Skip to main content

الفصل التاسع: معاناة الأبرياء

منذ الأيام الأولى للمسيحية، عرف اللاهوتيين الإنجيل وفسروه بكل تأثير، ودافعوا عنه بالمنطق والذكاء. لكن، في واقع الحال، كان لعمل هؤلاء الدارسين المشهورين مساهمة في انتشار المسيحية فعلياً، أقل على الأرجح من البرهان المنظور لقوتها كما برز بين معتنقيها الأكثر تواضعاً. لقد ظهر الإيمان الجديد بأنه معقول ومقبول منطقياً. كما أنه لم يكن أقل فعالية في برهان صدقه وصحته، وذلك من خلال قدرته على تغيير حياة الناس العاديين من كل فئات المجتمع ومرتباته. وقد ظهرت جدارة هذا الإيمان في ما تحلى به المسيحيون الأولون من خلق مستقيم ومحبة رائعة في مجال تعاملهم مع جيرانهم. كما أن هذا الإيمان بان جذاباً في عطفهم على المحتقرين والضعفاء من الناس. أما قدرته، فقد برزت قبل كل شيء في مواجهتهم الاضطهاد بثبات لا يتزعزع. وبالتأكيد، كان أولئك المسيحيون على اتصال بالكائن الإلهي ذي القوة والسلطان العظيمين. لقد دقر لهذا الإيمان الجديد بشكل واضح أن يبطل تلك الفلسفات المعيبة، والديانات التي أثبتت أنها خيبة أمل محزنة للأجيال الماضية، لكي يحل محلها.

وعلى العكس ما يمكن أن نتصور، كان نمو الكنائس يزداد سرعة على قدر ما يعنف الاضطهاد ضدها. وقد اعتبرت السلطات في شمال إفريقيا أن المسيحية تشكل تهديداً للاستقرار وأنها تعمل في جميع أشكالها ضد القانون، وذلك على مدى السنوات الثلاث مئة الأول من وجودها. وكان أتباع المسيح، في الواقع، يعتبرون من الخارجين على القانون، وهم معرضون في أية لحظة للمطاردة، وذلك من حكام وولاة القناصل الرومان. كانت تمر سنين طويلة لم يكن يحصل فيها أي شيء يعكر نمو الكنيسة الهادئ. ثم فجأة، حين تجمح نزوة إمبراطور أو حاكم ما، كان يصيبهم اضطهاد عنيف. وكان كل مسيحي مؤمن يعلم، أنه عاجلاً أم آجلاً، قد يأتي ذلك الوقت الذي فيه يشهد للمسيح وذلك على حساب حياته.

كانت كنائس شمال إفريقيا قد ألفت كتابات العهد الجديد وما دونه من أعمال الشهادة، كاستشهاد استفانوس ويعقوب. كما وصلتهم فيما بعد أخبار عن الإمبراطور المجنون نيرون (Néron)، الذي حرضه غيظه المتوحش ضد المسيحيين في روما، وعن ادعائه الكاذب بأنهم أضرموا النار في روما ما أدى إلى هدم جزء كبير من المدينة. لقد علموا بموت البشيرين بطرس وبولس اللذين من المحتمل أنهما قتلا في هذا الوقت. وكانوا يسمعون بحوادث الاستشهاد التي كانت تحدث دورياً وبين الحين والآخر، في أجزاء أخرى من الإمبراطورية الرومانية، كاستشهاد إغناطيوس (Ignace)، ناظر الكنيسة في أنطاكية، والذي سيقَ إلى روما و قُتل هناك سنة 110م، واستشهاد يوستينوس الشهيد (Justin Martyre) في العام 165للميلاد في روما أيضاً. ولكن لم يكن هناك شيء تجاوز أو حتى وصل إلى المشهد المأساوي لاستشهاد بوليكاربوس (Polycarpe) في أيامه الأخيرة، وهو ناظر كنيسة سِميرنا (تركيا). وهذه الحادثة الأليمة مذكورة في رسالة طويلة كتبها المؤمنون في تلك المدينة.

كان بوليكاربوس في أيام شبابه من تلاميذ الرسول يوحنا، وصديقاً لإغناطيوس. وعندما أصبح شيخاً مسناً كانت كنائس المنطقة تنشد في كثير من الأحيان استشاراته الحكيمة و المحبة. وغالباً ما كان يُدعى لحل الخلافات التي قد تنجم من جرّاء اختلاف وجهات النظر و الآراء. عاش شيخوخة سعيدة وحافلة بالإنجازات في وسط الجماعة المسيحية التي أحبّته وكرّمته.

اهتزت الكنيسة في سِميرنا بعنفٍ عندما ألقت السلطات الوثنية، وبشكلٍ مفاجئ، القبض على عددٍ من أعضائها، وجرى إعدامهم بسبب الإيمان. وقد اجتمع كل من اليهود و الوثنيين ليستمتعوا بالمشهد. وفي خضّم هذه العاصفة الهوجاء، راح بعض المتفرّجين يطالبون بقائد الكنيسة هاتفين: "فتّشوا عن بوليكاربوس."

