Skip to main content

الفَصلُ الأوَّل "لمحَة عامَّة عن رِسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية"

إذ نقتَرِبُ من رسائِلِ بُولُس، علينا أن نتذَكَّرَ مُجَدَّداً أنَّ أسفارَ الكتابِ المُقدَّس لم يَتِمّ ترتيبُها بالتَّسَلسُل بالنِّسبَةِ إلى تاريخِ كتابَتِها بالتَّتالي. فعلى الرُّغمِ من أنَّ هذه هي الرِّسالَة الأولى لبُولُس كما نَجِدُها في ترتيبِ الأسفارِ الكِتابِيَّة، ولكنَّها لم تَكُنْ الرِّسالَة الأُولى التي كتبَها بُولُس لإحدى كنائِسِه. كُتِبَت رسالَةُ بُولُس إلى أهلِ رُومية في وقتٍ مُتأخِّرٍ من خِدمَتِهِ – في رحلتِهِ التَّبشيريَّة الثَّالِثة، بينما كانَ يقُومُ بِزيارَةٍ سريعة لكُورنثُوس، بعدَ أن قضى ثلاثَ سنواتٍ في الخدمَةِ في أفسُس. ولقد كُتِبَت هذه الرِّسالَة في مرحَلَةٍ مُتأخِّرَة من خِدمَةِ بُولُس الرَّسُول، عندما كانَ قد أصبَحَ ناضِجاً وعميقَ الخُبرَة. وقد تَكُونُ وُضِعَت في مُقدِّمَةِ رَسائِلِ بُولُس، لأنَّها أروعُ رسالةٍ بينَ رسائِلهِ. ويعتَقِدُ بعضُ المُفَسِّرينَ أنَّ هذه الرِّسالَة هي أروَعُ سفرٍ من أسفارِ العهدِ الجديد.

مُعظَمُ رسائِل بُولُس تتعلَّقُ مُباشَرةً وتحديداً بالأشخاصِ التي كانت تُوجَّهُ إليهِم. فهِيَ غالِباً تُعالِجُ وتُواجِهُ مشاكِلَ مَحَلِّيَّة كانت تُعاني منها الكنائِسُ والمُدُن التي عاشَ فيها قُرَّاءُ بُولُس. ولكنَّ مُحتَوى هذه الرِّسالَة هُوَ تصريحٌ عميقٌ، مُوجَزٌ، واضحٌ، وشامِلٌ عن لاهُوتِ الخلاص. فهذه الرِّسالَة ليسَت مُجَرَّدَ نبذَةٍ عنِ الإنجيل، بل هي أُطرُوحَةٌ لاهُوتِيَّةٌ شامِلَة تُشَكِّلُ تصريحاً شامِلاً ومُعَمَّقاً للاهُوتِ العهدِ الجديد.

هذه الرِّسالة مُنَظَّمَة بِشَكلٍ جميلٍ وواضِحٍ، لدرَجَةِ  أنَّ الكثيرَ منَ المُفسِّرين يعتَقِدُونَ أنَّها كانت على قَلبِ الرَّسول بُولُس لوقتٍ طَويل. فلَرُبَّما تعلَّمَ بُولُس جوهَرَ مُحتواها من المسيحِ المُقام مُباشَرَةً في صحراءِ العَربِيَّة (أُنظُرْ غلاطية 1 – 2: 14). ولكن، لَرُبَّما يَكُونُ قد تأمَّلَ بمحُتواها خلالَ فترَةٍ طَويلة، كتلكَ السنَتَينِ اللتين قضاهما في السِّجن في قَيصَرِيَّةِ فِلسطِين، بينما كانت الدَّولَةُ الرُّومانِيَّة تُبَدِّلُ حُكَّامَها (أعمال 24: 27).

ولَرُبَّما قَرَّرَ أن يُوَجِّهَها إلى أهلِ رُومية بسَبَبِ مُحتَواها الكَونِيّ، وبسببِ كَونِها ستُتَداوَلُ بشكلٍ واسِعٍ في عاصِمَةِ العالَمِ الرُّومانِي في تلكَ الأيَّام.

