) - فلابد أن يعطينا برهان قبوله. إن هذا فكر عجيب، فهو يمتدحنا على ما فعلته نعمته في حياتنا، على ما صار متوافقاً مع أفكاره، مع أن هذه الأمور واجبة علينا وليست فضلاً منا. إلا أنها عندما توجد فينا فإنه يختم عليها بالمصادقة مؤكداً رضاه. فهل سمعنا منه نغمة الرضا هذه؟

لقد امتدح بوعز راعوث لأنها لم تسع وراء الشبان، فقراء كانوا أم أغنياء. إن فتاة تسمح لمشاعرها أن تنقاد وراء الثروة والغنى لدى الشباب ليست هي جديرة بالمحبة. ولو أن راعوث سعت وراء شاب فقير لحكمنا على مشاعرها أنها تتحرك وفق العواطف الإنسانية الطبيعية. فقد وضع اله المحبة في قلب الإنسان محبة الرجل نحو المرأة، ومحبة المرأة نحو الرجل، وهذه عطية من الله لا غبار عليها. ولكن علاقتنا بالرب يسوع لا تتدخل فيها أسمى وأنبل المشاعر الطبيعية. إن هذه المشاعر الطبيعية، مع قدراتنا الذهنية جنباً إلى جنب يجب أن تُستأسر إلى طاعة المسيح. وعندما تُخضع هذه طائعة له فلابد أن تنمو وتتطور إلى الأفضل، فخالقها سيُعنى بها حتى ما يتمجد هو أكثر، وحتى ما نجد نحن خلائقه الشبع الكامل.

عدد 11
الصفحة
  • عدد الزيارات: 26010