Skip to main content

الأصحاح الأول - عدد 11-14

الصفحة 8 من 13: عدد 11-14

فقالت نعمي ارجعا يا بنتي لماذا تذهبان معي. هل في أحشائي بنون بعد حتى يكونوا لكما رجالاً. ارجعا يا بنتي لأني شخت عن أن أكون لرجل. وإن قلت لي رجاء أيضاً بأني أصير هذه الليلة لرجل وألد بنين أيضاً هل تصبران لهم حتى يكبروا. هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل. لا يا بنتي فإني مغمومة من أجلكما، لأن يد الرب خرجت عليَّ . ثم رفعن أصواتهن وبكين أيضاً. فقبلت عرفة حماتها. وأما راعوث فلصقت بها ( ع 11-14)

كانت عرفة ترغب في الذهاب إلى بيت لحم، ولكن نعمي التي سكنت في موآب زماناً هي التي أرجعتها!! مع أنها كانت تعلم إلى أي شيء ترجعها. ففي ع15 نقرأ أنها قالت لراعوث «هوذا قد رجعت سلفتك إلى شعبها وآلهتها» هل كان أحد في بيت لحم يتصور أن يصدر مثل هذا القول من نعمي قبل أن تذهب إلى موآب؟ حقاً، إن الخطوة الأولى في الانحراف تكون صغيرة، ولكن أي ابتعاد تنتهي بنا إليه! فإن نعمي لم تكن ترغب في أن تعود بعرفة وراعوث إلى بيت لحم. لماذا؟ أكان ذلك خجلاً لكونها سمحت لابنيها أن يتزوجا من بنات موآب؟ ربما كانت تريد أن تخفي ذلك عن معارفها القدامى في بيت لحم. هذه هي الكبرياء المدمرة التي فينا، قد نفضل أن نرى البعض يهلكون عن أن نعترف بما يخجلنا. هذا ما حدث مع داود في 2صموئيل 11 فقد فضَّل أن يقتل جندياً أميناً باراً عن أن تنكشف خطيته أمام الشعب.

كم من أناس وضعت بينهم وبين الله العوائق بسبب أصدقاء أو آباء لهم، حرصوا على أن يحققوا لأنفسهم نجاحاً زمنياً، أو مسرات جسدية، مستخدمين اسم الرب في ذلك تحت دعوى "الحق" وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء (رو 18:16). كثيرون يضعون أولادهم في فم الأسد لرغبتهم في أن يصلوا بهم إلى مركز عالمي أفضل، ثم بعد ذلك يطلبون من الرب حتى لا يضرهم الأسد!!

إنه لمن الضروري لنا نحن الذين نعيش في وسط مسيحية ضلت عن الحق أن نلاحظ كلماتنا وأفعالنا حتى نكون معونة لمن هم حولنا بدلاً من أن نكون عائقاً لهم. لنحرص ألا نسمح للجسد أن يتحرك فينا، بل لنحرص ألا نشجع الجسد في أولادنا وفي من هم حولنا. فإن كنا نخدم المسيح في هذا نكون «مرضيين عند الله ومزكين عند الناس» (رو 8:14) «لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 17:14).

لقد شعرت نعمي أن وضع كنتيها مختلف عن وضعها تماماً، فهي امرأة إسرائيلية راجعة إلى شعبها وإلى مسقط رأسها، راجعة إلى إلهها. ولكن من هو الذي كان مستعداً أن يتحمل - سواء الآن أم مستقبلاً - نتائج عدم أمانتها؟ أما راعوث وعرفة فقد كان عليهما أن تتركا شعبهما وآلهتهما، كلتاهما كان عليها أن تترك بيت أبيها، وأن تذهب إلى أرض غريبة، وشعب لم تسمع عنه سوى القليل الذي سمعته من نعمي. ولم تكن مشاعر نعمي، ولا إمكانياتها تستطيع أن تعوض أي منهما عن الأمور التي نشأت فيها، ولا عن تضحيتها بترك مسقط رأسها.