فمِنَ الإصحاحِ الأوَّل وحتَّى الأخير، يُوجَدُ مَوضُوعٌ أو حُجَّةٌ رَئيسيَّةٌ في الرِّسالة. ولا أقصُدُ بِكَلمة حُجَّة مُقارَعة. فالقَضِيَّةُ القانُونيَّة التي كانَت تُقدَّمُ من قِبَلِ مُحامٍ، يُشارُ إليها بكونِها حُجَّتَهُ. فالرِّسالَةُ بِكامِلِها تبدُو وكأنَّها الحُجَّة القانُونيَّة لمُحامٍ يُقدِّمُ قانُونيَّاً ومنهَجِيَّاً حُججاً قَويَّةً تُقنِعُ المحكمَةَ بِصِحِّةِ البُرهان الذي يُقدِّمُهُ لها. فينبَغي أن نقرأَ هذه الرِّسالَة في جلسَةٍ واحِدة، وبتركيزٍ كَبيرٍ لإتِّباعِ حُجَّةِ بُولُس عبرَ الرِّسالَةِ من الأوَّلِ للآخِر.

وكما أشَرتُ سابِقاً، تلكَ الكلمة الوحيدة "مُتَبَرِّرِينَ" تُلَخِّصُ وتُوجِزُ مَوضُوعَ هذه الرِّسالة الرَّائِعة بكامِلها. لقد أخبَرنا يسُوعُ في مثَلِهِ عنِ الفَرِّيسيِّ والعَشَّار (لُوقا 18)، أنَّ كُلَّ إنسانٍ يُصَلِّي الصَّلاة القائِلة: "أللَّهُمَّ إرحَمْني أنا الخاطِئ"، سيذهبُ إلى بيتِهِ "مُبَرَّراً."

هذه الكلمة، التي إستَخدَمها يسُوعُ ليَصِفَ حالَةَ النِّعمة لخاطِئ مغفُورٍ لهُ، يُمكِنُ تفسيرُها كالتَّالي: "وكأنِّي لم أُخطِءْ البَتَّة." تعني كلمة "مُبَرَّر" أنَّهُ بسببِ المسيح، عندما يعترِفُ الخاطِئُ بأنَّهُ خاطِئٌ، ويطلُبُ رحمَةَ الله، فهُوَ لا يحصَلُ فقط على الغُفرانِ والمُسامحة. بل سيُصبِحُ في نظَرِ اللهِ وكأنَّهُ لم يُخطِئ أصلاً. بالإضافَةِ إلى هذه الأخبارِ السَّارَّة، يُعلِنُ اللهُ أنَّ الخاطئَ أصبحَ بارَّاً، أو ما نُسمِّيهِ "في حالَةِ النِّعمة."

وبهدَفِ المَزيدِ منَ التَّوضِيح للتَّبرير، تصوَّرُوا سَجينين في حَبسٍ مَنيعِ أمين. وكلاهُما قد حُكِمَ عليهِما بجرائِمَ، وقُضِيَ عليهِما بأن يقضِيا باقِي عُمرهما في السِّجن. وعندما أنهَيا عشرينَ سنةً من عُقوبَتِهما، مُنِحَ العَفُو رَسمِيَّاً لأحدِهِما، وأُطلِقَ سراحُهُ منَ السِّجن. فأصبحَ رَجُلاً حُرَّاً، ولكنَّهُ رُغمَ ذلكَ سَوفَ يحمِلُ دائماً صبغَةَ ماضِيهِ الإجرامِيّ. وسوفَ يُنظَرُ إليهِ بأنَّهُ كَرَجُلٍ قضى عشرينَ سنَةً من عُمرِهِ في السِّجن. هذه الصَّبغة قد تَحُدُّ رَسمِيَّاً من حياتِهِ ومكانَتِهِ في المُجتَمَع. وقد يَجِدُ صُعُوبَةً في إيجادِ عمَلٍ وفي قُبُولِ الآخرينَ لهُ في الحياة.

وحدَثَ شَيءٌ مُختَلِفٌ تماماً للسَّجينِ الآخر. إذِ إعتَرَفَ إنسانٌ وهُوَ على سَريرِ المَوت بمَسؤوليَّتِهِ عن الجريمة التي أُدينَ بها ظُلماً ذلكَ السَّجينُ الآخر الذي يقبَعُ منذُ عشرينَ عاماً في السِّجن. فعندما يتبيَّنُ بُرهانُ براءَتِهِ، هل ستعفُو عنهُ الدَّولَةُ التي وضعَتْهُ في السِّجن؟ وكيفَ يُمكِنُ أن يغفِرُوا لهُ خطأً لم يرتَكِبْهُ؟ على العَكس، ينبَغي أن يُعلَنَ هذا السَّجينُ بأنَّهُ بارٌّ بَريء، أو بِكَلماتٍ أُخرى، بإمكانِهِ الإلحاح قائلاً، "أُريدُ أن أتَبَرَّرَ، أي أن أُحسَبَ بأنَّني لم أَقتَرِفْ تلكَ الجريمة بتاتاً." فهُوَ بالحقيقة لم يقتَرِفْ تلكَ الجريمة التي من أجلِها قضَى عشرينَ سنَةً في السِّجنِ، مُعانِياً من أحوالِ حياةِ السُّجُون.

في رسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، يُخبِرُنا بُولُس الرَّسُول بأمرٍ مُشابِهٍ تماماً، مع فَرقٍ واحِدٍ أساسيّ. يُخبِرُنا بُولُس كيفَ يَستطيعُ اللهُ أن يُعلِنَ إنساناً مُبَرَّراً تماماً، رُغمَ أنَّهُ كانَ مُذنِباً. أمَّا أنظِمَتُنا القضائِيَّة فلا تستطيعُ أن تفعَلَ ذلكَ. اللهُ وحدهُ يستَطيعُ أن يعمَلَ مثلَ هذا الأمر، واللهُ وحدهُ يستطيعُ ذلكَ بسببِ ما عَمِلَهُ يسُوعُ المسيحُ من أجلِنا عندما ماتَ على الصَّليب. تُخبِرنا رسالَةُ بُولس الرَّسُول هذه إلى أهلِ رُومية كيفَ يستطيعُ اللهُ أن يُعلِنَ هكذا إنسانٍ بأنَّهُ بَريءٌ بارٌّ، وكأنَّهُ لم يقتَرِفْ أيَّةَ خَطِيَّةٍ في حياتِهِ، رُغمَ كونِهِ خاطئِاً.

في مَثَلِهِ، أخبرَنا يسُوعُ بالأخبارِ السَّارَّة أنَّ مُعجِزَةَ التَّبرير يُمكِنُ أن يختَبِرَها كُلُّ إنسانٍ يُصَلِّي صلاةَ الخاطِي التَّائِب. (فعندما يتكلَّمُ خاطِئٌ معَ الله، ويعتَرِفُ بأنَّهُ خاطِئٌ وبأنَّهُ يحتاجُ للخلاص، ويضَع ثِقَتَهُ الكامِلَة بعملِ المسيحِ المُتَمَّم على الصَّليب، ويُؤمِنُ بقيامَةِ إبنِ اللهِ الوحيد منَ الموت لإتمامِ غُفرانِ خطايانا، نُسَمِّي هذا بِصلاة الخاطِئ.) في رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، يُخبِرُنا بُولُس كيفَ يفعَلُ اللهُ ذلكَ. فكيفَ يُمكِنُ لإلهٍ عادِلٍ وقُدُّوس أن يجعَلَ من خُطاةٍ نظيرِكَ ونظِيري أبراراً تماماً؟ إنَّ رِسالَةَ بُولُس إلى المُؤمنين في روما هي أكثَرُ جوابٍ مُوحَى، مُعَمَّق، مَنطِقِيّ، مُنظَّم وشامِل على هذا السُّؤال في الكتابِ المُقدَّس. فجَوهَرُ رسالَة هذه التُّحفَة الرُّوحيَّة لبُولُس هُوَ بمثابَةِ أُطرُوحَةٍ لاهُوتيَّةٍ شامِلَة تُخبِرُنا بِدِقَّة كيفَ وماذا يعمَلُ اللهُ ليُعلِنَ خُطاةً مُذنِبينَ بأنَّهُم أبرارٌ أبرياء، وماذا علينا أن نفعَلَ لنُطَبِّقَ هذا الإعلان على خطايانا.

المَلِكُ داوُد هُوَ مِثالٌ لما تعنيهِ كلمة "مُبَرَّر." فسفر صَمُوئيل الثَّاني التَّاريخيّ في العهدِ القَديم، يُخَصِّصُ أكثَر من عشرة إصحاحاتٍ ليُخبِرَنا بكُلِّ تفاصِيلِ خَطيئَةِ داوُد الدَّنيئة (2صَمُوئيل 11- 18). ولكن عندما نقرَأُ سِفرَي أخبارِ الأيَّام في العهدِ القَديم، حيثُ نَجِدُ سرداً لتلكَ الحقبَة التَّارِيخيَّة من وُجهَةِ نَظَرِ الله، لا يُؤتَى على ذكرِ خَطيَّةِ داوُد بتاتاً.

