Skip to main content

الفَصلُ الثَّالِث "الإنجيلُ بِحَسَبِ بُولُس"

(رومية 1: 17- 32)

الكَلِماتُ الأخيرَةُ من تحيَّةِ بُولُس تُمَهِّدُ لهُ الطَّريق ليَبدَأَ تُحفَتَهُ اللاهُوتيَّة. رُغمَ أنَّنا تأمَّلنا في برامِجِنا الإذاعيَّة بهذه الأعداد بالتَّفصيل، سوفَ أكتَفِي بتَلخيصِها في هذا الكُتَيِّب. عندما يُعلِنُ أنَّهُ لا يستَحِي بالإنجيل، يُتْبِعُ هذا الإدِّعاء بِتَصريحٍ يَقُولُُ فيهِ أنَّ الإنجيلَ يَكشِفُ حَقيقَتَينِ عظيمَتَين عنِ الله: يُعلِنُ الإنجيلُ بِرَّاً يُعطَى منَ اللهِ لكَ ولي، إذ نكتَسِبْهُ بالإيمان. ويُعلِنُ الإنجيلُ أيضاً غضبَ اللهِ على الذين ليسُوا أبراراً (16- 18).

كمُقَدِّمَةٍ لهذه التُّحفَة اللاهُوتيَّة لبُولُس، أوَدُّ أن أُقَدِّمَ لمحَةً مُوجَزَةً عنِ الإصحاحاتِ الأربَعَةِ الأُولى من رسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية، الأمرُ الذي تعلَّمْتُهُ من أحدِ اللاهُوتِيِّينَ ودارِسي الكتابِ المُقدَّس، الدُّكتُور David Stuart Briscoe:

"في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى من رسالَةِ بُولُس هذه، يُخبِرُنا ما هُوَ الله: اللهُ بارٌّ. ثُمَّ يُخبِرُنا ماذا يُريدُ اللهُ منِّي ومنكَ أن نَكُون: يريدُنا اللهُ أن نَكُونَ أبراراً. ثُمَّ يُخبِرُنا عمَّن يدينُهُ الله: اللهُ يَدينُ كُلُّ من ليسَ بارَّاً. ثُمَّ يُخبِرُنا بُولُس عمَّا يعرِفُهُ الله: اللهُ يعرِفُ أنَّنا بِجُهُودِنا الشَّخصِيَّة لن نَستَطيعَ ولا بِمليُونِ سنَةٍ منَ المُحاوَلَةِ بأن نُصبِحَ أبراراً بشكلٍ كافٍ لنُخَلِّصَ نفُوسَنا بأعمالِنا الصَّالِحة. هذه الحقائِق عنِ اللهِ قد يَتِمُّ وصفُها بالأخبارِ السَّيِّئَة."

"هذا يَقودُ بُولُس للحَديثِ عنِ الأخبارِ السَّارَّة – والتي تُشَكِّلُ قَلبَ ورُوحَ هذه الرِّسالَة الرَّائعَة – عندما يُخبِرُنا عمَّا عِمَلَهُ الله. فلقد جاءَ اللهُ إلى هذا العالم بِشَخصِ إبنهِ وقدَّمَهُ كالذَّبيحَةِ الوحيدة التي تستطيعُ أن تُخَلِّصَنا من خطايانا وتُمَكِّنُنا من أن نُعلَنَ أبراراً من قِبَلِ الله. ثُمَّ يُخبِرُنا بُولُس عمَّا يُريدُنا اللهُ أن نعمَلَ: اللهُ يُريدُنا أن نُؤمِنَ بهِ عندما يُخبِرُنا في كَلِمَتِهِ عمَّا فعلَهُ لأجلِ خلاصِنا من خطايانا ومن أجلِ إعلانِنا أبراراً."

هذا الجزءُ الأوَّلُ من تفسيرِ بُولُس العميق والشامِل للإنجيل، نَجِدُهُ مُلَخَّصاً في العددِ الأَوَّل من الإصحاحِ الخامِس، عندما يكتُبُ قائِلاً: "فإذ قد تَبَرَّرنا بالإيمان، لنا سلامٌ معَ اللهِ بِرَبِّنا يسُوع المسيح."