إلى هذا الحد يمكن أن ينحدر المؤمن عن مبادئ الله السامية، فقد كانت نعمي تنعي كثيراً قسمتها، وكانت تنأى بكنتيها عن أن تشتركا معها فيها. فرأت أن مستقبلهما سيكون أفضل في موآب، ففي كنعان في وسط شعب الله لن تكونا سوى غريبتين، هذا إلى جانب كونها بلا بنين حتى يستعيدوا لهما علاقتهما السابقة معها التي فصلها الموت. فما الذي يدعو إذاً لالتصاقهما بها؟ ألا يستطيع الرب أن يباركهما وإن بقيتا في موآب؟ هذه هي النظرية الخطيرة، بل والخدمةالمسمومة. فنفس الإنسان لم تعد في الاعتبار، والأبدية ما عادت تذكر، أما الله وجوده ورحمته فلا يدخل في الحسبان إطلاقاً. وبكل أسف، لاقت هذه النظرية استحسان عرفة، ولكنها كانت لهلاكها. فهي نظرية تخمد التبكيت على الخطية، وتوسم الضمير الحي. هكذا انخدعت قلوب كثيرين من الصغار، وطوِّح بها بعيداً عن الطريق القويم، لأن آبائهم المسيحيين أرادوا لهم مكاسب عالمية.

كما رأينا قبلاً، فإن المرأة في كلمة الله تذكر بالارتباط بالمركز أو المقام، أما الرجل فيذكر بالارتباط بالحالة العملية. وهنا تتكلم نعمي عن «بيت الأم» مع أنه حسب الترتيب الإلهي بالنسبة للعلاقات العائلية يذكر عادة البيت كبيت الأب، وهذا يوجه الفكر إلى الحالة العملية. لذلك يتكلم بوعز إلى راعوث في ص 11:2 عن تركها «بيت أبيها». ولكن ذكر «بيت الأم» هنا يوجه الفكر إلى مركز كل منهما في بيت أمها وما تلاقيانه فيه من الأمور الجذابة، مثل المحبة الطبيعية، والروابط الأسرية.

ولكن نعمي لم تلفت نظرهما إلى الدافع الفعلي، فلم تذكِّرهما بأنها هي شخصياً لم تجد في موآب سوى الموت والظلام، ولا بان الله قد أعلن أن هذا المكان سيصير خراباً أبدياً (اقرأ صفنيا 9:2). فلو فعلت ذلك لكان هذا كفيلاً بأن يخيفهما ويجعلهما ترجعان معها إلى بيت لحم يهوذا، بيت الخبز، حيث يُكرَم الله. فلو عُقدت المقارنة بين إنسان مستعبد للشيطان وواقع تحت دينونة الإله العادل القدوس، وبين إنسان هو ابن لله قد صار مقبولاً في المحبوب فهل يمكن أن يقف أي مانع في طريق الخاطئ لأن يرتمي في أحضان الرب يسوع؟ وهل يمكن أن يجد مؤمن ما يدعوه لأن يفضل ثياتيرا أو ساردس على فيلادلفيا إذا ما قارن بينهما، وهو يرى قضاء الله على ثياتيرا وساردس، مهما كان في فيلادلفيا من ضعف؟

كانت نعمي تريد أن تقنع كنتيها أن تبقيا في موآب، لذلك لم تذكر مساوئ موآب، بل ذكرت أموراً لها جاذبيتها. وهي وإن كانت أموراً قد ترتبت من الله، ولكنها الآن تستخدمها لإغرائهما للبقاء في موآب. إن الخمر في حد ذاتها ليست شراً، بل هي «تفرح الله والناس» (قض 13:9) ولكن من يريد أن يكون نذيراً، فيصبح بذلك مفرزاً بالكلية للرب «فعن الخمر والمسكر ينتذر (أي يمتنع)» (عد6، لو18:22). فكل من يريد أن يكون قريباً من الرب في عالم قد رفضه فعليه أن يدوس أشياء ربما لا تكون في حد ذاتها شراً، بل ربما تكون أموراً حسنة، ولكنها تعطل تكريسه الكامل للرب.

ذكَّرت نعمي الفتاتين، كل منهما، ببيت أمها، بل وأيضاً وضعت أمامهما الزواج، ولما لم تجد منهما استجابة، بل تمسكاً بالذهاب معها، استطردت في محاولة إقناعهما. كانت تعلم نقطة الضعف التي في بنات موآب، فأصل موآب كان هو مشيئة امرأة، هي الأم الأولى لموآب، التي كانت على استعداد لأن تضحي بكل شيء في سبيل أن تكون لرجل، وليكون لها منه بنين (تك 30:19-38). ونفس هذه الرغبة أظهرتها بنات موآب أيضاً (عد 1:25). ولا شك أن كلمات نعمي في (ع11-13) كان لها أثرها العميق على عرفة وراعوث. وكم من أولاد الله من الشباب الذين لم يأخذوا مركز الانفصال بسبب الزواج. بل ربما تركوه بعد أن كانوا فيه. وكم من الآباء والأقارب الذين لأجل ذات السبب أعثروا شباباً مؤمنين وثبطوا عزيمتهم عن الانفصال. «من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني» (مت 37:10).