وهكذا تابع مؤمنو سِميرنا بكل أمانة، شرح ما حدث بعد ذلك، فكتبوا: "عندما سمع بوليكاربوس، الرائع للغاية، بهذا الأمر لأول مرة، لم يرتعب أو يفزع، بل رغب في أن يبقى في المدينة إلاّ أنّ غالبية المؤمنين حاولوا بإلحاح أن يقنعوه بأن يترك المكان، فانسحب إلى مزرعة صغيرة لا تبعد كثيراً عن المنطقة التي كان فيها. وكان يقضي وقته هناك مع نفرٍ من رفاقه، مشغولين ليل نهار بالصلاة لأجل الجميع و للكنائس في كل أنحاء العالم، كما كانت عادته دائماً." وبعد بضعة أيام، انتقل إلى مزرعة أخرى قريبة، رافضاً بثبات الفرار من الجوار. كان يتوقع بالكلية أن تقبض عليه السلطات الرومانية في أية لحظة، وكان ينتظرهم بهدوءٍ تام.

وفي وقتٍ متأخر من إحدى الليالي المظلمة، وصل جنود إمبراطوريون إلى المزرعة. وكان بوليكاربوس يرتاح في الغرفة العلوية. وإذ سمع أصواتاً وصخباً في الطابق السفلي، قال باطمئنان: "لتكن إرادة الله." ثم نهض و طلب أن يُحضر الطعام والشراب المنعش للجنود، وسألهم أن يمهلوه ساعةً واحدة فقط ليصلّي. فعندما رآه الجنود، تأثروا من شيخوخته وثباته، كما دهشوا من افتعال مثل هذه الجلبة والضجة بسبب هذا الرجل الطاعن في السن. "وقف وصلّى،" أردف الصحابة المسيحيون في سِميرنا قائلين: "كان ممتلئاً من نعمة الله تعالى، بحيث لم يكفّ عن الكلام خلال ساعتي الصلاة، بينما كان الذين حوله مشدوهين متعجبين. لقد أسف الرجال الجنود، على أنهم جاءوا يطلبون هذا الرجل الجليل والعجوز المهيب." لقد صلّى للجميع، ولإخوته ولأخواته في المسيح، ولكل من خطر بباله من الصحاب والأصدقاء، ذاكراً إياهم بأسمائهم. ومن ثمّ أجلسوه على حمار، وساروا به يقصدون المحكمة في سِميرنا.

وعندما اقتربوا من المدينة، لاقاه رئيس الشرطة هيرودس و والده صدفةً في الطريق. فأخذا بوليكاربوس في عربتهما وحاولا ثنيه عن عناده ورفضه القول: "مولاي القيصر"، ورفضه إنقاذ حياته بتقديم القرابين و التقدمات للآلهة الوثنية. ومع ذلك، فقد أصرّ الشيخ الجليل على الرفض بأدبٍ جم. وأخيراً، حين يئسوا من ثباته، وقد نفد صبرهم، دفعوه بغضبٍ إلى خارج عربتهم. وقع بوليكاربوس بقوةٍ إلى الأرض فجرحت رجله. وقد استخفّ بجرحه، وبقي سائراً في الطريق مع حرسه، حتى وصلوا أخيراً إلى الملعب، وهو الميدان الذي تجري فيه المباريات وتُعرض فيه المشاهد. ثم تابع كاتب الرسالة يقول: "الآن، وبينما كان يدخل المدرج، جاءه صوتٌ من السماء يقول له: "تقو يا بوليكاربوس، وكن رجلاً." لم يرَ أحدٌ المتكلم، ولكنّ ذلك الصوت سمعه الإخوة المؤمنون الذين كانوا حاضرين هناك." وعلا صوت المحتشدين حتى أصبح من الصعب سماع ماذا كان يجري. سأل القاضي بوليكاربوس أن يقسم بقوة قيصر الإلهية، وأن يلعن المسيح. فأجاب بوليكاربوس، وكان جوابه واحداً من كنوز التاريخ المسيحي: "لقد خدمت المسيح ستةً وثمانين سنة، ولم يخذلني المسيح أبداً. فكيف تريدني الآن أن أجدّف على اسم مليكي ومخلّصي؟"

أنذره القاضي ثانيةً، فازداد بوليكاربوس صلابةً وشدّة، وقال: "إن كنت تتوهم، أنني سأقسم بقدرة قيصر الإلهية كما تقول، متظاهراً أنك لا تعرف من أنا، فاسمع جيداً: أنا مسيحي. و إذا كنت مستعداً وراضياً على أن تتلقّن التعليم المسيحي، فامنحني يوماً واحداً وأصغِ إليّ." حينئذٍ قال الوالي: "إذاً أقنع الناس الذين هنا." فأجاب بوليكاربوس: "لقد حسبتك مستحقاً أن أتكلم معك، فإن عقائدنا تعلّمنا أن نخضع للسلاطين وللذين هم في منصب، لأنهم مقامون من الله. أمّا هؤلاء الرعاع، فلست أجدهم يستحقون أن أقدّم دفاعي أمامهم." هنا، أنذره القاضي ثانيةً طالباً منه أن يقرّب التقدمات للوثن، مهدداً إياه بالوحوش الكاسرة في حال استمرّ رفضه. فقال بوليكاربوس: "أرسل في طلبها، إن الارتداد من الأحسن إلى الأسوأ هو أمر مرفوض عندنا، ولكنّ التغيير من الباطل إلى الحق هو العمل النبيل." عند ذاك هدده القاضي بأن يضرم به النيران وهو حي. "أنت تهددني بنار تشتعل لفترة قصيرة،" أجاب بوليكاربوس، "ولكنك لا تعلم شيئاً عن النار الأبدية التي أُعدّت للأشرار. والآن لماذا تتوانى، جئ بما تشاء."

