Skip to main content

الفصلُ السادِس "تطبيقُ المَوعِظَة"

بعدَ أن قدَّمَ يسُوعُ وصفاً للإنسانِ المُتَمثِّلِ بالمَسِيح، قدَّمَ أربَع صُوَرٍ مَجازِيَّة تُظهِرُ لنا ماذا يحدُثُ عندما يُؤثِّرُ هكذا إنسانٌ على الحضارَةِ الوَثَنيَّة. لقد علَّمَ تلاميذَهُ أنَّهُم مِلحُ الأرضِ ... نُورُ العالم ... مدينَة موضُوعة على جَبَل لا يُمكِن أن تُخفَى، وسِراجٌ على مَنارَة (متى 5: 13- 16). يبدَأُ تطبيقُ العظة بِهذه الصُّوَر المجازِيَّة الأربَع. فدَعونا نتأمَّلُ في كُلٍّ من هذه الصُّور المجازِيَة، واحدةً بعدَ الأُخرى:


"أنتُم مِلحُ الأرض."

أحد التفسيرات والتطبيقات لهذه الصُّورة المجازِيَّة مُرتَبِطٌ بأنَّ المِلح كانَ الطريقة الوَحيدَة لِحفظِ اللحم في تِلكَ الأيَّام. كانَ يسُوعُ يقُولُ أنَّ العالَمَ فاسِدٌ مثل اللحم الفاسِد، وتلاميذُهُ كانُوا "المِلح" الذي سيحفظُ العالمَ من الفسادِ الأخلاقي والرُّوحي. نقرَأُ في اللُّغَةِ الأصليَّةِ لهذا المقطَع، "أنتُم وحدَكُم مِلح الأرض."

تطبيقٌ آخَر لِهذه الصُّورَةِ المجازِيَّةِ هو أنَّهُ لا يُوجد كائِنٌ حَيٌّ يستطيعُ العيشَ بدُونِ الملح. بِحَسَبِ هذا التفسير، كانَ يسوعُ يقُولُ لتلاميذِه: أُولئكَ الجُمُوع عندَ سفحِ الجَبل ليسَ لديهم حَياة. ولكن، إذا عِشتُم أنتُم هذه المواقِف الثمانِيَة الجميلة، ستكُونُونَ الوسيلَةَ التي من خِلالِها سيكتَشِفُ الجمعُ الحياة."


"أنتُم نُورُ العالَم."

عندما نظَرَ يسُوعُ إلى الجمَع، كانَ الأمرُ الذي حرَّكَ قلبَهُ بالشفقة عليهم أكثَرَ من أيِّ شيءٍ آخر، هو كونهم كخِرافٍ لا راعي لَها. لم يكُونُوا يعرِفُونَ يمينَهُم من شِمالِهم. فبِما أنَّكُم تعرِفُونَ ما لا يعرِفُونَهُ، فأنتُم النُّور الذي يحتاجُونَهُ. هُنا أيضاً نقرأُ في اللغَةِ الأصليَّة لهذا النَّص، "أنتُم وأنتُم وحدَكُم نُورُ العالَم."


"سِراجٌ على المَنارَة."

في هذه الصُّورَة المجازِيَّة، كانَ يسُوعُ يقُولُ بِشكلٍ مبدَئِيّ: "قبلَ أن تتجدَّدوا لتُصبِحُوا واحِداً من حُلُولي، كُنتُم مثل سِراجٍ غير مُضاء. ولكن الآن وقدِ إختَبَرتُم "الوِلادَةَ الجديدة" التي حدَثت عندما صِرتُم تلاميذِي، أُوقِدَ سِراجُكُم. في كُلِّ مرَّةٍ أُوقِدُ السِّراج، أكونُ قد اختَرتُ منارَةً في مكانٍ ستراتيجيّ لِكَي أضعَ عليها هذا السِّراج." يقُولُ يسوع، "أنتُم سِراجٌ  على منارَة."


"مَدينَةٌ على جَبَل."

الصُّورَةُ المَجازِيَّةُ الرابِعة هي مدينَةٌ على جَبل، لا يُمكِن أن تُخفَى. إن كانَ لدَينا التطويبات الأربَعة في حَياتِنا، لا يُمكِن عندها أن تُخفى شهادَتُنا للمسيح. ليسَ هُناكَ ما يُسمَّى تِلميذاً سِرِّيَّاً ليسُوع المسيح.