عندما يكتُبُ بُولُس أنَّ بِرَّ اللهِ مُعلَنٌ في الإنجيل، يُضِيفُ على هذا القَول جوهَرَ رسالَةِ النَّبِي حبقُّوق، عندما كتب قائِلاً: "لأنَّ فيهِ مُعلَنٌ بِرُّ اللهِ بإيمانٍ لإيمان كما هُوَ مكتُوبٌ أمَّا البَارّ فبالإيمانِ يحيا." (رومية 1: 17؛ حبقُّوق 2: 4) هذا هُوَ العدد الذي إستَخدَمَهُ اللهُ ليُحَرِّكَ قَلبَ مارتن لُوثر، والذي أصبحَ القُوَّة الدَّافِعة للإصلاحِ الإنجيليّ. فبِمعنىً ما، كُلُّ طائِفَةٍ إنجيليَّة تَدينُ بِوُجُودِها لهذا العددِ الفَريد منَ الكتابِ المُقَدَّس.

فعندما قرأَ مارتن لُوثر هذا العدد، كانَ المُؤمِنُونَ يتعلَّمُونَ أنَّ الخلاصَ كانَ مُؤَسَّساً على أعمالِ البِرّ الصَّالِحة. وكانَ لُوثر يسعَى نحوَ هذا النَّوع منَ الخلاص، وذلكَ بِرحلَةٍ ماراتُونيَّةٍ طويلة من أعمالِ الإماتَةِ والبِرِّ الذَّاتِيّ، التي كانت تتضمَّنُ جَلدَ النَّفسِ بالسَّوط، وإماتاتٍ مثل صُعُود الأدراج على رُكَبِهِ، ظانَّاً أنَّهُ بذلكَ يكسَبُ خلاصَهُ. هل بإمكانِكَ أن تتصوَّر كيفَ قفَزَت هذه الكلماتُ من على صفحَةِ الكتابِ المُقدَّس إلى أمامِ وجهِ لُوثَر في ذلكَ الصَّباح: "...لأنَّ فيهِ مُعلَنٌ بِرُّ اللهِ بإيمانٍ لإيمان كما هُوَ مكتُوبٌ أمَّا البَارّ فبالإيمانِ يحيا." كتبَ لُوثَر قُربَ العَدَد 17 من رُومية 1، على هامِشِ النَّسخَةِ اللاتِينيَّة للكتابِ المُقدَّس، الكلمة اللاتِينيَّة “Sola”، أي "وحدَهُ." لقد بدأَ لُوثَر يفهَمُ أنَّهُ بالإيمانِ وحدَهُ، وليسَ بالأعمالِ، يتبرَّرُ الإنسان.

وصلَ بُولُس هُنا إلى تقديمِهِ العميق والشَّامِل للإنجيل. بعدَ أن كانَ قد بدأَ الحديث عنِ الأخبارِ السَّارَّة النَّاتِجَة عنِ البِرِّ الذي بالإيمان، يتكلَّمُ بعدَها عن الحقيقَةِ الثَّانِيَة، عن اللهِ المُعلَن عنهُ في الإنجيل: الطريقَةُ التي ينطَبِقُ بها غَضَبُ اللهِ على كُلِّ الأثَمَة، حيثُ يكتُبُ قائِلاً: "لأنَّ غَضَبَ اللهِ مُعلَنٌ منَ السَّماءِ على جَميعِ فجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم، الذين يحجُزُونَ الحَقَّ بالإثم."

ثُمَّ ينتَقِلُ بُولُس إلى دِراسَتِهِ المُوحَى بها عن طبيعَةِ اللهِ وطبيعَةِ الإنسان، كما كانت في ذلكَ الزَّمان، وكما هي عليهِ الآن. في سفرِ التَّكوِين، نجدُ دراسَةً مُشابِهَةً عنِ اللهِ والإنسان، عندما ظهَرا على حَقيقَتِهِما. (كلمة "إنسان" تُستَخدَمٌ بالمعنَى الشَّامِل في الكتابِ المُقدَّس، ولا يُقصَدُ منها الرِّجالُ بإستِثناءِ النِّساء.)