عندها نطق القاضي بالحكم على بوليكاربوس، فأعلن المنادي الذي يذيع الأحكام من منتصف المدرج قائلاً ثلاث مرات: "لقد اعترف بوليكاربوس أنه مسيحي!" فجُهّز العمود الذي يُشدّ إليه المحكوم بالموت حرقاً، و كُدّست حوله كومة من الخشب. مشى بوليكاربوس بهدوء وتؤدة إلى المكان، و وقف قبالة العمود. وبينما اقترب منفّذو الحكم ليسمّروه على العمود حتى لا يسقط، طلب بوليكاربوس ألاّ يكلّفوا أنفسهم كل هذه المشقة بالقول: "ذاك الذي يعطيني القوة لتحمّل اللهب، هو نفسه سيمكّنني من الوقوف بثبات." لذا فقد رُبط بحبلٍ فقط، وإذ اندلعت النيران بقوةٍ حوله، سُمع صوته وهو يقدّم الشكر لله الذي سمح له بأن يعاني الآلام، كما عانى مخلّصه، من أجل الحق، ورفع عينه إلى السماء قائلاً: "أيها الرب القادر على كل شيء، أشكرك لأنك اعتبرتني مستحقاً، في هذا اليوم، وفي هذه الساعة، أن أشارك مع الشهداء في القيامة للحياة الأبدية." وبعد هذا رأوا اللهيب يعلو ويتصاعد حوله، من دون أن يظهر على بوليكاربوس أنه يتأذى. عندئذٍ غمد أحد العساكر سيفاً في جنبه. وللوقت، اندفع الدم يتدفق من جنبه وكأنه جدول من الجداول، سبّب في إطفاء النار. إلاّ أن الوالي كان قد قرر أنه لا يحق للمسيحيين أن يكون لهم الكلمة الفصل، ولا أن يتسلّموا جثة قائدهم الموقّر. لذلك، أمر بإضرام النار ثانيةً. وهكذا دخل بوليكاربوس إلى فرح سيده.(1)

لقد اتّحد كل من اليهود والوثنيين والجماهير والسلطات، بقلبٍ واحد وفكرٍ واحد، لإبادة الجماعة المسيحية. إلاّ أن مثل هذا العمل كان بعيداً كل البعد عن متناول أيديهم. "لم يعلم هؤلاء،" تقول الرسالة من سِميرنا، "أننا لا نستطيع أبداً أن نتخلّى عن المسيح، الذي تألّم لتأمين الخلاص لأولئك الذين ينالون الخلاص من العالم بأسره، وأننا لا نتمكن أبداً من عبادة أي شيء آخر." وبموت بوليكاربوس في العام 156بعد الميلاد، توقّف اضطهاد المسيحيين في سِميرنا. لقد فشلت هذه الأساليب القمعية تماماً في إرهاب الكنيسة أو ترعيبها. والآن جاء دور بلاد الغَال (Gaule) وشمال إفريقيا.

 

ظهرت أولى بوادر عملية اضطهاد المسيحيين في مناطق الشواطئ الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، في أثناء حكم الإمبراطور ماركوس أوريليوس (Marc Aurele) وابنه كومودوس (Commode) في الفترة بين العامين 177و192 ميلادية. وفي هذا الوقت أيضاً، وصلت الأخبار إلى كنائس إفريقيا الشمالية عن الحوادث التي تقع في بلاد الغال (فرنسا)، تلك الحوادث التي سلّطت الضوء على الشعور الذي كان سائداً في الإمبراطورية الوثنية في ذلك الوقت. ففي مدينة ليون (Lyon) وفيَان (Vienne) انتشرت شائعات تدّعي حصول أشياء بغيضة في الأوساط المسيحية: زنا المحارم، قتل وحتى أكل لحوم البشر. ونتيجةً لهذه الشائعات الكاذبة، أُبعد المسيحيون عن الأماكن العامة، والحمامات والأسواق، ومُنعوا من الظهور علناً. وفي العام 177ميلادية، عُذّب عدد من الخدام والعبيد العاملين في بيوت المسيحيين، وذلك بأسلوبٍ بشع في محاولة من المعذِّبين لتثبيت هذه التهم الكاذبة. وهكذا تمكّنوا بحدّ السيف من انتزاع شهادات واعترافات رهيبة، من هؤلاء القوم الضعفاء والحائرين في ساحة المدينة. وقد أثار الرعاع من جراء ذلك مشاعر بعضهم بعضاً إلى درجة الجنون والهوس. كان المسيحيون يُجروّن إلى الساحات العامة، حيث كانت الحشود تزداد غضباً لدى سماعها التهم الملفّقة على المسيحيين. ولكن، بالرغم من شتى ضروب التعذيب الرهيبة، لم يجد الحكّام دعماً لاتهامهم المسيحيين بالخيانة العظمى ضد الإمبراطور.