سُلحُفاةٌ على جِدارِ السِّياج

هل سبقَ ورأيتَ سُلحُفاةً على جِدارِ السِّياج؟ في أيِّ وقتٍ ترى سُلحُفاةٍ على جِدارِ السِّياج، هُناكَ شيءٌ تعرِفُهُ بالتأكيد عن هذه السُّلحُفاة – لا بُدَّ أن أحدَهُم وضعَها هُناك، لأنَّ السُّلحُفاة لا يُمكِنُها أن تتسلَّقَ جِدارَ السِّياج. إنَّ كُلَّ تِلميذٍ ليسُوع الذي وُضِعَ ستراتيجيَّاً في مكانِهِ، ينبَغي أن يشعُرَ كالسُّلحُفاةِ على جِدارِ السياج. علينا أن نتطلَّعَ حوالَينا ونُدرِكَ أين وُضِعنا ستراتيجيَّاً في هذا العالم. وإذ نُفكِّرُ بالسراجِ الموضُوعِ على المنارة، وبالمدينة الموضُوع على الجَبل، علينا أن نقُول لأنفُسِنا، "أنا حيثُ أنا اليَوم لأنَّ المسيحَ الحَيَّ المُقام وضعَني حيثُ أنا، لأكُونَ جُزءً من الحَل لمشاكِل العالم المُحتاج."

وَيَستَمِرُّ التطبيق

يُتابِعُ يسوعُ تطبيقَ عظتِهِ في أصعَبِ جزءٍ من هذه العِظة (5: 17 – 48). يبدأُ يسُوعُ هذا الجزءَ من تطبيقِهِ بإعطائِهِ تصريحَين هامَّين: الأوَّل هو أنَّهُ لم يأتِ لينقُضَ النامُوس، بل ليُتمِّمَ نامُوسَ الله. جوهَرُ هذا التصريحِ الثانِي هو أنَّهُ إن لم يَزِد بِرُّ التلاميذ على بِرِّ الكتبَةِ والفرِّيسيِّين، فلا يكُونُوا قد فَهِمُوا تعليمَهُ (17 – 20).

لاحِظْ أنَّهُ في هذا المقطَع المُطوَّل من الإصحاحِ الخامِس، يقُولُ يسُوعُ ستَّ مرَّاتٍ، "سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ لكُم ... أمَّا أنا فأقُولُ لكُم." (متى 5: 21- 48) مُعظَمُ الوقت الذي إقتَبَس فيهِ يسُوع ما قِيل، لم يكُن يقتَبِس من مُوسى، بل من الكتَبَةِ والفَرِّيسيِّين. كانَ يقتَبِسُ شيئاً علَّمُوا بهِ ولكنَّهُ لم يكُن تعليم مُوسى، ولا كلمة الله. وعندما أشارَ يسُوعُ إلى أمرٍ علَّمَهُ مُوسى، لم يُوافِقْهم على طريقَةِ تفسيرهم لمُوسى.

جَوهَرُ التعليم هُو: "كُلُّ ما أُعلِّمُهُ يتَّفِقُ معَ كَلِمةِ الله. ولكن تعليمي لا يتَّفِقُ معَ تعليمِ وتقاليد الكَتَبَة والفَرِّيسيِّين." في هذا الجزء من عظتِهِ العظيمة تحدَّى يسوعُ تعليمَ هؤلاء القادَةِ الدينيِّين. ولقد إستمرَّ بِتَحدِّي تعليمِهِم وقِيَمِهم إلى أن أدرَكُوا أنَّهم لم يعُدْ بِوُسعِهم أن يتعايَشُوا معَهُ، فصَلَبُوه.


القصدُ من الأسفارِ المُقدَّسة

الفرقُ الأساسيُّ بينَ طريقَةِ يسُوع وطريقَةِ القادة الدينيِّين لتَفسيرِ الأسفارِ المقدَّس، كانَ أنَّهُ قبلَ أن طبَّقَ يسُوعُ نامُوسَ الله على حياةِ النَّاس، مرَّرَ نامُوسَ اللهِ هذا عبرَ عدَسَة محبَّة الله. ولكن عندما علَّمَ الكتبَةُ والفرِّيسيُّونَ نامُوس الله، لم يفهَمُوا ولم يتذكَّرُو القصد أو الغاية من النامُوس عندما أُعطِيَ لمُوسى على جَبَلِ سيناء – والذي كانَ خير شعبِ الله.