يذكُرُ المَزمُور الحادِي والخَمسون إعتِرافَ داوُد الجَميل بِخَطِيَّتِهِ الشَّنيعَة. ويُسَجِّلُ المَزمُور 32 البَركات التي إختَبَرها داوُد بسببِ إعتِرافِهِ بِخَطِيَّتِهِ. فعندما نظَرَ اللهُ إلى خَطِيَّةِ داوُد المُعتَرَف بها، بِدُونِ إنكارِ الحقيقَة المُريعَة لتلكَ الخطيَّة، وعندما نُقارِنُ سِفرَي صَمُوئيل التَّاريخيَّين بِسِفرَي أخبار الأيَّام وبِالمزامير، نُدرِكُ أنَّهُ من وُجهَةِ نَظَرِ الله، خَطيَّةُ داوُد وكأنَّها لم تحدُثْ أصلاً. هذا إيضاحٌ جَميلٌ منَ العهدِ القديم عنِ التَّبرير الذي خصَّصَ لهُ بُولُس مُعظَمَ رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية.

رِسالَةُ رُومية والأسفارُ المَعنِيَّةُ منَ العهدِ القَديم، التي تُوضِحُ رسالَةَ هذا السِّفر، يُمكِنُ أن تُفهَمَ بِشَكلٍ أَوضَح إذا نظَرْنا إلى حياتِنا وكأنَّهَا شَريطُ تسجِيل. تَصَوَّرْ أنَّ حَياتَكَ بِجُملَتِها مُسَجَّلَةٌ على شَريطِ تسجيل. وعندما تُخطِئُ، تُسَجَّلُ خَطيئَتُكَ على شَريطِ وقائِع حياتِك. وعندما يَجدُ اللهُ خَطيَّةً على شَريطِ وقائِع حياتِك، بِسَبَبِ إيمانِكَ بِما فعلَهُ يسُوعُ من أجلِكَ على الصَّليب، يقطَعُ ذلكَ الجُزءَ منَ الشَّريط الذي يُسَجِّلُ خطيَّتَكَ. وهُوَ يقطَعُ الشَّريط من حيثُ تبدَأُ الخطيَّة وإلى أن تنتَهي، ويرمي هذه القطعة منَ الشَّريط بعيداً. ثُمَّ يُلصِقُ الشَّريطَ مُجدَّداً، حتَّى أنَّهُ عندما يُديرُ اللهُ شريطَ وقائِعِ حياتِكَ يومَ الدَّينُونَة، إن كُنتَ قد آمنتَ بيسُوع لخلاصِكَ، وأصبَحَت تلميذاً تابِعاً لهُ، لن تَكُونَ هُناكَ أيُّةُ خَطيَّةٍ على شَريطِ حياتِكَ. فلن تُغفَرُ خطيَّتُكَ وتُسامَح فقط، بل لن تُذكَرَ الخطيَّةُ في حياتِكَ البَتَّة. فبالنِّسبَةِ لله، وكأنَّ خَطِيَّتَكَ لم تحدُثْ أصلاً. هذا ما يعنيهِ التَّبرير.


مَضغ رسالة بُولُس إلى أهلِ رُومية

إذ نبدَأُ دراسَتَنا لهذه الرِّسالة الرَّائعة لبُولُس، أوَّلُ أمرٍ علينا أن نعمَلَهُ هُوَ أن نُقَسِّمَ إصحاحاتِها السِّتة عشَر إلى أربَعَةِ أقسام:

-في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى، يربِطُ بُولُس بينَ التَّبريرِ والخاطِئ.

-في الإصحاحاتِ الأربَعة التَّالِيَة (5- 8)، يَربِطُ بُولُس التَّبريرَ بالشَّخصِ الذي تمَّ تَبريرُهُ. ولكن كيفَ يَعِيشُ شخصٌ تمَّ إعلانهُ بارَّاً من قِبَلِ اللهِ، بعدَ أن تمَّ تبريرُهُ؟ منَ الواضِحِ أنَّهُ ينبَغي أن يعيشَ حياةَ البِرّ. وكيفَ يَجِدُ الدِّيناميكيَّةَ الرُّوحِيَّةَ ليَحيا حياةَ البِرّ؟ هذا هُوَ مَوضُوعُ المجمُوعَةِ الثَّانِيَة المُؤلَّفَة منَ الإصحاحات الأربَعة منَ الرِّسالة (5- 8).