أُجبرت إحدى الجواري المدعوة بيبلياس (Biblias)، على الإدلاء بتصاريح كاذبة ضد العائلة المسيحية التي كانت تعمل لديها، ثم سيقت الجارية ثانيةً لتدلي بتصريحات إضافية ضد هذه العائلة. ولكنها في هذه المرة وقفت ضد معذبيها وعارضتهم قائلةً إنها هي أيضاً مسيحية، وإن ما أدلت به في السابق ضد هذه العائلة كان ادّعاءً لا أساس له من الصحة، وقالت، إن هذه العائلة بريئة من أية جريمة. فماتت هذه الجارية شُجاعةً ثابتة الإيمان. كذلك، فإن أحد المعاونين في مدينة ليون، وكان يدعى سانكتوس (Sanctus)، ألقي القبض عليه، وصُبّ النحاس الساخن على جسده، لكنه لم يقل إلاّ عبارة واحدة ردّدها باستمرار، وهي: "أنا مسيحي."

وفي مدينة مجاورة، رفض أحد الشباب الأغنياء، ويُدعى سيمفورينوس (Symphorinus) أن ينحني أمام صنم الإلهة سِبلي (Cybele)، فحُكم عليه بقطع رأسه. وكانت أمه، هي الأخرى، مسيحية، ولم تُظهر أية علامة من علامات الخوف أو الفزع. وعندما كان في طريقه إلى منصَّة الإعدام، صرخت إليه قائلةً: "اثبت يا بنيّ، ولا تخف من الموت الجسدي الذي سيؤدي بك بكل تأكيد إلى الحياة. انظر إلى الرب الذي مُلكه في السماء. إنّ حياتك الأرضية لا تؤخذ منك اليوم، وإنما يحوّلها الرب إلى الحياة الأبدية المباركة في السماء."

توفّي عدد كبير من المؤمنين في سجون ليون خلال تلك الحقبة من الزمن، وذلك من دون إجراءات قضائية أو محاكمة. أمّا أولئك الذين سَلموا وعاشوا، فقد وضعوا تقريراً لما حصل فتحدّثوا بكلمات مؤثرة عن قائد مسنّ في الكنيسة. "والآن، جاء دور بوثينوس (Pothinus) المبارك الذي كان مؤتمناً على خدمة النظارة في ليون، وكان قد تجاوز التسعين من عمره، وبات ضعيف الجسم و واهناً جداً... لقد استُدعي إلى كرسي الحكم يحرسه قضاة المدينة وكل أسافل الناس الذين كانوا يصرخون ويصفرون مستهزئين بجلبة كبيرة. وإذ سأله الحاكم من هو إله المسيحيين؟ أجابه: "إذا كنتَ أهلاً وجديراً فأنت ستعرف بنفسك." وعندها تمّ جرّه بلا شفقة، وبدأ المتجمهرون يركلونه ويلطمونه، وأمّا الذين كانوا بعيدين عنه، ولم يتمكنوا من أن تطاله أيديهم أو أقدامهم، فقد كانوا يقذفونه بما عندهم من حاجات أو أشياء، وكان يتنفس بصعوبة حين ألقي في السجن، ولم يمرّ يومين حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

 

لقد عُذّبت جارية أخرى تُدعى بلاندينا (Blandine)، خلال نهار كامل، وبوحشية رهيبة أذهلت الجنود: كيف يمكن لهذه الجارية أن تبقى حيّة بعد كل هذا التعذيب الوحشي المروّع؟! من ثم جرى ربطها إلى عمود، وعُرضت للوحوش الكاسرة، وكان يُؤتى بها يومياً لترى العذاب الذي يكابده أصدقاؤها. وكانت ترفع صوتها باستمرار مصلّية من أجلهم جميعاً. ثم رُبطت أخيراً بشبكة وألقيت أمام ثور هائج استمر ينطحها حتى استشهدت في المدرج، رافضةً أن تقول كلمةً ضد المسيحيين. لم يكن مسموحاً بأن تُدفن جثث الشهداء، وإنما كانت تُحرق حتى تصبح رماداً، وأخيراً تُلقى في نهر الرون (Rhone).

