Skip to main content

الفصل الثامن: روح المسيح وكنيسة المسيح - روح المسيح

الصفحة 2 من 3: روح المسيح

1ـ روح المسيح

رأينا فيما تقدم، أنه يجب ألا ننظر إلى خطايانا كسلسلة من الحوادث المبعثرة، ولكن كأعراض وعلامات لمرض أدبي داخلي وقد علّمنا السيد أن نوع الأثمار يتوقف على نوع الأشجار التي تحملها "وكل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة والشجرة الردية تصنع أثماراً ردية. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثماراً ردية ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيدة" (متى 7: 17، 18) من هذا نرى أن السبب الرئيسي لخطايانا هو خطيتنا، طبيعتنا الموروثة الفاسدة الذاتية، وقد دعا يسوع هذه الطبيعة "قلب" الإنسان وقال "من الداخل من قلب الناس تخرج الأفكار الشريرة، زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان" وقال أيضاً "من فضلة القلب يتكلم الفم... الإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور" (مرقس 7: 21 – 23، متى 12: 34، 35)

ومن هذا نلاحظ أن تصرفنا الخارجي أن هو إلا تعبير عن طبيعتنا الداخلية، ومن المعقول أن التحسين في السلوك يتوقف على التغيير في الطبيعة وقد قال يسوع: "اجعلوا الشجرة جيدة، وثمرها (يكون) جيداً" (متى 12: 33) ولكن هل من وسيلة لتغيير طبيعة الإنسان؟ وهل في الإمكان تغيير إنسان فظ إلى إنسان حلو المعشر والحديث؟ ومن متكبر إلى متواضع، ومن محب للذات إلى خدوم مضحي؟ ويعلن الكتاب المقدس مؤكّداً أنه يمكن حدوث مثل هذه المعجزات وعساه جزء من مجد الإنجيل، فإن يسوع المسيح مستعد لا أن يغيّر فقط موقفنا نحو الله ولكنه يغير طبيعتنا أيضاً، وقد تكلم عن ضرورة الولادة الجديدة التي لا يمكن الاستغناء عنها، ولا زالت كلماته التي خاطب بها نيقوديموس ترن في الآذان وهو يقول لكل واحد: "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله .. لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق" (يوحنا 3: 3، 7) وعسى الرسول بولس يكتب أحياناً بشكل تصويري أكثر وهو يقول: "إن كان أحد في المسيح يسوع فهو خليقة جديدة" (2 كورنثوس 5: 17) هذه هي الإمكانات التي يتحدث عنها العهد الجديد – ألا وهي قلب جديد – وطبيعة جديدة، ولادة جديدة وخليقة جديدة.. ويجب أن يطهر النبع أولاً، حتى يتطهر المجرى..

إن هذا التغيير الداخلي العظيم هو عمل الروح القدس، فالولادة الجديدة هي الولادة "من فوق" والولادة من فوق معناها أن "يولد من الروح" (يوحنا 3: 6) وليس من المناسب هنا، أن نبحث عقيدة الثالوث الغامضة.. ويكفينا للوصول إلى غايتنا الآن، أن نتأمل فيما كتبه الرسل الأولون عن الروح القدس، لأن تعاليمهم امتزجت بقدرتهم وحياتهم.

أولاً: من المهم أن ندرك بان الروح القدس لم يأت إلى حيز الوجود أو انه بدأ نشاطه وعمله يوم الخمسين فحسب، ولكنه هو الله وهو أزلي وأبدي، وكان في العالم يعمل منذ بدء الخليقة وقد أشار إليه العهد القديم مراراً، وكانت نفوس الأنبياء تصبو إلى العصر المسيحي بأنه الوقت الذي فيه يتزايد عمل الروح القدس ويمتد وقد تكلم حزقيال وأرميا بنوع خاص عن عمله مستقبلاً في شعب الله وقد جاء في نبوة حزقيال قول الرب: "وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديداً في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي، وتعملون بها (حزقيال 36: 26، 27) هذه هي عطية القلب الجديد وهي مرتبطة تمام الارتباط بسكنى روح الله، الأمر الذي يصل بالإنسان إلى نتيجة طبيعية ألا وهي حياة الطاعة لشريعة الله ونلاحظ أن نبوة أرميا عن هذا العهد الجديد، تتضمن قولاً مشابهاً "وأجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم" (أرميا 31: 33) و لن يكون لشعب اللّه فيما بعد، حاجة إلى شريعة خارجية منقوشة على ألواح حجرية لا مندوحة لهم بطاعتها، ذلك لأن شريعة الله مكتوبة في قلوبهم بالروح القدس، الذي لا يكتفي بتعليمهم إياها فقط، بل يعطيهم قوة ليصيغوا حياتهم ضمن مستلزماتها.