-القِسمُ الثَّالِثُ من هذه الرِّسالَة (9- 11)، هُوَ حيثُ يَربِطُ بُولُس التَّبريرَ بِشَعبِ إسرائيل. وتُعتَبَرُ هذه أعمق ثلاثَة إصحاحاتٍ في الكتابِ المُقدَّس حولَ مَوضُوع النُّبُوَّة الكِتابِيَّة. يستَخدِمُ بُولُس إسرائيل في هذه الإصحاحات كالمثالِ الكتابِيِّ الأعلى عمَّا يُسمِّيهِ "الإختِيار،" أو إختيار الله أُناساً للخَلاص.

في هذا المقطَع الثَّالِث من هذه الرِّسالَة، ندرُسُ ذلكَ التَّعليم الكِتابِيِّ الصَّعب الذي يُسَمَّى "التَّعيين المُسبَق للخَلاص." هُناكَ تناقَضٌ مُحَيِّرٌ في دراسَتِنا للكِتابِ المُقدَّس، الذي يبدو وكأنَّهُ تناقُضٌ، ولكن معَ دراسَةٍ وتمييزٍ رُوحِيَّين، ندرِكُ أنَّهُ لا يُوجَدُ تناقُضٌ. هُناكَ أوقاتٌ تُرغِمُنا فيها حُدُودُ إنسانِيَّتِنا على قُبُولِ الحقيقَةِ أنَّنا على الأقَلّ في هذه الحياة لن نستطيعَ أبداً إيجادَ حَلٍّ ظاهِرٍ لهذه التناقُضات التي نَجِدُها في الكتابِ المُقدَّس. وعلينا أن نُدرِكَ أنَّ طُرُقَ وأفكارَ الله تختَلِفُ عن أفكارِنا، كما تعلُو السماواتُ عنِ الأرض (إشعياء 55: 8، 9). التَّناقُضُ يُحَلُّ أحياناً عندما نُدرِكُ أنَّ القَضِيَّة ليسَت خياراً واحداً منَ الإثنين، بل الإثنَينِ معاً.

في واحدٍ من أكثَرِ التَّعاليم التي تبدُو مُتناقِضَة في كلمةِ الله، في هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثَة، يستَخدِمُ بُولُس أيضاً إسرائيل كالمِثال الكِتابِيِّ الأعلى للإشارَةِ إلى شَيءٍ بالِغِ الأهمِّيَّة بالنِّسبَةِ لله: إرادة الكائناتِ البَشَريَّة الحُرَّة. فلقد منحَنا خالِقُنا الحُرِّيَّةَ والمَسؤُوليَّةَ لإتِّخاذِ الخَيارات. أمَّا اليَهُود فلقد إتَّخَذُوا الخَياراتِ الخاطِئة عندما رفَضُوا المَسِيَّا، وإختارُوا بأن لا يَعُودُوا بعدَ الآن شعبَ اللهِ المُختار للخلاص، وأن لا يكُونُوا أداةً لخلاصِ هذا العالم. لهذا يستخدِمُ بُولُس إسرائيل في هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثَة كالمِثالِ الكِتابِيِّ الرَّائِع عن الحُرِّيَّة والمَسؤوليَّة التي زَوَّدَنا بها اللهُ لإتِّخاذِ الخيارات، سواءٌ أكانَت خياراتٍ صائِبَة أم خاطِئة.

الإصحاحاتُ الأربَعة الأخيرة من هذه الرِّسالَة هي عمليَّةٌ لِلغَايَة. في كُلِّ رسائِلِ بُولُس، نَجِدُ فصلاً مُحدَّداً بِدِقَّة بينَ التَّعليمِ والتَّطبيق. إحدى رسائِلِهِ تنقَسِمُ بالتَّساوي تقريباً بينَ ثلاثَةِ إصحاحاتٍ منَ التَّعليم، وثلاثة إصحاحات أُخرى منَ التطبيق.  في هذه الرِّسالة، تقريباً ثلاثَة أرباع هذه الإصحاحات تُشَكِّلُ تعليمَ رسالَة رُومية (1- 11)، ورُبعُ هذه الإصحاحات يُشَكِّلُ التَّطبيق (12- 16).

تُشَكِّلُ هذه الرِّسالَةُ التُّحفَةَ اللاهُوتيَّةَ لهذا الرَّسُولِ العَظيم، وهذه الإصحاحاتِ التطبيقيَّة الأربَعة هي عمليَّةٌ لِلغايَة. يُظهِرُ بُولُس ويشرَحُ ويُطَبِّقُ كيفَ يستطيعُ الأشخاصُ المُبَرَّرُونَ أن يُطَبِّقُوا إنجيلَ التَّبريرِ على أنفُسِهم وإلتِزامَهُم بالله وبمشيئَتِهِ لحياتِهم، لحُكُومَتِهِم، ولبِعضِهِم البَعض، ولعالَمٍ ساقِطٍ يحتاجُ أن يسمَعَ الأخبارَ السَّارَّةَ التي أعلَنَها يسُوع.