إنَّ ما لدينا من قصص مكتوبة عن هؤلاء الشهداء في ليون و في فِيان، تكشف الستار عن الروح المسيحية الرائعة التي كان المسيحيون يتحلّون بها. فلم يُظهر هؤلاء أية علامة من علامات المرارة أو الحقد على أولئك الذين كانوا يضطهدونهم، ولا ضدّ أي من أولئك الذين ادّعوا عليهم زوراً وبهتاناً، بجرائم لم يرتكبوها. لقد كتبوا: "ليس هناك شيء يخيفنا حيث يكون حب الآب السماوي، ولا شيء يؤلم، ما دام المسيح يشرق علينا بمجده." كذلك، لم يدينوا إخوتهم وأخواتهم الضعفاء الذين لم يستطيعوا تحمّل معاناتهم، بل استسلموا إلى رغبات معذبيهم. بل أظهروا لهم على نقيض ذلك حناناً رائعاً، مصحوباً باتضاع فريد من نوعه. وماذا بعد، فإن هذه الحوادث كلها تؤكّد لشعب بلاد الغال أن المسيحيين لم يكونوا مجرمين. فلم يثبت أنهم أذنبوا بأي من الأفعال الشائنة، ولم يتمكن أحد من إخافتهم بالشكل الذي يجعلهم يتنكرون لإيمانهم الذي يثقون بأنه حق.(2)

من ثم انتقل مركز الأحداث عبر البحار، قاصداً الولاية الرومانية في إفريقيا البروقنصلية. حدث ذلك في وقت دُعي فيه مسيحيّو مدينة سكيليوم (Scillium) ليعطوا حساباً عن أنفسهم. ولقد كان هناك سبعة رجال وخمس نساء، تشهد أسماؤهم أنهم من خلفية أمازيغية وفينيقية، ومن خلفية بونية. يبرز أحدهم، ويدعى سبيراتوس (Speratus) في الوثيقة المكتوبة. ولا نعلم بالتأكيد إن كان هو السبب الذي من طريقه جاء الآخرون إلى الإيمان أم لا. إلا أنه يتبيّن بوضوح أنه كان قائد هذه المجموعة الصغيرة الشجاعة. كان في حوزتهم رسائل الرسول بولس، ويظهر جلياً أنهم قرأوها وقرأوا نصوصاً أخرى من الكتاب المقدس بشغف وحرص بالغين. وقد ألقي القبض عليهم في العام 180ميلادية في مدينتهم (بالقرب من سبيطلة في تونس)، وسيقوا للاستجواب أمام حكام قرطاجة.

تبدأ تفاصيل هذه الدراما الحيّة بوجود جمهور السكيليوميين الإثنا عشر القائمين من قبل في قاعة المحكمة، وبحضور الوالي ساتُرنينوس (Saturninus). ثم يبدأ الاستجواب الذي سُجّل بتفاصيل صحيحة كاملة. كان الوالي إنساناً لطيفاً وعازماً على أن يقوم بواجبه بالرغم من الاشمئزاز الذي يشعر به من جراء هذه الوظيفة الكريهة كمستنطق. ثم راح يدير محضر الجلسة بتحفظ متّزن، وهو رابط الجأش هادئ. ومن كلماته الأولى أظهر استعداده لأن يكون متساهلاً وليّناً باسم الإمبراطور، إذا ما أظهر المسيحيون عقلانية واعتدالاً. ومن جهته، أكّد سبيراتوس براءتهم من أية جريمة. عندئذٍ حاول الوالي أن يعيده إلى موضوع الإخلاص والولاء للإمبراطور، فأجاب سبيراتوس: "لم نقم بأي عمل شرير، ولا اشتركنا في أي عمل سيّء. لكن، عندما عوملنا بقسوة قدّمنا تشكراتنا، وذلك لأننا نحترم الإمبراطور الذي نحن له ونجلّه." فحاول الوالي سبيلاً آخر، وقال: "نحن أيضاً متدينون، وإن ديننا مستقيم، ونحن نأخذ أقسامنا من القدرة الإلهية لسيّدنا الإمبراطور، ونصلّي من أجل سلامته. وعليكم أن تفعلوا الشيء عينه." تمسّك سبيراتوس بكلمة نطق بها الموظف الرسمي، وهكذا خاطبه بالقول: "إذا ما أصغيت إليّ بصبر، فإنني سأشرح لك أسرار الاستقامة الحقّة." عند ذاك انتصب الوالي من مقعده وقال: "إن كل ما تريده هو مهاجمة ديننا، وأنا لن أصغي إليك.كل ما أريده منك هو أن تقسم بالقوة الإلهية لربنا الإمبراطور." أجاب سبيراتوس: "أنا لا أمجّد إمبراطورية هذا العالم، ولكن عوضاً عن ذلك فأنا أخدم الإله الذي لم يره أحد، ولا يمكن أن يراه بالعين المجرّدة. أنا لم أرتكب أية سرقة. وإذا ما اشتريت أيّ شيء، فإنني أدفع ما عليّ من ضريبة، لأنني أمجّد ربّي ملك الملوك وإمبراطور كل الأمم."