كذلك أشارت نعمي إلى وصفها كثكلى، فلا زوج لها ولا أولاد، لذلك فلا رجاء لها، وكأن الذنب عند الله! أما عرفت نعمي بما هو «مكتوب» عن عناية الله بالغريب والأرملة؟ وهل نسيت بوعز «جبار البأس»، حتى أنها لم تكتف بأن تحاول منع كنتيها من الالتصاق بها، فأخذت تقودهما إلى القنوط من أن تجدا أية معونة. بل زادت بأن رسمت لهما صورة عن الله أبعد ما تكون عن طبيعته. «لأن يد الرب خرجت عليَّ» وكأنها تحمِّل الله مسئولية ما لقيته من صعاب، وما انتهت إليه من بؤس ويأس، بدلاً من أن تعترف بأنها هي التي جلبت على نفسها كل هذا بتركها الله وهجرها للمكان الذي اختاره، وإعطائها القفا لبركاته. إن الله لم يذهب بهم عنوة إلى موآب، بل هم الذين اختاروا أن يتركوا المكان الذي كانوا يستطيعون فيه أن يختبروا قول المرنم «هوذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته، لينجي من الموت أنفسهم ويشبعهم في الجوع» (مز 18:33،19).

إذا رغب من هم حولنا بمحض اختيارهم أن يكونوا للرب، فلنحذر من أن نكون عثرة لهم. لنحترص أن لا نشجعهم على التراجع، أو أن نرد خطاهم بزعم أنهم سيجدون راحة فيما نحن نعلم أن لا راحة فيه. صحيح أننا يجب أن نهتم بهم، وأن نعينهم على النجاح، وعلى أن يحسبوا كلفة قرارهم، بل يجب أن نبصرهم حتى يميزوا ما إذا كانت ضمائرهم قد تطهرت من الأعمال الميتة ليخدموا الله الحي (عب 14:9)، ولكن لا يجب أن نثبط عزيمتهم بأن نضع أمامهم توقعات محبطة. فإن تكلمنا عن مساء فيه يبيت البكاء، فيجب أن نذكِّرهم أيضاً أنه في «الصباح ترنم»، وإن تكلمنا عن العار خارج المحلة فلا ننس أن نتكلم عن المجد داخل الحجاب. وإذا تحدثنا عن النفر القليل الذي يجتمع حول الرب الآن، وعن ضعفاتهم وأخطائهم، فلا نغفل عن أن نذكر مجد ذلك الشخص الذي في وسطهم، والبركة العظيمة التي نجتنيها من الوجود تحت قيادة وإرشاد الروح القدس ليشغِّلنا حسب قصده ومشيئته. وإن كنا نتكلم عن الانفصال عن الأمور الدنيوية، كما عن العالم المتدين، وعن التخلي عن أمور كثيرة حتى ولو كانت في حد ذاتها ليست شراً، بل ربما تكون قد أعطيت من الله في خليقته، فلا ننس أن نتكلم أيضاً عن فضل إدراكنا لكوننا مقبولين عند الرب يسوع، وأن تكون لنا شركة مع الآب ومع ابنه، تلك الأمور التي لا يمكن التمتع بها إلا ونحن في حالة الانفصال «لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس، معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر. منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح، الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة» (تي 11:2-14). فإن علَّمنا من هم قريبين منا هكذا، فإنهم سيصبحون قادرين على أن يتحملوا التجربة. فإذا تزكوا فسينالون «إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه» (يع 12:1).