لقد أظهَرَ لنا يسُوعُ كيفَ نُفَسِّرُ مقاطِعَ مثل تلكَ التي كتبَها بُولُس ومُوسَى. فعندما طُرِحَ على يسُوع سُؤالٌ عنِ الزَّواج، قالَ بِكَلِمَةٍ أَو بأُخرى، "إذا أردتَ أن تفهَمَ الزَّواجَ كما هُوَ الآن، عليكَ أن ترجِعَ إلى البِدايَةِ وأن تفهَمَ الزَّواجَ كما خطَّطَ اللهُ لهُ أن يكَونَ في ذلكَ الزَّمان." (متَّى 19: 3- 12) يُخبِرُنا بُولُس عن سُقُوطِ العائِلَة البَشَريَّة كما كانَ، لأنَّهُ يُريدُنا أن نفهَمَ طبيعَةَ العائِلَةِ البَشَريَّة ومشاكِلَها كما هي عليهِ الآن.

لاحِظُوا أنَّهُ إبتداءً منَ العدد 18، يكتُبُ بُولُس مقطَعاً لا يُعتَبَرُ مُحَبَّباً بينَ مقاطِعِ الكتابِ المُقدَّس للدراسَة، أو على الأقل هذا المقطع ليسَ المَقطَعَ المُفضَّلَ عندي في الكتابِ. كُلُّ الكِتابِ هُوَ مُوحَىً بهِ منَ اللهِ، ولكنَ ليسَ بالضَّرُورَةِ كُلُّ الكتابِ مُوحٍ أو مُمتِعٍ في قراءَتِه. ولكن رُغمَ عدم كَونِ هذا المقطع منَ المقاطِعِ المُنيرَة في الكتابِ المُقدَّس، إلا أنَّهُ من المقاطعِ الواقِعيَّةِ العميقة. وهُوَ يبدَأُ بقَولِهِ لنا، "لأنَّ غَضَبَ اللهِ مُعلَنٌ منَ السَّماء على جَميعِ فُجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم، الذين يحجُزُونَ الحَقَّ بالإثم." (رُومية 1: 18)

لاحِظُوا أنَّ غَضَبَ اللهِ مُوجَّهٌ لأمرَين: فُجُور النَّاس وإثمِ النَّاس. يُخبِرُنا المُفسِّرُونَ البارِعُونَ للكتابِ المُقدَّس بأنَّ هذا لهُ علاقَةٌ بكَونِ الوصايا العَشَر قد أُعطِيَت على لَوحَين. اللوحَةُ الأُولى أُدرِجَت عليها الوصايا التي نظَّمَت علاقَةَ الإنسانِ بالله. كانت تُوجَدُ سِتَّةُ وصايا على اللَّوحَةِ الثَّانِيَة، التي كانت تُنَظِّمُ علاقَةَ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسان.

