Skip to main content

حياة القائد الداخلية - التواضع

الصفحة 3 من 4: التواضع

التواضع:

هناك ميّزة هامة في اعتبار الحياة الداخلية للقائد وهي التواضع في مواجهة الموقف حيث يكتفي معظمنا بالبقاء حياً. ارتفع دانيال إلى مركز القوة والنفوذ، وتحت إرشاداته ازدهرت المملكة. وكان بمقدوره إسداء النصح والإرشاد للملك، وخلال كل ذلك بقي خادماً متواضعاً لله. وغالباً عندما كان بإمكانه أن يرفع نفسه، كان يكتفي بإعطاء كل الفضل للرب. فقد أجاب دانيال بحضور الملك: "السرُّ الذي طلبه الملك، لا تقدر الحكماء، ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجّمون على أن يثبتوه للملك. لكن يوجد إله في السموات كاشف الأسرار، وقد عرّف الملك نبوخذنصّر ما يكون في الأيام الأخيرة. حكمك ورؤيا رأسك على فراشك هو هذا. أنت يا أيها الملك، أفكارك على فراشك صعدت إلى ما يكون من بعد هذا، وكاشف الأسرار يعرّفك بما يكون. أما أنا فلم يُكشف لي هذا السر لحكمة فيَّ أكثر من كل الأحياء. ولكن لكي يُعرَّف الملك بالتعبير ولكي تعلم أفكار قلبك" (دانيال 2: 27- 30).

إن الروح المتواضعة هي سمة يتميّز بها الرجل الذي يستخدمه الله. إن الله يطلب هذا من خادمه "أنا الرب هذا إسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات" (أشعيا 42: 8) وعندما ينحرف رجاله عن جادة التواضع ويبدأون بالتفاخر وتعظيم أنفسه يجد الله طريقه لإعادتهم إلى الطريق القويم.

زرت في صيف إحدى السنين حقلاً ارسالياً في الخارج، وهناك ذكر لي أحد المرسلين هذه القصة المدهشة:

قال، أنه عندما سافر ليلتحق بالعمل الإرسالي، اعتقد انه عطيّة الله للعالم وللبلاد التي سافر إليها. كان موقفه ولسان حاله "انتظروا حتى أصلّي وأريكم ماذا سأفعل. سأصحِّح كل الأخطاء واجعل العمل ناجحاً ومنتجاً"، وعلى ذلك وصل وبدأ عمله.

إن الذي حدث هو أن موقف هذا المرسل من زملائه لم يحبِّبه كثيراً إلى قلوبهم. فقد رأوا روحه المتعجرف وابتعدوا عنه. والأسوأ من ذلك هو أن الله أيضاً لم يُسرَّ بأسلوبه ولم يُنجح جهوده. عمَّ الاضطراب حياته وأخفقت كل مخطَّطاته. يقول الكتاب: "كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ، وكونوا جميعاً خاضعين بعضكم لبعض وتسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعين فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القويّة لكي يرفعكم في حينه" (1 بطرس 5: 5- 6) إن الله يقاوم المتكبّر ولا يباركه. من أنت لتجابه الله العظيم؟ وهكذا غمر الفشل والحزن حياة ذلك المرسل.

لكن للقضية نهاية سعيدة. صار المرسل يرى خطأ طريقته فندم على خطيئته. وبدأ يسير بتواضع مع الله فأصبحت حياته مباركة. "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك" (ميخا 6: 8).

هناك فقرات كثيرة في الكتاب المقدس تعالج هذا الموضوع وهاك بعضاً منها:

أمثال 6: 16- 17:

"هذه الستّة يبغضها الرب وسبعة هي مكرهة نفسه: عيون متعالية، إنسان كاذب، أيدٍ سافكة دماً بريئاً" لاحظ العبارة الأولى في هذه القائمة.

أمثال 8: 3:

"مخافة الرب بغض الشرّ. الكبرياء والتعظم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضت." لاحظ باهتمام الكلمة الأولى في هذه القائمة.

لماذا يقاوم الله بشدّة كل تكبّر وعجرفة؟ هل هي مجرد وصيّة أمر بها الله ولا نجد لها معنى؟ لا، بالطبع لا. كما في كل شيء في الكتاب المقدس، عندما يطلب منا العمل بوصاياه والعيش بحسب مقياسه فهو لأن ذلك يؤول لخيرنا. إن الطريق إلى السعادة هي بأن نحوِّل النظر عن أنفسنا ونعمل لخير الآخرين. إن القائد الروحي لا ينجح إلاّ إذا سار في الحياة بهذا الروح. والكبرياء هي إحدى أدوات الشيطان التي يستخدمها لكي يجعل المؤمنين يركِّزون أنظارهم في أنفسهم بعيداً عن الآخرين.

