Skip to main content

الفصلُ الخامِس ثلاثَةُ مبادِئ لِحَياةِ الإقتِداءِ بالمسيح

(الإصحاحات 8، 9 و10)

في الحَياةِ المسيحيَّة، هُناكَ عدَّةُ قضايا لا يُمكِنُ الحُكمُ عليها بالصَّوابِ والخَطأ، ولكنَّنا قد نشعُرُ حِيالَها بشُعُورٍ سَلبِيّ، بحسبِ إنعِكاساتِها الإجتِماعِيَّة داخِل حضارة مُعيَّنة. فبالنسبَةِ لبعضِ الحضارات، هذه القضايا قد تشمَلُ شُربَ الخَمرِ، أو تسريحَةُ الشعر، أو ما شابَه. في الحضارَةِ الكُورنثُوسيَّة، كانَ اللحمُ الذي يُباعُ في الملحمة، يُذبَحُ للأوثانِ. خارِجَ الكنيسة، كانَ سُكَّانُ مدينَةِ كُورنثُوس يعبُدُونَ الأوثان، ويُقدَّمُونَ لها الذبائح نيابَةً عنهم، بما في ذلكَ الذبائح الحيوانِيَّة التي كانَ يُباعُ لحمُها فيما بعد في السوق بأسعارٍ مُخفَّضَة. وكانَ الكثيرونَ منَ المُهتَدِينَ للمسيحيَّةِ قد سبقَ لهُم وقامُوا بِهذه الممارسات الوَثَنيَّة قبلَ إيمانِهم بالمسيح. وبعدَ أن عرفُوا الإيمان المسيحي، أصبَحوا في صِراعٍ ليعرِفوا ما إذا كانَ اللحمُ الذي قُدِّمَ كذبائحَ للأوثان، ما إذا كانَ صواباً أم خطأً، وشعرَ الكثيرونَ منهُم أنَّهُ خطأٌ لأنَّهُ كانَ مُختَلِطاً بعبادَةِ الأوثان.

آخرونَ في الكنيسة، عادَةً أُولئكَ الذين كانُوا مُثقَّفِينَ، أو صارَ لهُم زمانٌ أطول في الإيمانِ المسيحيّ، لم يرَوا أيَّ خطأٍ في أكلِ اللحمِ الذي قُدِّمَ للوَثَن. فبِنَظَرِهم، لم تكُنِ الأوثانُ أكثَر من معدَنِ الذهبِ والفِضَّة والخشَب والحجر، ولم يكُنْ لهذه الأوثان أيُّ معنىً في المجالِ الرُّوحِيّ. ولقد تعامَلَ بُولُس معَ هذه الذهنِيَّة ودعمَها عندما قالَ، "فمِن جِهَةِ ما ذُبِحَ للأوثانِ نعلَمُ أنْ ليسَ وَثَنٌ في العالَم وأن ليسَ إلهٌ آخَرُ إلا واحِداً." (8: 4) لم يُعطِ بُولُس أيَّ إستحقاقٍ أو قيمَةٍ لهذه الأصنام المصنُوعة من ذهبٍ وفضَّةٍ، ولهذا وافَقَ معَ المُؤمنين الأكثر نُضجاً أنَّ أكلَ اللحم المُقدَّم للأَوثان لم يكُن لهُ إنعكاسٌ سَلبِيٌّ على الإيمان.