يعتقِدُ هؤُلاء المُفسِّرُون أنَّهُ بما أنَّ هذه الوصايا الأربَعة الأُولى تُظهِرُ لشَعبِ اللهِ كيفَ يَكُونُون أتقِياء، فعندما يُشيرُ بُولُس إلى "فُجُورِ النَّاس،" يقصِدُ بذلكَ خرقَ أوَّل أَربَع وصايا منَ النَّامُوس. بِكَلِماتٍ أُخرى، عندما ينتَهِكُ الإنسانُ الوَصَايا الأربَع الأُولى، يُعتَبَرُ فاجِراً، أي مُخطِئاً ضِدَّ الله، "لا يَكُنْ لكَ آلِهَة أُخرى أمامِي. لا تَصنَعْ لكَ تِمثالاً منحُوتاً ولا صُورَةً ما مِمَّا في السَّماءِ من فَوق، وما في الأرضِ من تحتُ، وما في الماءِ من تحتِ الأرض. لا تَسجُدْ لهُنَّ ولا تَعبُدُهُنَّ. لأنِّي أنا الرَّبُّ إلهَكَ إلهٌ غَيُورٌ أفتَقِدُ ذُنبَ الآباءِ في الأبناءِ في الجيلِ الثَّالِث والرَّابِع من مُبغِضِيَّ. وأصنَعُ إحساناً إلى أُلُوفٍ من مُحِبِّيَّ وحافِظي وصاياي. لا تَنطِقْ بإسمِ الرَّبِّ إلهكَ باطلاً. لأنَّ الربَّ لا يُبرِئُ من نطَقَ بإسمِهِ باطِلاً. أُذكُرْ يومَ السَّبتِ لِتُقَدِّسَهُ. ستَّةَ أيَّامٍ تعمَلُ وتصنَعُ جَميعَ عمَلِكَ. وأمَّا اليَومُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبتٌ لِلرَّبِّ إلهِكَ. لا تَصنَعْ عملاً ما أنتَ وإبنُكَ وإبنَتُكَ وعَبدُكَ وأَمَتُكَ وبَهِيمَتُكَ ونَزِيلُكَ الذي داخِل أبوابِكَ. لأنْ في سِتَّةِ أيَّامٍ صَنعَ الرَّبُّ السَّماءَ والأرض والبَحرَ وكُلَّ ما فيها. وإستَراحَ في اليَومِ السَّابِع. لذلكَ بارَكَ الرَّبُّ يومَ السَّبتِ وقدَّسَهُ." (خُرُوج 20: 3- 11)

وبما أنَّ الوَصايا السِّتّ الباقِيَة على اللَّوحَةِ الثَّانِيَة تَرعَى علاقاتِ شَعبِ اللهِ معَ بعضِهِم، فإذ يُشيرُ بُولُس إلى "الإثم"، يقصُدُ خرقَ الوصايا السِّتّ المَوجُودة على اللَّوحَةِ الثَّانِيَة. عندما فَشِلَ شعبُ اللهِ بأن يعمَلَ الصَّوابَ في علاقاتِهِم، وقعُوا في الإثم: "أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لِكَي تَطُولَ أيَّامُكَ على الأرض التي يُعطيكَ إيَّاها الرَّبُّ إلهُكَ. لا تَقتُلْ. لا تَزنِ. لا تَسرِقْ. لا تَشهَدْ على قَريبِكَ شَهادَةَ زُورٍ. لا تَشتَهِ بَيتَ قَريبِكَ. لا تَشتَهِ إمرأَةَ قَريبِكَ ولا عَبدَهُ ولا أمَتَهُ ولا ثَورَهُ ولا حِمارَهُ ولا شَيئاً مِمَّا لِقَريبِكَ." (خُرُوج 20: 12- 17).

عندَما يكتُبُ بُولُس أنَّ جوابَ اللهِ على الفُجُورِ والإثم هُوَ غَضَبُ الله، علينا أن نسألَ أنفُسَنا: "ماذا يقصُدُ بُولُس، مُوسَى، الأنبِياء، وباقي كُتَّابِ الأسفارِ الإلهيَّةِ المُقدَّسة، عندما يُشيرُونَ إلى غََضَبِ الله؟ يعتَقِدُ الكَثيرُونَ أنَّ مَفهُومَ غَضبِ اللهِ يُوجَدُ فقط في العهدِ القَديم، وأنَّهُ سابِقٌ للتَّارِيخ، بِدائِيٌّ، وهُوَ مفهُومٌ للهِ أنارَ الأتقياءَ ليُؤمِنُوا بهِ. ولكن كم منَ الوَقتِ مضى منذُ أن سَمِعتَ لآخِرِ مرَّةٍ عظَةً عن غَضَبِ الله؟ أو قد نسأَلُ، "هل سمعتَ في حياتِكَ، ولو لِمَرَّةٍ واحدَةٍ، عِظَةً عن غَضَبِ الله؟"