عاد الوالي إلى هدوئه من جديد. واستدار بوجهه عن هذا الإنسان العنيد المستعصي إلى أصدقائه، وحاول الدخول بينهم وبين قائدهم آملاً أن يكون انقيادهم بالأمر الأسهل. فاستحثهم قائلاً: "اتركوا هذا الإيمان، ولا تشوشّوا أنفسكم بهذه الحماقات." إلاّ أنه وجد الآخرين مملوئين عزماً وإصراراً كسيّدهم. وأخيراً، اضطرّ أن ينطق بالحكم القانوني، ولكنه منحهم فرصة، بإيقاف التنفيذ لمدة ثلاثين يوماً عساهم يرغبون في إعادة النظر. رفضوا قبول التأجيل، مؤكّدين أنهم عازمون على أن يبقوا مسيحيين: "نحن لا نخاف أحداً،" قال كتّينوس (Cittinus) "ما دام ربنا وإلهنا موجوداً في السماء." وأضافت دوناتا (Donata): "نحن نجلّ قيصر كقيصر، ولكننا نخاف الله وحده." وقالت فستيا (Vestia): "أنا مسيحية." فأضافت سيكوندا (Secunda): "وأنا كذلك، وهذا ما أريد أن أكونه دائماً."

لم يُقل الشيء الكثير في ما بعد، وهكذا حُكم عليهم بالموت. وفي المستندات الحكومية الرسمية، تمّ شرح الجريمة التي اتّهموا بها، من دون إدانتهم إدانة متوحشة عنيفة. وقد سُجّلت وقائع الحكم بهدوء وعلى الشكل التالي: "لقد اعترف كل من سبيراتوس ونارتزالوس (Nartzalus) وكتينوس ودوناتا وفستيا وسيكوندا والآخرين بأنهم يعيشون بموجب الممارسة المسيحية. وقد مُنحوا فرصة ليعودوا إلى الديانة الرومانية، ولكنهم رفضوا هذه الفرصة بعناد. لقد حكمنا عليهم بالإعدام بحد السيف." فعلّق سبيراتوس بالقول: "نشكر الله." وأجاب نارتزالوس: "في هذا اليوم نكون شهداء في الجنة. الشكر لله." عندها أعلن المنادي الحكم. فهتف المتهمون جميعاً: "المجد لله." وهذا كل ما كان في الأمر. ووصلت القصة إلى نهايتها بهذا البيان البسيط: "وبهذا تُوّج الجميع بتاج الشهادة، وهم الآن يملكون مع الآب والابن والروح القدس من الآن إلى أبد الآبدين آمين."(3)

اتّسمت هذه الرواية في كل سياقها، ببساطتها الصارخة، وبدقة التفاصيل التي قدّمت وصفاً حنوناً رقيقاً. لقد قال كل من المشاركين ما كان عليه أن يقول. والقصة تأخذ مساراً حتمياً، والنهاية لا مفرّ منها. ولدى ملاحظتنا لأشخاص هذه الدراما، يمكننا أن نرى بعض القوى التحتية في العمل: نزاع لا يقبل بأي حلّ أو تسوية بين نظرتين متعارضتين إلى العالم، عدم تفاهم أساسي بين مجموعتين من أصحاب الضمير المخلصين والنزهاء الذين بحكم الواجب أو الضمير، وجدوا أنفسهم يقفون أحدهما ضدّ الآخر. فقد وجد كل من خدّام المسيح وخدّام الإمبراطور أنفسهم في حالة خلاف، ومع ذلك لم يشعر أحدهم بأي شعور عدائي تجاه الآخر.

لقد أقيم مبنى كنيسة في ما بعد، في موقع مدافن الشهداء، ومن الممكن أن تكون بقاياه هي التي وُجدت في غرب قرطاجة قرب القرية الصغيرة دوار الشط. ومعروف أن كثيرين غيرهم قد استشهدوا، خلال هذه المدة عينها، في بقاع أخرى من إفريقيا الشمالية.

بعد ثلاثين سنة أطلّ الاضطهاد برأسه البشع من جديد. وفي هذه المرة كان بإلهام إنسان أمازيغي صرف. إنه الإمبراطور سِبتيميوس سِفيروس وهو الإفريقي الوحيد الذي لبس اللباس الأرجواني الإمبراطوري. كان سفيروس مواطناً من مدينة لبتيس ماغنا (Leptis magna)، وهي بالقرب مما ندعوه الآن طرابلس الغرب. وقد حكم هذا الرجل الغريب روما لثماني عشرة سنة، من العام 193ميلادية وحتى وفاته سنة 211ميلادية، بعيداً عن بلده في مدينة يورك (York) الانكليزية. ويصفه الكتّاب الرومانيون "بالبربر" الذي تعلَّم اللاتينية جيداً، ولكنه لم يفقد قط لهجته الإفريقية. وفي سنوات حكم سفيروس الأولى، كان يعطف على المسيحيين ويرفق بهم، لأنه كان يعتقد أن شفاءه من مرض خطر، كان بسبب مسحة من الزيت والصلوات التي قدمها له عبد مسيحي اسمه بروكولوس (Proculus). وقد سلّم تعليم أولاده وتثقيفهم إلى مربّية مسيحية، ومعلّم مسيحي أيضاً. على أي حال، تزوج سفيروس من ابنة كاهن إله الشمس، الذي كان يعبد في مدينة إيميسا (Emese) في سوريا. وقد مزج بين العبادتين، العبادة المسيحية وطقوس الديانات الأخرى السرية. لم يكتفِ هو وزوجته، أن يكونا حاكمين مطلقين لإمبراطورية واسعة الأرجاء، بل اختارا أن يقدِّما نفسيهما كجوبتير (Jupiter)، كبير الآلهة على كل الأرض، وكجونو (Junon)، ملكته. فبعد أن تخلّص من منافسيه على السلطة، جلس سفيروس على العرش الإمبراطوري وحكم كل العالم المعروف آنذاك، ثم انكبّ بصرامة ومن دون رحمة على إطفاء كل شرارة من شرارات الحرية التي كانت لا تزال موجودة في أراضي سلطانه. إن تأليهه لنفسه، وسلطانه المطلق، جعلاه يركب متن الغرور. فبدأ يطلب من الناس خضوعاً مطلقاً لنزواته المفرطة التي لا تطاق، وقد تملّكه شكٌ عارم في أن المسيحيين لا يمكن الركون إليهم في تحقيق أوامره.