عندما يَقُومُ بُولُس بِتَطبيقاتِهِ في هذهِ الرِّسالَة، يُواجِهُ ويُعالِجُ المشاكِلَ المحليَّة التي تمَّ إختِبارُها بينَ تلاميذ يسُوع في رُوما. فعندما كتبَ هذه الرِّسالة، لم يَكُنْ قد ذهبَ البَتَّةَ إلى رُوما. ولكن كانَ يُوجَدٌ قَولٌ بأنَّ كُلَّ الطُّرُق تُؤَدِّي إلى رُوما. وفي أسفارِهِ الكَثيرَة، إلتَقَى بالكثيرِ منَ المُؤمنينَ الذين كانوا قد سافَرُوا إلى رُوما وأصبحُوا جُزءاً من كنائِسِ المَنزِل في رُوما. ولقد إلتَقى أيضاً بمُؤمنينَ كانُوا جُزءاً من هذه المُجتَمَعاتِ الرُّوحيَّة. بهذه الطريقة، كانَ بُولُس مُطَّلِعاً تماماً على المشاكِل التي واجَهها في تطبيقِ إصحاحاتِ هذه الرِّسالَة. 


أهمِّيَّة رِسالَة رُومية

قَبلَ أن نبدأَ دراسَتَنا عدداً بعدَ الآخر لهذه الرِّسالة المُوحَى بها، عليَّ أن أُقدِّمَ أمثِلَةً عن تأثيرِ هذا السِّفر على حياة النَّاس عبرَ تاريخِ الكنيسة. فلم يسبِق لأيِّ سفرٍ في العهدِ الجديد أن أثَّرَ على تاريخِ الكنيسة بمقدارِ ما أثَّرَت رسالَة بُولُس هذه على مُؤمني رُوما.

أحدُ أعظَمِ الرِّجالاتِ الذين سنلتَقيهُم في كُتُبِ تاريخِ الكنيسة، يُسَمَّى أُغسطِينُوس. فلقد كانَ قائِداً عظيماً لكنيسةِ شمالِي إفريقيا. وكانَ أُوغسطينُوس قد تجدَّدَ من خلفيَّةِ حياةٍ رهيبَة غارِقَة في الخَطيَّة، بِقراءَةِ عددٍ واحدٍ من رِسالَةِ رُومية. فإستِجابَةً لِصلواتِ أُمِّهِ التَّقيَّة، سَمِعَ صَوتَ طِفلٍ يَقُولُ لهُ أن يستَيقِظَ وأن يقرَأَ ذلكَ العدد. وعندما تجاوَبَ بعملِ ما طُلِبَ منهُ القِيامُ بهِ، تجدَّدَ بأُعجُوبَة. فتاريخُ الكنيسة كانَ قد تأثَّرَ ديناميكيَّاً بتجديد أُغسطينُوس، الذي نتجَ عن قراءَتِهِ لعددٍ واحدٍ من رسالَة بُولُس المُوحاة هذه.

كَكاهِنٍ كاثُوليكيّ، كانَ مارتِن لُوثر يُعاني من صِراعٍ في نفسِهِ حولَ خلاصِهِ الشَّخصِي وعلاقَتِهِ معَ الله. وذاتَ صباحٍ خلالَ تأمُّلاتِهِ، إختَبَرَ تدخُّلاً إلهيَّاً. كانَ يُحَضِّرُ ليُعلِّمَ كلمةَ اللهِ في جامِعَةِ وِتنبرغ، فإرتَسَمَ أمامَهُ العددُ 17 من الإصحاحِ الأوَّل من رسالَةِ رُومية. "تُخبِرُنا هذه الأخبارُ السَّارَّةُ كيفَ يجعَلُنا اللهُ مُبَرَّرينَ أمامَ عينيه. وهذا يتحقَّقُ منَ البِدايَةِ إلى النِّهايَةِ بالإيمان. فكما تقُولُ كلمةُ الله، "وأمَّا البارُّ فبالإيمانِ يحيا." وعلى مِثالِ أُوغسطينُوس، تجدَّدَ مارتن لُوثر بطريقَةِ مجيدة، وتأثَّرَتْ أُورُوبا بأسرِها بما نُسمِّيهِ الإصلاح، الذي كانَ نتيجَةَ تَجديدِ لُوثَر. فذلكَ العددُ الوَحيدُ أثَّرَ على أُورُوبَّا بأسرِها، وليسَ فقط على حياة ذلكَ الكاهِنِ الكاثُوليكيّ، مارتن لُوثَر.