طَبيعَةُ الإنسان

ثلاثَ مرَّاتٍ في وصفِهِ لكيفيَّةِ سُقُوطِ طَبيعَةِ الإنسان، كتبَ بُولُس قائِلاً، "أسلَمَهُم اللهُ" (رُومية 1: 24، 26، 28). هذا لا يعني أنَّ اللهَ فقدَ الأملَ منَ الإنسان. بل يعني أنَّ اللهَ أسلَمَهُم لما كانُوا يرغَبُونَ بهِ. وفي كُلِّ مَرَّةٍ يحدُثُ هذا الأمر، تَجِدُونَ إتِّهاماتِ اللهِ على الإنسان، وأجوبَة الله للإنسان، والعواقِب الأخلاقيَّة التي يسمَحُ اللهُ بأن تحدُثَ للإنسان. يُمكِنُ تَسمِيَةُ هذا المقطَع، "دِراسَة لسُقُوطِ العائِلة البَشريَّة أخلاقيَّاً أو أدَبيَّاً."

أوَّلُ إتِّهامٍ منَ اللهِ ضِدَّ الإنسان كانَ ولا يزالُ، "يحجُزُونَ الحَقَّ بالإثم." وهذا ينسَجِمُ معَ تعريفِ الخطيَّة، كما نتعلَّمُهُ من يسُوع في إنجيلِ يُوحَنَّا. والتَّعريفُ هُو: "بِدُونِ نُور، لا خَطِيَّة."

عندما قالَ يسُوعُ أنَّهُ كانَ نَوعاً منَ النُّورِ الذي أعطى بَصَراً لأُولئكَ الذينَ عَرَفُوا أنَّهُم كانُوا عُميان رُوحيَّاً، وأُعلِنَ عماهُم الرُّوحِيُّ من خلالِ أُولئكَ الذينَ كانُوا يتبجَّحُونَ قائِلينَ أنَّهُم يُبصِرُونَ، أي الفَرِّيسيُّون الذين سألُوا يسُوعَ إذا كانَ يقصُدُ بكلامِهِ أن يتَّهِمَهُم أنَّهُم عُميان؟ فكانَ جوابُهُ لهُم، "لو كُنتُم عُميانٌ، لما كانت لكُم خَطِيَّة. ولكن الآن تَقُولُونَ إنَّنا نُبصِر، فخَطِيَّتُكُم باقِيَة." في مُناسَبَةٍ أُخرى، قالَ يسُوع، "لو لم أَكُنْ قد جِئتُ وكَلَّمتُهُم لم تَكُنْ لهُم خَطِيَّة. وأمَّا الآن فليسَ لهُم عُذرٌ في خَطِيَّتِهِم." (يُوحَنَّا 9: 40، 41؛  15: 22).

هذا الإتِّهامُ الأوَّلُ من اللهِ ضِدَّ الإنسان، كما كانَ في ذلكَ الزَّمان وكما هُوَ عليهِ الآن، يَصِفُ الطريقة التي يحجُزُ بها الإنسانُ عمداً النُّورَ، أو الحق الذي يُحاوِلُ اللهُ أن يُعلِنَهُ لنا. وبما أنَّ هؤُلاء مُلتَزِمُونَ تماماً بحياتِهِم الخالِيَة منَ البِرّ، فإنَّهُم يرفُضُونَ الحقَّ الذي يُوضِحُ ما هُوَ الصَّوابُ أخلاقِيَّاً عندما يُعلِنُ اللهُ لهُم البِرّ. بِحَسَبِ بُولُس، خليقَةَ اللهِ التي يستَطيعُ الإنسانُ أن يراها حواليَهِ ينبَغي أن تجعَلَهُ واعِياً لِوُجُودِ الخالِق، الذي ينبَغي أن يعبُدَهُ كاللهِ القَدير (رُومية 1: 18- 23).