عندما تحصر اهتمامك في نفسك، تفقد الشعور بحاجات الآخرين. عن هذا يجعل حياتك مصدر أذى لشعور الآخرين وسبب إهانة لهم واستغلال دون أن تدري.فلقد لاحظت ذلك في حياة أشخاص لهم مراكز قيادية وكان من المحزن مراقبة تقهقرهم الروحيّ.

فيلبي 2: 3- 4:

"لا شيء بتحزُّب أو بعجب بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً".

نجد مثلاً واضحاً على تأثير الكبرياء الهدّام في حياة عُزيّا، أحد ملوك يهوذا. "كان عزيّا ابن ست عشرة سنة حين ملك. وملك إثنين وخمسين سنة في أورشليم، واسم أمه يكليّا من أورشليم". (2 أيام 26: 3). كان سلوك هذا الملك في البدء مستقيماً. "كان يطلب الله في أيام زكريا الفاهم بمناظر الله، وفي أيام طلبه الرب أنجحه الله (الآية 5) وأصبح ناجحاً ومشهوراً. وأعطى العمونيون عُزيّا هدايا، وامتد إسمه إلى مدخل مصر لأنه تشدَّد جدّاً (الآية 8). لقد جمع جيوشاً قوية وباركه الله.

ثم أتت بداية تقهقره. "ولما تشدّد ارتفع قلبه إلى الهلاك وخان الرب إلهه ودخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور" (الآية 16). ماذا كانت مشكلته؟ لم يتمكن من السيطرة على نفسه في وقت النجاح. لقد سيطر عليه التكبّر. فضربه الله بالبرص.

على القائد أن يكون قادراً على تحديد أهدافه، ثم تعيين الطرق الواجب إتباعها للوصول لتلك الأهداف. إن التكبُّر هو ألدّ أعدائه في هذا الظرف. فعندما يمتلئ الإنسان من التكبّر، لا يعود قادراً على رؤية الطريق التي توصله للهدف، بل يرى فقط الطريق التي توصله إلى العظمة والهتاف. وعلى نحو ما فالتكبّر يعمي الإنسان فلا يعود يرى الطريق القويم، ويفقد عقله القدرة على التمييز. يرى فقط ما يريده التكبُّر، وهذا يقوده إلى العواقب الوخيمة.

وقد سقط الملك نبوخذنصّر بسبب التكبّر "فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبّراً، انحطَّ عن كرسي ملكه ونزعوا جلاله" (داود 5: 20).

ومن ناحية أخرى يصوّر أشعيا صفة الملك الذي يستخدمه الله. "هكذا قال الرب: السموات كرسيّي والأرض موطئ قدميّ. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي. وكل هذه صنعتها يدي، فكانت كل هذه يقول الرب. وإلى هذا انظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (أشعيا 66: 1- 2) لقد سمعت بيلي غراهام يقول في مناسبات عديدة أنه يعطي كل المجد لله بالنسبة لما يتم من خلال تبشيره. وهو يقرّ بتأكيد بأنه لو نسب المجد لنفسه لقضى على خدمته.

يعتبر روح التكبّر إذن النهاية الحتميّة للقائد. إنه يفسد فعّاليته في خدمة الله لأنه يسبب مرضين خطيرين في الروح. الأول هو الجهل.فالتكبّر يجعل الإنسان يعتقد في نفسه الإكتفاء الذاتي وعدم إمكانية التعلّم. إنه يعميه عن احتياجاته ويبعده عن قبول النصيحة الطيّبة واستشارة الآخرين.

نجد في أكثر أسفار الكتاب المقدس كيف يوجّه الله أنظارنا إلى القيمة العظيمة للمشورة "مقاصد بغير مشورة تبطل، وبكثرة المشيرين تقوم" (أمثال 15: 22).

فالمشورة الروحية لابد أن تكون تلك الموجهّة لمرضاة الله. كثيرون هم الذين يطلبون نصيحة نزيهة غير متحيّزة. المشورة حتى لو أعطيت من شخص يحبك فعلاً، ومهتم لمصلحتك، يمكن أن تكون خاطئة.