وإن ما تنبأ به الأنبياء قديماً قبل مجيء المسيح بنحو سبعمائة سنة، وعد به المسيح أنه وشيك الحدوث، وقد اختلى مع تلاميذه الاثني عشر في العليّة قبل موته بساعات، وكلمهم عن "المعزّى" "روح الحق" المزمع أن يأتي ويحل محله... والواقع أن حضور الروح القدس خير لهم من حضوره الشخصي وهو على الأرض، وقال لهم: "خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله لكم" وإن الامتياز في ذلك هو بأن المسيح كان معهم وبجانبهم، ولكن "روح الحق.. ماكث معكم ويكون فيكم" (يوحنا 16: 7، 14: 17) وبكل تقوى ووقار يمكن أن يقال، إن خدمة يسوع من ناحية تعاليمه قد أصابها بعض الفشل، وكم من مرة أقام ولداً في الوسط وأوصى تلاميذه أن يتواضعوا، ولكن سمعان بطرس ظل متكبراً ومعتداً بنفسه.. وقد علمهم أن يحبوا بعضهم بعضاً وقد سمى يوحنا باسم "ابن الرعد" عن جدارة، ولكن عندما يدرس القاريء رسالة بطرس الأولى، لا يفوته أن يلاحظ إشاراته عن التواضع، كما أن رسائل يوحنا ملآنة بالمحبة.. فما هو السبب في هذا الفرق؟ إنه الروح القدس.. وقد علمهم يسوع أن يكونوا متواضعين ومحبين، ولكنهم فشلوا في إظهار أي من الصفتين قبل أن يمتلكهم الروح القدس بشخصه، وقبل أن يغيّرهم في الداخل ففي يوم الخمسين "امتلأ الجميع من الروح القدس" ولا تظنوا أن ذلك كان اختباراً شاذاً أو غريباً على الرسل والقديسين، لأن الوصية الموجهة إلى جميع المسيحيين تقول: "امتلئوا بالروح" وما حلول الروح القدس في داخل الإنسان؛ إلا حق موروث لكل مسيحي حقيقي وفي الواقع، إن لم يكن الروح القدس، قد سكن في داخلنا، فهذا يعني أننا لم نبلغ بعد حد المسيحية الحقة وقد قال بولس: "إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له (أي للمسيح)" (انظر أعمال 2: 4، أفسس 5: 8، رومية 8: 9).

إذاً هذا هو تعليم العهد الجديد، فحينما نضع ثقتنا في يسوع المسيح، ونتكل عليه ونسلمه أنفسنا وذواتنا، يدخلنا الروح القدس، لأنه مرسَل من الله "إلى قلوبنا" ويجعل من أجسادنا "هياكل له" (غلاطية 6: 6، 1 كورنثوس 6: 19).