هذا ما يُسَمِّيهِ اللاهُوتِيُّون "الإعلان الطَّبيعيّ." وهُناكَ الكَثيرُ منَ الجَدَل بينَ اللاهُوتِيِّينَ حولَ مَوضُوع إمكانِيَّة تعلُّمِ الإنسان عنِ الله من دراسَتِهِ لخَليقَتِهِ، ما يَكفي لِخلاصِ هذا الإنسان. بُولُس لا يَدَّعي في هذا المقطع أنَّهُ بإمكانِ الإنسانِ أن يخلُصَ بِمُجَرَّدِ مُلاحَظَتِهِ للطبيعة. رُغمَ ذلكَ، فإنَّني أعتَقِدُ أنَّهُ  يُعَلِّمُ أنَّ أوَّلَ خُطوَةٍ في الرِّحلَةِ الطَّويلة لِسُقُوطِ الإنسان، هي بِرَفضِ أو كَبت النُّور الذي يُحاوِلُ اللهُ أن يُعلِنَهُ لهذا الإنسان حيالَ حياةِ البِرّ.

إتِّهامٌ آخر من قِبَلِ اللهِ ضدَّ الإنسان، كانَ ولا يزالُ أنَّهُ عندما يُعلِنُ اللهُ نفسَهُ للإنسان، لا يُمَجِّدُهُ الإنسانُ ولا يُعطيهِ المكانَة التي يَستَحِقُّها اللهُ في حياتِهِ. هذا مكانٌ آخر في الكتابِ المُقدَّس نَجِدُ فيهِ مفهُوم "الله أوَّلاً." فإن كانَ اللهُ يعني أيَّ شَيءٍ بالنِّسبَةِ لنا، عندَها سيَكُونُ كُلَّ شَيءٍ بالنِّسبَةِ لنا، لأنَّهُ إلى أن يُصبِحَ اللهُ كُلَّ شَيءٍ بالنِّسبَةِ لنا، لن يَكُونَ شَيئاً على الإطلاق. إنَّ رفضَ الإنسان أن يضعَ اللهَ أوَّلاً، هُوَ خُطوَةٌ أُخرى بإتِّجاهِ السُّقُوطِ، بِحَسَبِ الرَّسُول بُولُس.

إتِّهامٌ آخَر منَ اللهِ ضدَّ الإنسان، كانَ ولا يزالُ أنَّ الإنسانَ هُوَ غير شَكُور. هذا تصويرٌ مُكَبَّرٌ لِخَطِيِّةِ نُكرانِ الجميل. ثُمَّ ذكَرَ بُولُس لائحَةً طويلَةً منَ الخطايا التي تُقدِّمُ لِدِراسَتِهِ عنِ سُقُوطِ الطبيعَةِ البَشريَّة، كما كانَ من زَمان وكما هي الحالُ الآن، في كُلِّ أنحاءِ هذا العالم. في تيمُوثاوُس الثَّانِية الإصحاح الثَّالِث، كتبَ بُولُس يَقُولُ لذلكَ الرَّاعِي الشَّاب أنَّ نُكرانَ الجميل هُوَ علامَةٌ تُشيرُ إلى كَونِنا نعيشُ في الأيامِ الأخيرة. (1- 5).

وإذ تتَطَوَّرُ هذهِ العواقِبُ الأخلاقِيَّةُ في الإنسان، نقرَأُ: "وكما لم يَستَحسِنُوا أن يُبقُوا اللهَ في مَعرِفَتِهِم، أسلَمَهُم اللهُ إلى ذهنٍ مَرفُوضٍ، ليَفعَلُوا ما لا يَليق. مَملُوئينَ من كُلِّ إثمٍ وزِنىً وشَرٍّ وطَمَعٍ وخُبثٍ، مَشحُونِينَ حَسداً وقتلاً وخِصاماً ومَكراً وسُوءَاً. نمَّامِينَ مُفتَرينَ مُبغِضينَ للهِ ثالِبينَ مُتَعَظِّمينَ مُدَّعِينَ مُبتَدِعينَ شُرُوراً، غيرَ طائعينَ الوالِدَين. بلا فَهمٍ ولا عَهدٍ ولا حُنُوٍّ ولا رِضَىً ولا رحمَة. الذين إذ عرَفُوا حُكمَ اللهِ أنَّ الذينَ يعمَلُونَ مثلَ هذه يستَوجِبُونَ المَوت، لا يفعَلُونَها فقط بل أيضاً يُسَرُّونَ بالَّذِينَ يَعمَلُون." رِومية 1: 28- 32)