ولكنَّ بُولُس يُضيفُ قائلاً، "ولكن ليسَ العِلمُ في الجميع." (7) أي أن بُولُس كانَ يقُولُ بكلامٍ آخر أن ليسَ الجميعُ بالضرورَةِ على مُستَوى ذكائِكَ أنت. كتبَ بُولُس هذه الإصحاحاتِ الثلاثة لكَي يُعلِّمَ المُؤمِنَ الذي لدَيهِ علمٌ بأن لا قيمَةَ للأوثان، ماذا عليهِ أن يفعَلَ عندما يلتَقي بأخٍ مُؤمن ليسَ لديهِ هذا المُستَوى من العِلم. لقد حوَّلَ بُولُس مسارَ القَضِيَّة من أكلِ اللحم المُقدَّمِ للوَثَن، إلى العلاقات بينَ الإخوةِ والأخوات في المسيح، وكيفَ ينبَغي على المؤمنين الأقوياء أن يتعامَلُوا معَ الإخوةِ الضُّعفاء. وجواباً على الإعتِراض بأنَّهُ ينبَغي أن يكُونَ لديهم الحُرِّيَّة ليأكُلُوا ما أعطاهُم الرُّوحُ الحُرِّيَّةَ ليأكُلوه، قالَ بُولُس للإخوةِ الأقوِياء، "ولكن أنظُروا لِئلا يَصيرَ سُلطانُكُم هذا معثَرَةً للضُّعفاء... لذلكَ إن كانَ طعامٌ يُعثِرُ أخي فلَنْ آكُلَ لَحماً إلى الأبَد لِئلا أُعثِرَ أخِي." (9, 13)

عرفَ بُولُس أنَّ هذا الحَلّ سَوفَ يجعَلُ المُؤمنين الأقوياء يُفكِّرُونَ بموقِفِهم حيالَ الأمر. لقد كانَ بُولُس بطل الحُرِّيَّةِ الرُّوحِيَّة، وكانَ يكرَهُ كُلَّ أشكال النَّامُوسيَّة. لم يُحِبّ أن يرى الناس يُغيِّرُونَ تعليمَهُ ليجعَلُوا منهُ قانُوناً للمسموحِ والمَمنُوع في الحياةِ المسيحيَّة. عرفَ بُولُس أنَّ الكثيرينَ من المُؤمنينَ الأقوياء كانُوا سيعتَبِرُونَ حلَّهُ كشكلٍ من أشكالِ النامُوسيَّة. فكانُوا يُجيبُونَ على حلِّهِ بالقَول، "لِماذا تُحَدُّ حُرِّيَّتِي بضعفِ أخي؟" فكتبَ بُولُس هذه الإصحاحات الثلاثة ليُعلِّمَ الكُورنثُوسيِّين، (وأنا وأنت)، أنَّهُ من المُهِمِّ لنا كمُؤمِنين أن نُفكِّرَ بحاجَةِ الإخوة والأخواتِ الضُّعفاء، بينما نستخدِمُ حُرِّيَّتَنا في القضايا التي تُسمَّى "رَمَادِيَّة" في حياةِ الإقتِداءِ بالمسيح.


ثلاثَةُ مبادِئ مُلخَّصَة عن الحُرِّية المُتمثِّلَة بالمسيح

نجدُ تعليمَ بُولُس يتلخَّصُ في هذا المقطع بكلماتِهِ الأخيرة: "فإذا كُنتُم تأكُلُونَ أو تشرَبُونَ أو تفعَلُونَ شَيئاً فافعَلُوا كُلَّ شَيءٍ لِمجدِ الله. كُونُوا بِلا عثَرة لِليَهُودِ ولِليُونانِيِّين ولِكَنيسةِ الله. كما أنا أيضاً أُرضِي الجميعَ في كُلِّ شَيءٍ غيرَ طالِبٍ ما يُوافِقُ نَفسي بل الكَثيرينَ لكَي يخلُصُوا." (1كُورنُثوس 10: 31- 33) من هذه الأعداد، نستخلِصُ ثلاثَةَ مبادِئ. أوَّلاً، نتعلَّمُ أنَّ أولويَّةَ إهتِمامِنا ينبَغي أن تكُون لمجدِ الله. ثانِياً، نتعلَّمُ أنَّ أعمالَنا ينبَغي أن تَكُونَ مَبنِيَّةً على ما يُمكِن أن يُؤدِّي إلى خلاصِ الآخرين. وثالِثاً، نتعلَّمُ أنَّ منفَعَة الآخرين هي أكثَرُ أهمِّيَّةً من منفَعتنا الشخصيَّة. ليسَت القضيَّةُ ما هُوَ الصوابُ وما هُوَ الخَطَأُ، ولا ما يحِقُّ لنا أن نعمَلَهُ وما لا يحِقُّ. بل القَضِيَّةُ هي ماذا يُمجِّدُ الله، وماذا يقُودُ لخلاصِ الآخرين، وماذا يُؤدِّي إلى مَنفَعَةِ الآخرين. عندما تُفكِّرُ بهذه المَبادِئ الثلاثة، تُدرِكُ أنَّها تُعبِّرُ عمَّا سيذكُرُهُ بُولُس في هذه الرسالَةِ لاحِقاً، مُعبِّراً عنهُ بعبارَة "محبَّة الله، آغابِّي."