إني أذكر كيف ناقشت ذلك مع كريستيان ويس، وهو مرسل ومدير لعمل إرسالي، فقال لي أنه هو نفسه ما كان ليلبّي دعوة الله له ويذهب للقيام بالعمل الإرسالي لو أنه أصغى لنصائح بعض الأصدقاء والأقارب. لقد اعتقد أولئك بأنه كان يخاطر بحياته ويقضي على مستقبله، مع العلم بأن أولئك الأصدقاء كانوا أوفياء ويريدون له الخير.

على القائد أن يضع هذه الأشياء نصب عينيه عندما يأخذ أو يعطي المشورة. إذ يجب عليه أن تكون له قابليّة التعلّم، دون أن يكون ساذجاً. بل يجب عليه أن يزن المشورة التي تعطى له بميزان الكتاب المقدس ولمصلحة ملكوت الله. يجب أن يُبقي قلبه مفتوحاً للآخرين، قابلاً للتعلم. "حيث لا تدبير يسقط الشعب، أما الخلاص فبكثرة المشيرين" (أمثال 11: 14).

أما المرض الثاني الذي يسبّبه التكبُّر فهو عدم الأمان. فالقائد الذي ينظر إلى نفسه كثيراً يهتم كثيراً بمظهره أمام الآخرين. فهو يقيس نفسه باستمرار بمقياس تصرفات الآخرين. إن كلمة الله تبيّن أن هذا موقف غيبيّ سخيف وغير عاقل. "لأننا لا نجترىء أن نعدّ أنفسنا بين قوم من الذين يمدحون أنفسهم، ولا أن نقابل أنفسنا بهم، بل هم إذ يقيسون أنفسهم على أنفسهم ويقابلون أنفسهم بأنفسهم لا يفهمون" (2 كورنثوس 10: 12).

من المفترض أن نستريح في المعرفة المباركة بأنه "قد وضع الله الأعضاء كل واحد منها في الجسد كما أراد". إلا أن القائد قد يكون قلقاً يهتم دائماً بتفكير الآخرين من جهته. إن هذا يجعله قليل التأثير في عمله، إذ لا تكون أنظاره دائماً على الهدف، ويصبح مساعدوه مصدر تهديد له بدلاً من المساعدة.

ولابد من أن ينجم عن ذلك موقفان متطرِّفان. فهو إما أن يؤثر على الآخرين، بخطط طامحة ليريهم ما يستطيع أن يعمله، أو أن يتراجع إلى نقطة الجمود. إذ لو طرح للعمل برنامجاً ضخماً فإنه يكون على الأرجح مدفوعاً بدافع جسدي وينتهي بالنتيجة إلى الفشل.

أذكر مرة أني راقبت رجلاً عمل هذا، فكانت النتيجة كارثة. فقد كان ذلك أشبه بمصنع ضخم يتصاعد منه الغبار، وتدور الآلات بأقصى سرعتها والعمّال منهمكون في التحرك، بينما لم تكن أية نتيجة على صعيد الصناعة وتجميع الأجزاء. ذلك لأن قلق القائد دفع به إلى خلق جو نشاط مؤقت، بينما لم يكن أساس للعمل ولم يُحز على بركة الله.

أما الموقف المتطرّف الآخر فهو بالطبع الخوف من الفشل الذي يدعو إلى الجمود. فبدلاً من أن يقرّ المرء بضعفه ويخطو في الإيمان، يقف ولا يعمل شيئاً. إن بولس الرسول اكتشف ضعفه ولكنه اعتبره مصدر قوّة في عمله للمسيح إذا كان يسير في الإتجاه الصحيح. "من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني، فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوّتي في الضعف تُكمَل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قوة المسيح" (2 كورنثوس 12: 8- 9). إن روح التواضع في حياة القائد هو قوّة جبّارة في الله القدير.

كيف يمكن للقائد أن يحتفظ بروح التواضع أمام الله؟ إن هذا يتعلق بالطبع بأشياء كثيرة، ولكن أحدها يبرز أكثر من سواه. لكي يسير الإنسان بتواضع أمام الله يجب أن يحيا حياة تسبيح حقيقيّ. ففي السماء كائنات تحيط بالعرش قائلة "قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء" (رؤيا 4: 8) فلو عاش القائد بروح التسبيح، فسوف يُذكّره هذا بخطئه وضعفه. فبدل أن يجيء التذكير بالخطيئة عن طريق الإستبطان وفحص الإنسان لداخله يجيء نتيجة لقلب مملوء من التمجيد وتسبيح الرب على قوّته: وهذا بدوره يمكن أن يستعمله الله لدفع القائد في الإيمان واثقاً من الوعد "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني" (فيلبي 4: 13).

الإيمان
الصفحة
  • عدد الزيارات: 11355