شَخصِيَّة الله

عندما يتكلَّمُ الكتابُ المُقدَّسُ عن غَضَبِ الله، لا يَصِفُ شُعُوراً نختَبِرُهُ كَكَائِناتٍ بَشَرِيَّة. فكلمة "غَضَب" بالعِبريَّة هي كلمَةٌ مُثِيرَةٌ للإهتِمام. وهي تعني، "عُبُور أو إجتِياز." تعني الكلمةُ أنَّ جَوهَرَ شَخصِيَّةِ اللهِ وطبيعَةِ الله هُوَ المحبَّة. ولكنَّ المحبَّةَ ليسَت الصَّفة الوحيدة لله. فشخصِيَّةُ اللهِ تحتَوي على تنوُّعٍ هائِلٍ منَ الصِّفاتِ. فإحدى صِفاتِهِ هي القَداسَة، أو ما يُمكِنُ وصفُهُ بالعدلِ الكامِل. وشَخصِيَّةُ اللهِ هي جوهَرُ تعريف ما هُوَ صَوابٌ أو عادِل. فإن كانَ اللهُ عادِلاً، فهذا يعني أنَّهُ ينبغي أن يعمَلَ شَيئاً حيالَ عدَمِ التَّقوى وعدَمِ البِرّ.

لو كُنتَ من هُوَاةِ كُرَةِ القَدَم، ماذا سَتَكُونُ رَدَّةُ فِعلِكَ إذا رأَيتَ الحَكَمَ يُسَجِّلُ مُخالَفَةَ جزاءٍ على أحدِ الفَريقَين لإرتِكابِهِ خطأً مُعَيَّناً، ثَمَّ عندَما يرتَكِبُ الفَريقُ الآخَرُ الخطأَ نفسَهُ، إذا بهذا الحَكم يكتَفِي بإبتِسامَةٍ دُونَ أن يُسجِّلَ مُخالَفَةَ جزاءٍ على الفَريقِ؟

تأمَّلْ باللهِ كحَكَمٍ مُطلَق، الذي عدلُهُ كامِلٌ ومُستَقيم. فكَونُهُ يتمتَّعُ بهذا العدل الكامِل والمُطلَق، لا يستَطيعُ أن يبتَسِمَ حيالَ فُجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم. بل ينبَغي أن يتجاوَبَ دائماً معَ الخطيَّة بالعِقاب. هذا ما يَقُولُهُ بُولُس هُنا: "غَضَبُ اللهِ مُعلَنٌ على هذه الأُمُور."

هذا لا يعني أنَّ اللهَ يُراقِبُ الفُجُورَ والإثم، ثُمَّ يَغضَبُ ويفقُدُ السَّيطَرَةَ على أعصابِهِ. بل يعني أنَّهُ إنسجاماً معَ طبيعَتِهِ البارَّة، المُقدَّسَة والعادِلَة، عندما تظهَرُ الحاجَةُ لغَضَبِ اللهِ بسبَبِ وُصُولِ فجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم إلى مُستَوَىً معُيَّن، فهُوَ "يجتازُ منَ المحبَّةِ إلى الغَضَب."

وسُرعانَ ما يجتازُ منَ المحبِّةِ إلى الغَضَب، حتَّى يُبيدَ تماماً الفَاجرينَ والأثمَة، كما حدَثَ في الطُّوفان، وكذلكَ في ما يَصِفُهُ النَّبِيُّ يُوئيل والرَّسُول بُطرُس كيَومِ الربِّ الرَّهيب والفظيع (يُوئيل 2: 11، 31؛ 2 بُطرُس 3: 10). ثُمَّ يُمكِنُ تعريفُ غَضَبِ اللهِ بأنَّهُ "ردَّة الفعل المُبيدة من العدلِ الكامِل تجاهَ الظُّلمِ والخَطيَّة." تعريفٌ آخر يُمكِنُ أن يَكُون "ردَّةُ الفِعلِ المُبيدة من المحبَّةِ الكامِلة ضِدَّ كُلُّ ما يُهدِّدُ مَوضُوعَ هذه المحبَّة."