ولكنَّ العالَمَ لا يُؤيِّدُ هكذا ذهنيَّة. فقِيَمُ الحضاراتِ في هذا العالم مُعبَّرٌ عنها في هذا التصريحِ المَألُوف عن توضيِحِ القِيَم: "إنَّ أوَّلَ قانُونٍ للحضارَةِ هُوَ بقاءُ الذَّات." إنَّ أهلَ هذا العالم يقَيِّمُونَ أعمالَهُم عمَّا إذا سيكُونُ لها إنعكاسٌ إيجابِيٌّ أم سَلبِي عليهم شخصيَّاً. فيسأَلُونَ: "علامَ سأحصَلُ من هذا؟" ولكنَّ فلسَفَةَ المسيح، التي علَّمَها بُولُس هُنا، هي عن العطاء – العطاء لله، لكَي يأخُذَ هُوَ المجدَ، والعطاءُ للآخرين لكي يخلُصُوا وينمُوا.

لقد جعلنَا خلاصُنا مُستأسَرينَ عبيداً للمسيح. فنحنُ لم نعُدْ أحراراً أن نعمَلَ ما نشاء. بل علينا أن نتصرَّفَ كما يُريدُنا المَسيحُ أن نتصرَّفَ، إنطِلاقاً من إهتِمامِنا بِخلاصِ وبُنيانِ الآخرينَ، لمجدِ الله.


تطبيقُ المبادِئ الثلاثة للتمثُّلِ بالمسيح

في الإصحاحِ التاسِع، أظهَرَ بُولُس كيفَ كانَ يُطبِّقُ هذه المبادِئ الثلاثة في حياتِهِ الشخصيَّة. بدَأَ بالدفاعِ عن حُرِّيَّتِه قائِلاً: "ألَستُ أنا حُرَّاً؟... ألَعلَّنا ليسَ لنا سُلطانٌ أن نأكُلَ ونَشرَبَ. ألَعلَّنا ليسَ لنا سُلطانٌ أن نَجُولَ بأُختٍ زوجَةً كباقِي الرُّسُل وإخوَةِ الرَّبّ وصفا... إن كُنَّا قد زرَعنا لكُم الرُّوحِيَّات أفَعَظيمٌ إن حَصَدنا منكُم الجَسَدِيَّات. إن كانَ آخرُونَ شُركاءَ في السُّلطان عليكُم أفَلَسنا نحنُ بالأَولى." (1كُورنثُوس 9: 1، 4-5، 11- 12) لقد أظهرَ بُولُس هُنا حقَّهُ بأن يأكُلَ ويشرَبَ، بأن يأخُذَ لنَفسِهِ زوجَةً، وبأن يحصَلَ على المُكافآاتِ المادِّيَّة لقاءَ أَتعابِهِ التي يبذُلُها من أجلِ الآخرينَ في الخدمة.