«فقبَّلت عرفة حماتها. وأما راعوث فلصقت بها»

لقد كان لكلمات نعمي أثرها العميق على عرفة وراعوث، حتى أن الفتاتين بكتا، أما عرفة فقد انحنت تحت التجربة، كانت قد بدأت حسناً كما بدأت راعوث، فمن الواضح أنها أحبت حماتها وشعب حماتها، فقالت مع راعوث «إننا نرجع معك إلى شعبك»، ولكن إذا اتضحت أمامها كلفة ذلك - وكم كانت كبيرة - فلم يكن لديها الإيمان الذي يستطيع أن يرى ما لا يُرى (عب 27:11) «فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان» (عب 19:3). كان هذا أكبر امتحان في حياة عرفة، ولكنها فشلت فيه. كانت هذه هي لحظة اتخاذ القرار، وقد اتخذت قرارها فعلاً، ومع ما أبدته من عواطف طيبة، قطعت كل علاقة تربطها بمن كانت تحبها، ورجعت بلا عودة.

إن كلمة الله لا تخبرنا عن عرفة بعد ذلك، ولكن خصصت هذا السفر بأكمله لتقص علينا تاريخ سلفتها راعوث. ولكن الله لا يبخسها حقها إطلاقاً، فيسجل الوحي شهادة نعمي عنها، لقد ذكرت بامتنان معدنها وكل ما فعلته كزوجة وككنة، سواء في زواجها أو بعد ترملها. إنه صالح في عيني الله أن نعرف ونقدِّر الخير في أي شخص، ويعطينا سيدنا ومخلصنا مثالاً، فالمرة الوحيدة التي يقول الكتاب فيها عن المسيح أنه أحب شخصاً غير مؤمن كانت عندما نظر إلى الشاب الغني، ذي الأعمال الصالحة (مر 17:10-23). إلا أن الصلاح الطبيعي مهما بلغ من استقامة وتوفيق لا يجعل الإرادة الذاتية تخضع لله، فالجسد دائماً يشتهي ضد الروح (غل 17:5).

لقد كانت المعاناة التي اجتازت فيها نعمي هي التي شوقتها لأن تبحث عما هو أفضل من موآب، فبدأت تراجع طرقها، وتأخذ خطواتها رجوعاً إلى الله، الذي في نعمته غير المتغيرة عاد وافتقد شعبه وأعطاهم خبزاً، وكان رجوع نعمي امتحاناً لعرفة، التي كان قلبها في موآب. هناك في موآب كانت تستطيع عرفة أن تكون "رفيق السفر" لنعمي، ولكن لما تحولت عواطف قلب نعمي إلى الله وإلى شعبه وإلى أرضه ظهر الوضع الحقيقي لعرفة. فبكلمات تبدو وكأنها من ورائها مشاعر حسنة، وبأسلوبها الرقيق المجامل، انسلخت ممن أبدت لهم أنها تحبهم، وعادت أدراجها إلى شعبها وآلهتها، وهكذا انتصرت "أنا" بكل المقاييس، وعلى العكس مما كنا نتوقعه حسب الظاهر.

هذا عين ما حدث مع الشاب الغني، لقد «مضى حزيناً». إن عدم الإيمان قد يبدو مهذباً رقيقاً، ولكنه لا يستطيع أن يسمو فوق مبادئ هذا العالم. وهذا ما يتكرر كثيراً اليوم. فكم من المؤمنين الذين يسمعون عن الحق الإلهي الخاص باجتماع المؤمنين يظهرون رغبة في طاعته، ولكنهم يتراجعون بسبب الكلفة الغالية، وغالباً ما لا يعودون إلى الحق إطلاقاً. فعندما يرفض واحد أن يدخل من «الباب المفتوح» في رؤيا 8:3 بسبب عدم الإيمان، فعادة لا يعود إليه. لذلك فإنه من المهم جداً في يوم اتخاذ قرارنا تجاه ذلك الحق أن نقول «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟» ثم نسير في الطريق التي يشير إليها متشددين، وكأننا نرى من لا يُرى.

قد يعني اسم عرفة "عنقها" فهي لم تكن لها الإرادة المكسورة، وهذا ما عاد بها إلى بلاد موآب، حيث لا يضع أحد الله في اعتباره، وحيث تجد إشباعاً لرغباتها الطبيعية. ولكن العاقبة هي أن تشترك في دينونة موآب.

إن ساردس تثق في العالم وتركن إليه، بل لقد صارت واحداً معه. لهذا السبب سيعاملها الله كما سيعامل العالم، وسيأتي لها الرب كلص في الليل، تماماً كما سيصنع مع العالم. (رؤ 3:3، 1تس 4:5).

وهكذا كان أن عرفة قررت أن تعود إلى موآب، أما راعوث فلصقت بحماتها.

عدد 15
الصفحة
  • عدد الزيارات: 25671