كانَ نامُوسُ اللهِ تعبِيراً عن محبَّةِ اللهِ لِشعبِهِ. من الواضِح أنَّ يسوعَ لم يغِبْ أبداً عن ناظِرَيهِ هذا القصد من النامُوس. هذا هُوَ جوهَرُ ما تحدَّى بهِ يسُوعُ تلاميذَهُ، لكي يتعلَّمُوهُ ولا ينسَوهُ عندما ينـزلونَ إلى الجمُوع عندَ أسفَلِ الجَبَل. كانَ يُعلِّمُ تلاميذَهُ أنَّهُ عليهِم أن يعرِفُوا كيفَ يُطبِّقُونَ كلمةَ الله على حياةِ شعبِ الله، إذا أرادوا أن يكُونوا نُورَ العالم.


البِرُّ في العلاقاتِ (21 – 48)

بعدَ أن قدَّمَ يسُوعُ هذه التصريحات بِخُصُوصِ أهمِّيَّة الأسفار المُقدَّسة في حَياةِ التلميذ، أظهَرَ يسُوعُ لِتلاميذِهِ كيفِيَّةَ تَطبيق تعليمِهِ في علاقاتِهم. أوَّل علاقة يتعامَلُ معَها هي العلاقة معَ الأخ أو التِلميذ الآخر. من المُثيرِ للإهتِمام أن نُلاحِظَ أنَّهُ أحياناً علَّمَ أنَّ الأولويَّة ليسَت دائماً الله أوَّلاً، ولكن أحيانا "أخاكَ أوَّلاً، ثُمَّ الله." إنَّ هذه الأولويَّة المُركَّزَة تُرينا كم يُقدِّرُ يسُوعُ علاقاتِنا معَ إخوتِنا المُؤمِنين. فليسَ بإمكانِنا أن نربَحَ العالَمَ إذا كُنَّا نخسَرُ بعضُنا البعض.

لقد علَّمَهُم كيفَ ينبَغي أن يتعامَلُوا معَ العَدُوّ. فنحنُ نعيشُ اليومَ في عالَمٍ مملوءٍ بالمُنافَسة. وخَصمُنا هُو مُنافِسُنا، أو عدُوُّنا (25، 26). ولقد كان ليسُوع ما يقُولهُ عن التعامُلِ معَ النِّساء (27 –30). (وبما أنَّهُ لا تُوجد هُناكَ تَعليمات عن كيفَّة التعامُل معَ الرِّجال، نستطيعُ أن نفتَرِضَ أنَّ الخُلوَةَ كانت مُخصَّصَةً للرِّجالِ فقط.) كَثيرُونَ يُسيئُونَ فهمَ هذا التعليم. فَهُوَ لم يكُنْ يُعلِّمْ أنَّ التفكير بالزِّنَى كانَ خَطيراً على نفسِ المُستَوى مثل إقتراف خطيَّة الزِّنَى. ولكنَّ التعليم المُوجَّه لنا كانَ أن نربَحَ المعرَكَة معَ التجرِبَة عندما تكُونُ لا تزالُ عندَ مُستَوى النظرة أو الفِكرة.

بعدَ ذلكَ تكلَّمَ يسُوعُ عن علاقةِ الرِّجال معَ زوجاتِهم (31- 32). لقد علَّمَ أنَّ علاقاتِهِم معَ زوجاتِهم ينبَغي أن تكُونَ علاقَةً دائمة. إربُط هذا التعليم معَ ما علَّمَ بهِ عن علاقاتِهم معَ النِّساء. إنَّ أحد أسباب عدوى الطَّلاق المُتفشِّيَة اليوم هو عدم الأمانة. وعندما تكُونُ هُناكَ عدوى طَلاق، تكُونُ هُناكَ أيضاً عدوى عائلات مُفكَّكة وأطفال يتألَّمُون. مُعظَمُ الألَم والمُعاناة عندَ أسفَلِ الجَبَل هي بِسبب كون الرِّجال يخسَرُونَ معرَكَتَهُم عندَ التجرِبَة التي تكلَّمَ عنها يسُوعُ في الأعداد 27 – 30.