كُلُّ الأشياء لكُلِّ النَّاس

كَرَسُولٍ تحتَ نامُوسِ الحُرِّيَّة، كانَ بُولُس حُرَّاً ليتصرَّفَ بأيَّةِ طريقَةٍ لا تُناقِضُ مُبَاشَرَةً تعاليم المسيح، ولكنَّهُ قرَّرَ بملءِ إختِيارِهِ أن لا يتصرَّفَ بهذه الطريقة. وبدلَ ذلكَ، أخبرَ الكُورنثُوسيِّين قائِلاً، "لكنَّنا لم نستَعمِلْ هذا السُّلطان بل نتحمَّلُ كُلَّ شَيءٍ لئلا نجعَلَ عائِقاً لإنجيلِ المسيح... أمَّا أنا فَلَم أستَعمِلْ شَيئاً من هذا." رُغمَ أنَّهُ كانَ حُرَّاً أن يتصرَّفَ لمصلَحتِهِ الذِّاتِيَّة، إلا أنَّهُ إختارَ أن لا يفعَلَ، لئلا يُعيقَ تصرُّفُهُ الإنجيلَ الذي جاءَ ليكرِزَ بهِ. بهذه الطريقَة، وضعَ بُولُس بِغَيرِ أنانِيَّة مجدَ اللهِ وخلاصَ الإنسان فوقَ رغباتِهِ الإنسانيَّة.

بَدَت ذُروَةُ رسالةِ بُولُس في الفقرةِ التالية:"فإنِّي إذ كُنتُ حُرَّاً من الجميع إستَعبَدتُ نفسي للجَميع لأربَحَ الأكثَرين. فصِرتُ لليهُودِ كَيَهُودِيّ لأربَحَ اليهُود. وللذينَ تحتَ النامُوس كأني تحتَ النامُوس لأربَحَ الذين تحتَ النامُوس. وللذينَ بلا نامُوس كأنِّي بلا نامُوس. معَ أنِّي لستُ بِلا نامُوسٍ لله بل تحتَ نامُوسٍ للمسيح. لأربَحَ الذين بلا نامُوس. صِرتُ للضُّعفاءِ كضَعيفٍ لأربَحَ الضُّعفاء. صِرتُ لِلكُلِّ كُلَّ شَيءٍ لأُخلِّصَ على كُلِّ حالٍ قَوماً. وهذا أنا أفعَلُهُ لأجلِ الإنجيل لأكُونَ شَريكاً فيهِ." (1كُورنثوس 9: 19- 23)

رُغمَ أنَّ بُولُس كانَ حُرَّاً من النَّاس، أي أنَّهُ وُلِدَ حُرّاً ولم يُستَعبَدْ لأحَد، ولكنَّهُ وبِملءِ إختِيارِهِ جعلَ نفسَهُ عبداً للجمَيعِ من أجلِ الإنجيل. وقرَّرَ أن يخدُمَهُم بأيَّةِ طَريقَةٍ يربَحُ بها فُرصَةً لتقديمِ إنجيلِ الخلاصِ لهم. فإذا كانَ شخصٌ ما يهُودِيَّاً، كانَ بُولُس يُكيِّفُ تصرُّفاتِهِ ليجعَلَ الإنجيلَ واضِحاً ومُشوِّقاً لليهُودِيّ. وإذا كانَ شخصٌ ما أُمِّيَّاً، كانَ بُولُس يتكلَّمُ معَهُ بأُسلُوبٍ يجعَلُ من رسالَةِ الإنجيلِ بسيطَةً واضِحَةً.

رُغمَ أنَّهُ كانت هُناكَ حُدُودٌ لا يُمكِن لبُولُس أن يتجاوَزَها، ولكن إن كانَ شخصٌ ما بدُونِ نامُوس، كانَ يعمَلُ كُلَّ شيءٍ لِيجعَلَ منَ الإنجيلِ مُشوِّقاً للذي بِلا نامُوس. ورُغمَ أنَّ بُولُس لم ليُساوِم على ما آمَنَ بهِ إن رَفَضَهُ الآخرُونَ، كانَ مُستَعِدَّاً أن يستخدِمَ حُرِّيَّتَهُ في المسيح ليجعَلَ الإنجيلَ مفهُوماً لكُلِّ الناس في مُختَلَفِ ظُروفِهم.

جعلَ بُولُس من الحُرِّيَّةِ في المسيح في مُقدَّمَةِ إهتِماماتِهِ، ورفضَ كُلَّ أشكالِ النامُوسيَّة، ولكنَّهُ كانَ مُهتمَّاً بِشدَّةٍ أيضاً بالأخِ الأضعَف، وبوحدَةِ جسدِ المسيح. وإنسجاماً معَ إهتِمامِهِ هذا، إختارَ أن يمتَنِعَ عن مُمارساتٍ يُمكِنُ أن تعثُرَ الأخ الأضعَف.