وقد غضب سفيروس، بصورة خاصة، بسبب حادث وقع في الشرق، ولكن أخباره انتشرت في كل أنحاء العالم، وترك أثراً عميقاً في كل مكان. فبمناسبة رفع لقب ولديه الاثنين كاركلاّ (Caracalla) وغيتا (Geta) إلى اللقبين الإمبراطوريين أوغسطس وقيصر، وزّع سفيروس عطايا سخية على جنود جيشه الذين قدموا لتسلمها لابسين أكاليل من الغار. ولكنّ واحداً من هؤلاء الجنود بدا مختلفاً عن رفاقه، إذ كان رأسه عارياً وإكليله في يده. وعندما سُئل عن السبب أجاب قائلاً: "أنا مسيحي."(4)

اعتُبرت مثل هذه الوقاحة تحدّياً صاعقاً لكبرياء سفيروس. فأصدر مرسوماً في العام 202 يمنع فيه الناس من اعتناق أي من الديانتين اليهودية والمسيحية، وذلك تحت طائلة الموت. وقد جاوز الرسميون تعليمات الإمبراطور هذه، ساعين، كما يفعل أمثالهم، لإعطاء رؤسائهم انطباعاً يبيّن مقدار كفاءتهم. فبدأوا باقتلاع هذا الدين الجديد من الجذور. وكانت بربيتوا وزملاؤها في قرطاجة من بين الذين عانوا. كما كان هناك آخرون كثيرون غيرهم في شمال إفريقيا.

ظهرت ضراوة هذا المرسوم على أشدّها بعيداً بمحاذاة الشاطئ المتوسطي لمدينة الإسكندرية، حيث جُرّد ليونيدس (Leonides)، والد العالم اللاهوتي المعروف أوريجانوس، من جميع ممتلكاته ومقتنياته، وسيق للموت مع أعضاء آخرين من الكنيسة هناك. كان ليونيدس قد نشّـأ أولاده السبعة، والذين كان أوريجانوس أكبرهم سناً، بكثير من الاهتمام العميق بهم والصلاة كما علّمهم التمييز بين الصالح والطالح، حتى يتمسكّوا بالأول ويتجنّبوا الثاني. وكان قد علّمهم أن يستظهروا جزءاً يسيراً من الكتاب المقدس يومياً. وعندما سمع أوريجانوس أنّ أباه اعتُقل، قرر، وكان حينئذٍ يبلغ من العمر السابعة عشر، أن يذهب إلى المدرج، وإلى الموت مع والده إذا اقتضت الضرورة. ولكنّ أمه، وقد آلمها جداً أن تفقد كلاً من زوجها وابنها في يومٍ واحد، خبأت ثياب أوريجانوس، الأمر الذي ألزمه البقاء معها في البيت. وكل ما استطاع أوريجانوس أن يفعل إذ ذاك، هو الكتابة لأبيه في السجن متوسّلاً إليه ألا يخاف على أرملته وأيتامه، وليثق بأنّ الله قادر على أن يعيلهم ويرعاهم.

وعندما مات ليونيدس، تُركت العائلة بحالة فقر مدقع، ومع هذا لم يخبُ إيمان أوريجانوس. فقد أخذته إلى بيتها أرملة مسيحية طيّبة، تملك مالاً وأرزاقاً خاصة. وكان حبه لكلمة الله شديداً، وحماسته على طريق الله قوية، بحيث أنّه عُيّن معلّماً وعميداً لكلية يحضرها الشباب المسيحي في الإسكندرية ولمّا يتجاوز عمره الثامنة عشر بعد. وقد عمل بإخلاص كرئيس لهذه المدرسة لمدّة تقرب من الثلاثين عاماً. وكانت محاضراته شعبية، كما كان يتمتع بموهبة خاصة لرفع حماسة تلاميذه. ولم يكن أوريجانوس، بأي حال من الأحوال شخصاً نظرياً جامداً، فهو كان يسعى لإطاعة كلمة الله، والسير بهدايتها يوماً فيوماً. وفي قراءته للعهد الجديد، تأثّر بصورة خاصة بكلمات المسيح القائلة: "مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا."(5) فشعر بأنه إنْ أراد أن يطيع هذه الكلمات، يتوجب عليه ألاّ يتقاضى أجوراً عن تعليمه للمبادئ المسيحية. وفي سبيل تأمين معيشته، باع كمية من رقوقه المنقولة بخط يده. لكنّه عيّن لنفسه حصة صغيرة يومية من محصول هذا البيع، والتي كانت بالجهد تسدّ احتياجاته لأجَلٍ قصير، بالرغم من أن طعامه كان بسيطاً جداً، وكان لا يمتلك إلا معطفاً واحداً. فكان يعاني قسوة الشتاء وزمهريره، وينام على الأرض المجردة. وقد فعل ذلك لا لشيء، إلاّ ليتشبّه بسيده المسيح الذي قال عن نفسه أنْ ليس له أين يسند رأسه.(6)