لقد تعلَّمُوا أيضاً أن لا يُرفِقُوا تعهُّداتِهم بِقَسَم، كما كان يفعَلُ الفَرِّيسيُّون. فعندما يقُولونَ "نعم" ينبَغي أن يعنُوا "نَعَم." وعندما يقُولُونَ "لا" ينبَغي أن يعنُوا "لا." فلا ينبَغي أن يكُونُوا رِجالَ كَلِمَةِ الله فحَسب، بل رِجالَ كَلمتِهِم أيضاً، ذوي إستِقامة. (33- 37)


الأخلاقُ الرَّفِيعة (38- 48)

يختُمُ يسُوعُ هذا المقطَع التطبيقي الطويل بإعطائِنا أسمى مبدَأ من مبادِئ أخلاقِهِ الرفيعة. والذي علَّمَ بهِ يسُوعُ في هذه الأعداد الأخيرة يُمَثِّلُ أسمى تعليم أخلاقي في كُلِّ الديانات. لقد كانَ هذا التعليمُ عامِلاً حَيَويَّاً في مَوتِ الرُّسُل وكذلكَ كانَ بالنسبَةِ للملايين من التلاميذ في تاريخِ الكَنيسة. إنَّ هذه الأعداد تُعتَبَرُ أيضاً أصعَبَ تعاليم يسوع. إثنتان من تصريحاتِهِ الأكثَر صُعُوبَةً أنَّهُ علينا أن لا نُقاوِمَ الشَّرَّ بِالشرّ، وأن نُحِبَّ أعداءَنا.

تذكَّرْ، إنَّ يسُوعَ لم يُعلِّمْ هذا التعليم الأخلاقِي عندَ أسفَلِ الجَبَل للجُمُوع المُختَلَطة. بل أعطَى تعليمَهُ هذا على رأسِ الجَبل لتلاميذِه. كانَ تلاميذُهُ أشخاصاً قامُوا بإلتِزامٍ أن يتبَعُوهُ وحتَّى أن يمُوتُوا من أجلِه (لُوقا 9: 23 – 25؛ 14: 25- 35). لقد أوضَحَ لجميعِ الذين إعتَرَفُوا بأنَّهُم تلاميذَهُ، أنَّهُ عليهم أن يحمِلُوا صليباً خِلالَ إتِّباعِهِم لهُ. عندما قالَ يسُوع، "لا تُقاوِمُوا الشَّرّ،" و "أحِبُّوا أعداءَكُم،" كانَ يقُولُ لهُم بِكُلِّ بَساطَة، أينَ، مَتى، كيفَ، ولِماذا أرادَهُم أن يمُوتُوا.

خِلالَ "الحُروب الصليبيَّة" حوالي العام 1220، كانَ فرنسيس الأسيزي يُعالِجُ جُروحَ جريحٍ تُركِي أُسِرَ في الحَرب. فنظَرَ أحدُ الصليبيِّينَ من عَلى حِصانِهِ إلى فرنسيس وإلى الجَريحِ التُّركِي، وقالَ، "إذا تحسَّنت حالُ هذا التُّركِي، سوفَ يقتُلُكَ يا فرنسيس." فأجابَ فرنسيس، "ولكن عندها سيكُونُ قد عرفَ محبَّةَ المسيح قبلَ أن يقتُلني."

إنَّ جَوهَرَ هذا المقطَع هو السُّؤال الذي طَرَحَهُ يسُوع، "ماذا تفعَلُ أكثَر من الآخرين؟" (47) يُعلِّمُ يسُوعُ بِشكلٍ أساسِيٍّ من خِلالِ هذه العِظة أنَّكَ "كَتِلميذٍ ليسُوع المسيح ينبَغي أن تكُونَ مُختَلِفاً." تُعبِّرُ إحدى الترجمات عن هذا السؤال الذي طرحَهُ يسُوعُ كالتالي: "إن كُنتُم تُحِبُّون فقط أولئكَ الذين يُحبُّونَكُم، فأيُّ فَضلٍ لكُم؟ فلا يلزَمُ أيَّةُ نِعمَةٍ خاصَّة لكَي تُحبُّونَ الذين يُحبُّونَكُم."

إنَّ كَنيسةَ العهدِ الجديد كانَ فيها نِعمة، التي إستَلمُوها يومَ الخَمسين (أعمال 2). هذه النِّعمة أعطَت شعبَ العهدِ الجديد القُدرَةَ ليكُونُوا مُختَلِفين. علينا أن نُصلِّي طلَباً للنِّعمَة عندما نُحاوِل أن نُطبِّقُ مبادِئَ يسوع الأخلاقيَّة الرفِيعة على علاقاتِنا معَ أعدائِنا.

  • عدد الزيارات: 14025