تطبيقيَّاً، رُغمَ أنَّنا أحرارٌ في المسيح أن نعمَلَ عدَّةَ أُمُور، نحنُ مسؤُولونَ عن الطريقة التي تُؤثِّرُ بها تصرُّفاتُنا على الآخَرين، خاصَّةً أولئكَ الذين هُم أعضاء في نفس الجسد الرُّوحي الذين نحنُ فيهِ. لهذا، إن كُنَّا نعمَلُ شيئاً لا يمَسُّ بقداسَةِ اللهِ ولا بِعلاقَتِنا معَ المسيح، ولكن يُشكِّلُ عثرَةً للأخِ الآخر، فعَلَينا أن لا نعمَلَ هذا الشيء في حُضُورِ هذا الأخ الآخر. المبدَأُ الذي يُعلِّمُهُ بُولُس لا يُطبَّقُ بجعلِ الأخ الضعيف يذهَبُ بعيداً عنَّا، ولا بأن نطلُبَ منهُ أن ينظُرَ إلى الجِهَةِ الأُخرى. تطبيقُ هذا المبدَأ يُوجدَ في إهتِمامِنا ومحبَّتِنا لإخوتِنا وأخواتِنا في المسيح، وإهتِمامِنا بِوِحدَةِ الجسد.


فهمُ دَورِ المَرأة في الكَنيسة

في الإصحاحِ الحادِي عشَر من كُورنثُوس الأُولى، عالَجَ بُولُس دورَ المرأة في الكنيسة، ومائِدة الرَّب. ولقد علَّمَ النِّساءَ أن يُغَطِّينَ رُؤُوسَهُنَّ وأن يُرخِينَ شعرَهُنَّ. كتبَ بُولُس يقُول: "وأمَّا المَرأَة إن كَانت تُرخِي شعرَها فَهُوَ مَجدٌ لها." (1كُورنثُوس 11: 15). [وقد يكُونُ لهذا المبدأ أبعادٌ رُوحِيَّةٌ خَفيَّةٌ بينَ سُطُورِ الوحِي، وفي هذه الحال، ينبَغي تطبيقُ هذا المبدَأ بِغَضِّ النَّظَر عن الزمانِ والمكان، وفي كُلِّ الحضارات، لأنَّ الإعتِبارات الرُّوحِيَّة تفُوقُ الظُّرُوف البَشريَّة.] ولكن إن كانَ هذا المبدَأُ مُرتَبِطاً فقط بإعتِباراتٍ حضارِيَّة، فمنَ المعرُوف أنَّهُ في الحضارَةِ الكُورنثُوسِيَّة، كانت النِّساءُ ذاتِ الشعرِ القَصير أو المَحلُوق تُعرَفَن بأنَّهُنَّ زانِيات وسيِّئات السُّمعَة. ولكي يتمَّ تمييزُ النِّساءِ المَسيحيَّات عن هؤلاء، علَّمَ بُولُس النِّساءَ في الكنيسة أن يُغَطِّينَ شعرَهُنَّ ويُرخِينَ شعرَهُنَّ.

كانَ هذا تعليماً مبنِيَّاً على أساسِ إعتِباراتٍ حضارِيَّة، ولكنَّ مبدَأَ الإنفِصال عن حضارَةِ العالَم لا يزالُ ينطَبِقُ اليوم. فإن كانَتِ الحضارَةُ التي نعيشُ فيها تُعرِّفُ نوعاً مُعَيَّناً من الناس من نوعِ الثياب التي يرتَدُونَها أو من قصَّةِ شعرِهم، فعلينا أن نتجنَّبَ إرتِداءَ هذا النوع من اللباس، وقصَّ شعرِنا بهذه الطريقة المَشبُوهة. علَينا أن لا نُعطِي سبباً للقَلَقِ والتعيير بينَ الإخوة بسببِ مظهَرِنا، وعلينا أن لا نُعطِي عِلَّةً للذين هُم من خارِج بأن يُصنِّفُوا النساءَ المُتَشبِّهات بالمسيح وكأنَّهُنَّ زانِيات. فإن كانت الحضارَةُ لا تربِطُ الشعرَ القصير معَ الزِّنى، فلا حاجَةَ للقَول أنَّهُ بإمكانِ النساءِ المُؤمِنات أن يقصُصنَ شعرَهُنَّ.