بعد ذلك بوقت قصير، ألقي القبض على عدد من تلاميذ أوريجانوس، وأُعدموا بسبب إيمانهم. وكان أوريجانوس حاضراً معهم خلال المحاكمة، وقد عامله الجماهير الإسكندرانيون المضطربون بقسوة وخشونة، إلا أنّ حياته لم تتعرض لسوء في تلك المناسبة. وبمرور السنين أصبح معلماً مشهوراً في كنائس الإسكندرية، وبعدها في كنائس قيصرية في فلسطين. وقد سافر مراراً بعد ذلك في رحلات لخدمة المسيح. كما كتب عدداً من الكتب اللاهوتية، وقاد عدداً من اليهود والوثنيين إلى الإيمان المسيحي. ومع ذلك، فقد اعتُبرت بعض أفكاره الفلسفية وتفاسيره الرمزية للكتاب المقدس، مثاراً للجدل إلى يومنا هذا.

لم ينسَ أوريجانوس قط تعليم الكتاب المقدس والمثل الصالح الذي أخذه عن والده. لقد بقي ليونيدس غير معروف تقريباً، ولكن تأثيره أعطى الخلاص للكثيرين من خلال عمل ابنه الذي اقتفى آثار أبيه. الأول دُعي للموت من أجل المسيح، والآخر دُعي ليحيا له.(7)

استمر الاضطهاد في أجزاء عديدة من الإمبراطورية الرومانية، وكان قاسياً جداً لدرجة اعتقد معها الكثيرون أن سفيروس هو المقصود في الكتاب المقدس بـِ "ضد المسيح" العظيم الذي سيقوم محاولاً أن يبيد كنيسة المسيح قبل رجوع المسيح ونهاية العالم.(8) ويبدو أن سفيروس قد ظنّ أنه بمرسومه الظالم ذاك، قد نجح في تحطيم معنويات المسيحيين، وأن يدمّر كنيسة المسيح تماماً. وقد تمّ تجاهل المسيحيين بشكل كبير خلال بقية حكم سفيروس، وحتى خلال أيام خلفائه التاليين.

ثم عرفت الكنائس السلام والحرية من النزاعات، لما يقارب النصف قرن. وهكذا ازدهرت بهدوء. ولكنْ، هنا، كان يكمن الخطر المُهلك. فقد بدأ العديد من المسيحيين بالتراخي والاشتراك أكثر فأكثر وبمزيد من التساهل في ملذات حياة المدينة وفي تسلياتها الموهنة. وشيئاً فشيئاً بدأ المسيحيون يفقدون ضبط النفس، وخسروا ذلك الشعور بكونهم شعباً خاصاً، كما ذهب عنهم ذلك الثبات، والإيمان السماوي الراسخ الذي قوّاهم ودعمهم خلال تلك الأزمة الرهيبة التي عاشوا خلالها بنجاح منقطع النظير لخمسين عاماً خلت.

ومع مرور القرن الثالث، بدأ المسيحيون ينشدون صداقة جيرانهم الوثنيين ورضاهم، وتركوا أنفسهم، وللأسف، غير مستعدين للصمود في وجه الضغوطات الكبرى التي كانت بانتظارهم.

 

حواشي الفصل

1- ورد النص المعاصر (Martyrium Polycarpi ANF Vol. I pp. 37 ff.)

للحصول على مقاطع من ترجمة أحدث راجع: Bettenson DOTCC pp. 9-12

2- Eusebius Eccles. Historia V: chap. 1 (NAPNF Series 2 Vol. I)

Bettenson DOTCC pp. 12 -13

Schaff HOTCC Vol. II. pp. 55 -56

أظهر مسيحيو ليون وفيان تعاطفاً واضحاً مع المونتانيين. لقد حثّوا كنائس فريجية وروما على عدم إطفاء

الروح القدس باتخاذهم إجراء قاس ضدّ المونتانيين الذين كانوا حاضرين في كنائس الشرق.

3- Monceaux Tome I pp. 61 -70

4- Lloyd p. 38، Tertullien De Corona Militis 1

5-( متى 10: 8)

6-( لوقا 9: 58)

7- للإطلاع على حياة أوريجانوس وعمله راجع:

Schaff HOTCC Vol. pp. 785 -796

Foakes- Jackson pp. 273 -277

8- 2 (تسالونيكي 2: 3و4)، (يوحنا 2: 18)، (رؤيا 13: 5-8)

 

  • عدد الزيارات: 3578