هذا لا يعني أننا من تلك اللحظة، غير معرّضين للسقوط في الخطيئة ولكن بالعكس، فإنه في بعض الحالات، تزداد المعركة شدة، ولكن من ناحية أخرى، ينفتح أمامنا باب النصرة، ويرسم لنا بولس الرسول في الإصحاح الخامس من رسالته إلى غلاطية، صورة حقيقية للمعركة، فالخصمان هما: "الجسد" وهو الاسم الذي يطلقه الرسول على الطبيعة الموروثة الفاسدة، ثم "الروح" ويقول: "إن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر" (غلاطية 5: 17) وعسانا نلاحظ أن هذا ليس رأياً لاهوتياً فحسب، ولكنه اختبار يومي يجوزه كل مسيحي، فإننا نشعر باستمرار الشهوات الخاطئة، والملذات الردية، تجذبنا إلى الأسفل وفي نفس الوقت نلمس قوات معاكسة ترفعنا وتسمو بنا إلى القداسة ولو أطلق "للجسد" العنان، لقادنا إلى مهاوي الفساد والانحطاط والرذائل، التي يعددها بولس الرسول في الأعداد 19 – 21، ومن ناحية أُخرى، لو سمحنا للروح القدس، أن يشتق طريقه فينا، لأضحت النتيجة "محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف" (غلاطية 5: 22 – 23) ويسمي بولس أيضاً هذه الفضائل المغرية "أثمار الروح" ويشبه الخلق البشري ببستان حيث يقوم الروح القدس بالزراعة، فهل نسمح له أن يضع أشجاراً جيدة، تعطي أثماراً جيدة..

ولكن ما السبيل إلى قهر "الجسد" وأعماله الردية الشريرة حتى يمكن "لأثمار الروح" أن تنمو وتنضج؟! والجواب يتوقف على موقفنا الداخلي الذي نقفه من كل من الخصمين "فالذين هم مع المسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" "اسلكوا بالروح ولا تكملوا شهوة الجسد" (غلاطية 5: 24، 16).. وعلينا أن نتخذ موقف المعارضة العنيفة والقمع ضد الجسد، أي أن "نصلبه"، أما بشأن الروح، فيجب أن نعطيه السيادة المطلقة على حياتنا، وكلما عودنا أنفسنا على مقاومة الجسد، والخضوع للروح كلما تلاشت أعمال الجسد القبيحة، وازدادت أثمار الروح الجميلة.

ويعلّم الرسول بولس ذات الحقيقة في رسالته الثانية إلى كورنثوس (3: 18) حيث يقول: "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح".. لا يغيّرنا إلى صورة المسيح ومثاله، سوى روح المسيح إذا ثبتنا وجهنا نحوه، ولذلك يظهر دورنا الذي يجب أن نقوم به وهو التوبة والإيمان وضبط النفس، أما القداسة فهي من عمل الروح القدس..

كل بر نملكه

وكل نصر أحرزناه

وكل تفكير مقدس

كلها منه، دون سواه

***

يا روح الطهر والنعمة

انظر لضعفنا متعطفاً

واجعل قلوبنا لك مسكناً

يليق بك، أيها الإله

اعتاد رئيس الأساقفة "وليم تمبل" أن يوضح هذا الدرس، على النحو التالي: "لا فائدة أن تعطيني رواية تمثيلية مثل رواية هملت أو الملك لير، وتكلّفني أن أكتب رواية مثلها.. لأن شكسبير وحده هو الذي استطاع أن يؤلفها، كما لا فائدة أن تريني حياة مثل حياة يسوع، وتطلب مني أن أحيا حياة مثلها، لأن يسوع وحده استطاع أن يحياها.. أما أنا فلا أستطيع، ولكن لو انتقل إليّ نبوغ شكسبير وعبقريته، وسكن فيّ، لأمكنني أن أكتب روايات مثل هذه " ولو جاء روح يسوع وسكن فيّ، أمكنني أن أحيا حياة مثله" هذا هو سر القداسة المسيحية، فليس الأمر مجرد محاولة لكي نحيا مثل يسوع، بل ان يسوع يأتي بروحه ويحيا فينا، فلا يكفي أن نتخذه مثالاً لنا، ولكننا نحتاجه مخلّصاً لنا، وإنه عن طريق موته الكفاري فقط، يمكن أن ننجو من قصاص الخطية، بينما تكسر حدة خطايانا وقوتها، بواسطة روحه الساكن فينا.

كنيسة المسيح
الصفحة
  • عدد الزيارات: 9115