وكما لاحظتُ في دِراسَتي لهذا الرسالة، إنَّ تعليمَ بُولُس أنَّهُ على المرأَةِ أن تُغَطِّيَ شعرَها عندما تُصلِّي أو تتنبَّأُ، لا يعني أن تذهَبَ المرأةُ إلى الكنيسة وهي ترتدي قُبَّعَةً. لقد كانَ لهذا علاقَةٌ بالحضارة، التي لا تزالُ تُطبَّقُ اليوم في الحضاراتِ الشرق أوسَطِيَّة، حيثُ تُغَطِّي المرأَةُ رأسَها في المُجتَمَع. إنَّ هذا التعليم الهامّ لبُولُس يُظهِرُ أنَّهُ، على الرُّغمِ من أنَّ الرسالَة إلى أهلِ رُومية تُعلِّمنا أن لا نُشاكِلَ هذا الدهر (رومية 12: 2)، ولكن علينا أن لا نتجاهَلَ الحضارات التي نعيشُ فيها. فَعِندَما تعيشُ النِّساءُ المُرسَلاتُ في الحضاراتِ الشرقِ أَوسَطِيَّة اليوم، فإنَّهُنَّ تعلَّمنَ أن لا تتجاهَلنَ هذه الإعتِبارات في تِلكَ الحضارة. [إلا إذا كانَ وراءَ تعليم بُولُس عن عدم قصّ الشعر وعن تغطِيَةِ الرأسِ أسباباً رُوحِيَّةً، تتخطَّى حُدُودَ الظرُوف الحضاريَّة، ممَّا يجعَلُ منها سارِيَةَ المفعُولِ في كُلِّ مكانٍ وزَمان.]

كون بُولُس يفتَرِضُ أنَّ النساءَ تُصَلِّينَ وتتنبَّأنَ عندما تجتَمِعُ الكَنيسة، يُؤكِّدُ دَورَ النِّساء في الكنيسة في مجالِ التنبُّؤ والصلاة. إنَّ دراسَةً مُعمَّقة لدورِ النِّساء في الكنيسة قد يقُودُنا إلى النتيجَةِ التالِية: بإمكانِ المرأة أن تعمَلَ هذه الأُمُور في الكنيسة طالَما أنَّ خدمتَها التي تقُومُ بها هي تحتَ سُلطَةِ شُيُوخِ هذه الكَنيسة. وعلى هذا الأساس، يُصبِحُ كُلُّ شخصٍ في الكنيسة تحتَ سُلطَةِ الشُّيُوخ، والشُّيُوخ تحتَ سُلطَةِ المسيحِ الحي المُقام وكلمة الله.


طَريقَةٌ لائِقَةٌ بمائِدَةِ الرَّبّ

عندما أعطَى بُولُس تصحيحاتِهِ المُوحَاة لسُوءِ تصرُّفِ الكُورنثُوسيِّين عندما كانُوا يجتَمِعُونَ حولَ مائِدَةِ الرَّب، علَّمَ المُؤمنينَ الكُورنثُوسيِّين أن يهتَمُّوا ببعضِهِم البَعض وأن يهتَمُّوا بحالَةِ قُلوبِهم عندما يتحلَّقُونَ حولَ تِلكَ المائِدة. لقد تناهَى لأسماعِ بُولُس أنَّ الكُورنثُوسيِّين كانُوا يتناوَلُونَ عشاءَ الربِّ بدونِ لياقَة من ناحِيَتَين: أنَّهُم لم يكُونُوا يُفكِّرُونَ بإخوتِهم وأخواتِهم في المسيح، وأنَّهُم لم يتناوَلوا عناصِرَ عشاءِ الرَّب بإستِحقاق: "لأنَّ كُلَّ واحِدٍ يسبِقُ فيأخُذُ عَشاءَ نفسهِ في الأكلِ فالواحِدُ يجُوعُ والآخَرُ يَسكَرُ." (1كُو11: 21)