وبعدَ قَرنَين، رَجُلٌ إسمُهُ جُون وِسلي يُخبِرُنا أنَّ قَلبَهُ شَعرَ بالدِّفءِ الرُّوحِي بشكلٍ غَريبٍ في مكانٍ يُسمَّى Aldersgate. فتجدَّدَ وسلي تماماً كما حدَثَ معَ أُوغسطينُوس ولُوثر. فبينما كانَ أحدُهُم يقرَأُ تفسيرِ لُوثر لرِسالَةِ رُومية، جدَّدَ اللهُ جُون وِسلي بِطَريقَةٍ عجائبِيَّة، فحدَثَ ما يُسمِّيهِ مُؤَرِّخُو الكنيسة بالنَّهضَةِ العَظيمة، أو نهضَة القرن الثَّامِن عشَر، التي غَيَّرت تاريخَ إنكلترا، والتي بِحَسَبِ المُؤرِّخينَ المدنيِّين، جنَّبَت إنكلترا من المُرُور في ثَورَةٍ دَمَويَّةٍ كَتِلكَ التي حَدَثت في فَرَنسا، أي الثَّورة الفَرَنسيَّة، التي تركَتْ صفحَةً حزينَةً في التَّاريخِ الفَرنسي.

وهكذا تأثَّرَ تاريخُ شمالِي إفريقيا بِعُمقٍ بسببِ قراءَةِ أُوغسطينُوس لِعَدَدٍ من رسالَةِ رُومية. وتشكَّلَ تاريخُ أُوروبَّا عندما قرأَ مارتن لُوثر عدداً واحداً من هذه الرِّسالة المُوحى بها منَ الله. وتَغَيَّرَ تاريخُ إنكلترا عندما غَيَّرَ اللهُ حياةَ جُون وسلي، بينما كانَ يقرأُ مُقَدِّمَةَ تفسيرٍ لهذه الرِّسالة لبُولس الرَّسُول إلى أهلِ رُومية. فكُلُّ طائِفَةٍ بروتستانِتيَّة مَوجُودة اليَوم، هي نتيجَةٌ مُباشَرَةٌ لتأثيرِ رسالَةِ رُومية، التي نحنُ الآن على وَشَكِ البَدءِ بدراسَتِها تفصيليَّاً.

ويُوجَدُ الكَثيرُ من النَّاسِ الذين بإمكانِنا أن نُتابِعَ سردَ أسمائِهم، من الذين تأثَّرُوا بهذا السفر، أي بِرسالَةِ رُومية. لهذا عليكَ أن تبدَأَ دِراسَةَ هذه الرِّسالة بِرُوحِ الصَّلاة، لكَي يُغَيِّرَ اللهُ حياتَكَ بينما تقرأُ وتدرُسُ هذه الرِّسالة لبُولُس إلى أهلِ رُومية. أُطلُبْ من الرُّوحِ القُدُس أن يَضَعَ الحرارَةَ في قَلبِكَ بينما تدرُسُ هذه الرِّسالة معنا.


عامِلٌ في كَلِمَةِ الله

يَعتَقِدُ الكَثيرُونَ أنَّ هذه الرِّسالة هي أصعَبُ رسائِلِ الرَّسُول العَظيم بُولُس. لقد كانَ بُولُس "لِلكُلِّ كُلَّ شَيءٍ." ولقد كتبَ قائِلاً في الأعدادِ الإفتِتاحِيَّةِ لهذه الرِّسالَة أنَّهُ كانَ مُرغَماً على تقديمِ الإنجيل للحُكماءِ والجُهلاء (1: 14) ولقد شَرَحَ للكُورنثُوسيِّينَ أنَّ الرُّوحَ القُدُس يُعلِنُ الحقيقَةَ الرُّوحيَّة للأشخاصِ الرُّوحِيِّين، بِغَضِّ النَّظَرِ عن مُستَوى ثقافَتِهِم. ولكنَّهُ يَقُولُ في هذا الإطار أنَّهُ يتكلَّمُ بِحِكمَةٍ بينَ الكامِلين (1كُورنثُوس 2: 6).