محبَّةُ والِدٍ أرضِيّ يُمكِنُ أن تتحوَّلَ إلى غَضَب. حدَثَ مرَّةً أنَّ إبنَةَ سَبعِ سنواتٍ قدِ إغتُصِبَت وقُتِلَت. وعندما كانَ والِدُ هذه الفتاةِ الصَّغيرة والبَريئة، الذي إتِّصَفَ باللُّطفِ والمحبَّةِ، فإذ كانَ هذا الوالِدُ حاضِراً في مركَزِ الشُّرطة عندما أُحضِرَ المُجرِمُ الذي قامَ بهذه الفعلة الشنيعة، تطلَّبَ الأمرُ كُلَّ أعضاءِ مركَزِ الشُّرطَة ليُوقِفُوا والِدَ هذه الطفلة الضَّحيَّة عن الهُجُومِ على المُجرِم والقَضاء عليهِ لكَونِهِ قد دمَّرَ موضُوعَ حُبِّهِ.

رُغمَ أنَّ هذا يُساعِدُنا على فَهمِ غَضَبِ الله، ولكنَّهُ ليسَ صُورَةً مجازِيَّةً دقيقَةً بشَكلٍ كافٍ للتعبير ِعن شَخصِيِّةِ الله. وكما أشَرتُ سابِقاً، اللهُ لا يفقدُ السَّيطَرَةَ على أعصابِهِ عندما يجتازُ منَ المحبَّةِ إلى الغَضَب.

في الإصحاحِ الثَّانِي من هذه الرِّسالَة، كتبَ بُولُس عن غَضَبِ اللهِ المُستَقبَلِي الذي سيُعبَّرُ عنهُ في الدَّينُونَة. في الإصحاحِ الثَّالِث عشَر يَصِفُ غَضَبَ اللهِ الحاضِر الذي يُعَبَّرُ عنهُ من خلالِ ضابِطِ الأمن والسَّلام ضِدَّ أُولئكَ الذين ينتَهِكُونَ قوانِينَ الله. ولقد وصفَ بُولُس ثلاثَ مرَّاتٍ ضابِطَ الأمنِ والسَّلامِ هذا، الذي يُعَبِّرُ عن غَضَبِ اللهِ على من يكسِرُ القانُون، وصفَهُ بُولُس ثلاثاً بكَونِهِ "خادم الله."

خلالَ الأربَعينات، إجتَمَعَتْ عدَّةُ أُمَمٍ معاً للقَضاءِ على أدُولف هتلر والحزب النَّازِيّ، الذي أخذَ على عاتِقِهِ إبادَةُ اليَهُودِ عن وجهِ الأرض. لو لم يَتِمّ القَضاءُ على هتلر، لقَضى على كُلِّ اليَهُودِ وأبادَهُم. خلالَ ذلكَ العَقد الخامِس منَ القَرنِ العشرين، كانَ الكَثيرُونَ منَ المُؤمنينَ الذي شارَكُوا في الحَربِ العالَميَّةِ الثَّانية يعتَقِدُونَ أنَّهُم يُشَكِّلُونَ تعبيراً عن غَضَبِ اللهِ على سُلطَةِ الشَّرّ التي كانت تُشرِفُ على إبادَةِ عشرَة ملايين إنسان بَريء في مُخَيَّماتِ التَّعذيب النَّازِيَّة. وكانت القناعَةُ الكِتابِيَّةُ الكامِنة خلفَ المُشارَكِة في الحربِ العالميَّةِ الثَّانِيَة هي أنَّها كانت حرب عادِلَة، يخُوضُها ضابِطُ سلامٍ وأمنٍ جماعِيّ، مُعَبِّراً عن غَضَبِ اللهِ ضِدَّ سُلطَةٍ شِرِّيرَة كانت تُهَدِّدُ ليسَ اليَهُودِ فقط، بل الملايين غيرَهُم منَ الشُّعُوب الذي إعتَبَرَهُم النَّازِيُّونَ أدنَى مرتَبَةً منهُم.

  • عدد الزيارات: 7957