دَرَجَتِ العادَةُ في الجِيلِ الأوَّلِ من الكَنيسة أن يُشارِكُوا ما كانُوا يُسمُّونَهُ "وَليمَة المحبَّة"، قبلَ أن يتناوَلُوا مائدة العَشاء الرُّبَّانِي. ويبدُو ممَّا كتبَهُ بُولُس هُنا، أنَّهُم لم يكُونُوا يَضَعُونَ الطعام الذي يجلُبُونَهُ على مائِدَةٍ مُشتَرَكة. بل يبدو أنَّ كُلَّ واحِدٍ جلبَ معَهُ ما يُريدُ أن يأكُلَهُ هُوَ بِنَفسِهِ. فكانَ البعضُ أغنياء وكانُوا يجلُبُونَ الكثيرَ من الطعام، أمَّا البَعضُ الآخر فكانُوا فُقَراء (لَرُبَّما حتَّى كانُوا عبيداً)، ولم يكُونُوا قادِرينَ على أن يجلُبُوا أيَّ طعام. فكانَ بعضُ المُؤمنين يجلِسُونَ ليأكُلُوا أطايِبَ الطعامِ أمامَ مُؤمنينَ آخرينَ كانُوا يتضوَّرُونَ جُوعاً. يعتَقِدُ البعضُ أنَّ بُولُس كانَ يَستَخِفُّ بولائِمِ الطعام التي كانت تُتناوَلُ في الكنائِس، عندما قالَ، "أفَلَيسَ لكُم بُيُوتٌ لِتأكُلُوا فيها وتَشرَبُوا؟" (1كُو11: 22).

كانُوا يتناوَلُونَ العشاءَ الرُّبَّانِي بدُونِ أن يهتَمُّوا بإخوتِهم المُؤمنين. ونرى أيضاً أنَّ بعضَ الإخوة كانُوا يقتَرِبُونَ من مائِدَةِ عشاءِ الرَّبِّ ليُشبِعُوا رَغبَتَهُم بشُربِ النبِيذ. لقد كانُوا يستَخدِمونَ النبيذ لكَي يسكَرُوا. إنَّهُ لأمرٌ مُروِّع أن نقرَأَ عن هذا التصرُّفِ السيِّء، لأنَّنا نُقارِنُ حضارَةَ الكنيسة اليوم بحضارَةِ الكنيسةِ الأُولى في كُورنثُوس. ولكن علينا أن نتذكَّرَ أنَّ هؤلاء كانُوا أوَّلَ أعضاءٍ في أوَّلِ كنيسةٍ في مُجتَمَعِ كُورنثُوس المُنحَلّ أخلاقِيَّاً. نحنُ كوالِدينَ جسدياً أو رُوحِيَّاً، نُدرِكُ أنَّ الأطفالَ يُسبِّبونَ الفوضى. لهذا وصفَ بُولُس هؤُلاء المُؤمنينَ الكُورنثُوسيِّين بالأطفال (1كُورنثوس 3: 1).

لقد كانَ سُوءُ التصرُّفِ هذا مكرُوهاً من قِبَلِ بُولُس. فجوهَرُ معنى مائِدَةِ الرَّبّ هُوَ أن نتذكَّرَ موتَ المسيح وقِيامَتَهُ، وما كانت هاتَين الحَقيقَتين من الإنجيل تعنِيانِهِ للمُؤمنين الذين كانُوا يَلتَقُونَ معَ المسيح ومعَ بعضِهم البَعض على تلكَ المائِدة. لقد وبَّخَ بُولُس كنيسةَ كُورنثُوس بِكتابَتِهِ لهُم: "إذاً أيُّ من أكَلَ هذا الخُبز أو شَرِبَ كأسَ الرَّبِّ بِدُونِ إستِحقاق يكُونُ مُجرِماً في جسدِ الرَّبِّ ودَمِهِ. ولكن لِيَمتَحِنِ الإنسانُ نفسَهُ وهكذا يأكُلُ من الخُبز ويَشرَبُ من الكَأس." (1كُورنُثوس 11: 27- 28).