هذا ما فعلَهُ بُولُس عندما كتبَ هذه الرِّسالة. عليكَ أن تتعلَّمَ أن تدرُسَ، إذا أردتَ أن تفهَمَ ما كتبَهُ بُولُس في رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية. لكَي تفهَمَ ما أقصُدُ، تأمَّلْ بهذه الكلمات التي كتبَها بُولُس لتيمُوثاوُس: "إجتَهِدْ أن تُقيمَ نفسكَ للهِ مُزَكَّىً، عامِلاً لا يُخزى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الحَقِّ بالإستِقامَة." (2تيموثاوُس 2: 15) يبدُو وكأنَّ بُولُس، تماماً كما فعلَ إرميا، يَقُولُ لتيمُوثاوُس أن يأكُلَ كلمةَ الله – فينبَغي أن يتمَّ تفصيل كلمة الله بالإستِقامَة، إذا أرادَ تيمُوثاوُس أن يَكُونَ عامِلاً في كلمَةِ الله. الكلمة المِفتاحِيَّة في هذا المقطع هي كلمة "إجتَهِد."

في أوَّلِ مرَّةٍ حضَرتُ فيها درسَ اللُّغَةِ اليُونانِيَّة، كانَ أُستاذُ اللُّغةِ اليونانِيَّة قد وضعَ لوحَةً على الحائط فوق مكتَبِهِ، مكتُوبٌ عليها العدد الذي قالَهُ بُولُس لتيمُوثاوُس. فبدأَ الأُستاذُ مُحاضَرَتَهُ بالإشارَةِ إلى تلكَ اللوحة على الحائط، طارِحاً السُّؤال، "هل تَعرِفُونَ ماذا تعني كلمة "إجتَهِد" في اللُّغَةِ اليُونانِيَّة؟ إنَّها تعني، "أُبذُل قُصارَى جُهدِكَ للمعرِفَة."

أتَعجَّبُ منَ الأشخاص الذين يعتَقِدونَ أنَّهُم يستطيعُونَ الإجتِهاد في دَرسِ علمِ الجَبر، والهَندَسَة، والكيمياء، والبيولوجيا، أو العُلوم، ولكنَّهُم يتوقَّعُونَ أن يفتَحُوا كتابَهُم المُقدَّس وأن يفهَمُوا رسالَةً مثل رسالَة بُولُس إلى أهلِ رُومية، بدُونِ أيَّةِ دراسَةٍ لها. وكأنَّهُم بهذا يُؤمِنُونَ أنَّهُ بإستِطاعَتِهِم أن يفهَمُوا الكتابَ المُقَدَّس بمُجَرَّدِ وضعِهِ تحتَ وِسادَتِهم خلالَ الليل، مُتَوقِّعينَ أن يضعَ اللهُ فهمَ كلمتِهِ في أذهانِهِم خلالَ نومِهِم. يبدو أنَّ هكذا أشخاصٍ لا يُدركُونَ أنَّ اللهَ لا يُعلنُ كلمَتَهُ لنا بنَوعٍ منَ السِّحرِ الرُّوحِيّ.

فنحنُ ندرُسُ الكتابَ المُقدَّس بِبَساطَةٍ، إذا توقَّعنا أن تلمُسَ كلمَةُ اللهِ قُلُوبَنا وأن تُصبِحَ قُوَّةً في حياتِنا. يَصدُقُ هذا بشكلٍ خاصٍّ عندَما نبدَأُ هذه الدِّراسَة المُعَمَّقَة للرِّسالَةِ إلى أهلِ رُومية. لهذا، أطلُبُوا منَ الرُّوحِ القُدُس أن يُعلِنَ لكُم فحوى رسالة بُولس العميقة هذه، وكذلكَ حاوِلُوا أن تَضعُوا جهداً لدرسِها بينَما نتأمَّلُ بها معاً. خَصِّصُوا على الأقَلّ لدراسَةِ هذه الرِّسالَة من المَجهُودِ الذِّهنِيّ، ما تُخَصِّصُوهُ لدراسَةِ أيِّ مَوضُوعٍ آخر في الجامِعة أو في العمل الذي تكتَسِبُونَ منهُ عيشَكُم. فإذا درستُم بإجتِهادٍ هذه الكلمات التي كتَبَها بُولُس لِلمُؤمِنينَ في رُومية، سوفَ تفهَمُونَ لماذا قالَ عنها البَعضُ أنَّها من أهمِّ أسفارِ الكتابِ المُقدَّس.

  • عدد الزيارات: 16662