في بعضِ التَّرجمات، يُحذِّرُ هذا المقطَعُ الكُورنثوسيِّين من الإقتِرابِ من مائِدَةِ الرِّبِ بعدَمِ إستحقاقٍ. ولكنَّ هذه الترجمة قد تجعَلُ المُؤمِنينَ يظُنُّونَ أنَّهُ عليهم أن يكُونُوا مُستَحِقِّينَ لمائِدَةِ الرَّبّ. فعِندَما يقتَرِفُونَ الخطايا، يتغيَّبُونَ عمداً عن مائِدَةِ الرَّب، في وقتٍ يكُونُونَ بأمسِّ الحاجَةِ لهذه المائدة. إنّ الترجمَةَ الصحيحة لقولِ بُولُس هي أنَّهُ كانَ يُعلِّمُ الكُورنثُوسيِّين (وأنا وأنت)، أنَّهُ علينا أن نقتَرِبَ من هذه المائِدة بِلَياقَة. فهذه المائِدة تتكلَّمُ عن عدمِ إستِحقاقِنا وعن إستِحقاقاتِ وآلامِ المسيح المُقام.

بكلمَةٍ واحدة، كانَ بُولُس يَقُولُ لنا أن نجعَلَ من العشاءِ الرُّبَّانِيّ وقتاً للتأمُّلِ في قُلوبِنا أمامَ الرَّب، وليسَ وقتاً لنُتخِمَ نُفُوسَنا بالطعام، بينَما نترُكُ إخوةً لنا يتضوَّرُونَ جُوعاً، وأن لا نسكَرَ بخمرِ مائِدَةِ الرَّب.

أظهَرَ بُولُس أنَّ هذا الوقت كانَ أيضاً للشَرِكة معَ بعضِهم البعض، وذلكَ في قولِهِ: "إذاً يا إخوتِي حِينَ تجتَمِعُونَ للأكلِ إنتَظِرُوا بعضُكُم بعضاً." (33) إنَّ وِحَدَة المُؤمنين هي بُعدٌ هامٌّ في الشركة. إنتِظارُ المُؤمنينَ المُتأخِّرينَ لكَي يشتَرِكَ كُلُّ الجَسَدِ في المائِدة معاً، هُوَ رمزٌ للوحدَةِ أمامَ المسيحِ المُقام، الذي نحتَفِلُ بِقيامَتِهِ ونُطبِّقُها فردِيَّاً وجماعِيَّاً.

كيفَ تقتَرِبُ من مائِدَةِ العشاءِ الرُّبَّانِيّ؟ وهل تأخُذُ وقتَكَ في فحصِ ذاتِكَ قبلَ أن تأكُلَ الخُبزَ وتشرَ الكأس الذي يُمثِّلُ جسدَ يسُوع المكسُور ودمَهُ المسفُوك نِيابَةً عنك؟ وهل تعتَرِف بأهمِّيَّةِ جسدِ ودَمِ المَسيح عندما تتمتَّعُ بالشرِكَةِ العامُودِيَّةِ والأُفُقِيَّةِ معَ المسيح وفي مُجتَمَعِكَ الرُّوحِي؟

تأمَّل في هذا المقطَعِ المَهُوب، وإجعَلْ الوقت الذي تقضِيهِ أمامَ مائِدَة الرَّب إختِباراً مُقدَّسَاً، مُطبِّقاً جوهَرَ معنى المائدة فردِيَّاً وجماعِيَّاً، بإحتِرامٍ وتذكُّرٍ لذبيحَةِ المسيح ولِقيامَتِه.

  • عدد الزيارات: 10480