Skip to main content

الفصل الثالث - الرجال الذين قالوا للملك "لا" - الرفض البطولي

الصفحة 6 من 9: الرفض البطولي

الرفض البطولي

"فأجاب شدرخ وميشخ وعبدنغو وقالوا للملك. يا نبوخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك على هذا الأمر. هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك. وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" (دانيال 3: 16- 18).

هؤلاء هم أبطال الإيمان الذين قالوا للملك "لا"

"لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر" (دانيال 3: 16).

"لا نعبد آلهتك" (دانيال 3: 18).

"لا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" (دانيال 3: 18).

وعلى كل مؤمن أن يتعلم أن يقول "لا" لكل إغراء يريد أن يدفعه لارتكاب الشر. فالرجال والنساء العظماء هم الذين قالوا "لا" في الوقت الذي كان يجب أن يقولوها فيه، ورضوا مختارين أن يتعرضوا للخطر، وأن يقوموا بتضحيات جسام لأنهم قالوا بعزم وإصرار "لا".

*وأول من نقابلهم من هؤلاء العظماء هو يوسف الذي قال "لا" لإغراء الخطية الجنسية التي تجسمت في محاولات امرأة فوطيفار.

كان يوسف عبداً في بيت فوطيفار، وكان حسن الصورة وحسن المنظر، واشتهته زوجة سيده.. اشتهت شبابه، وظلت تطارده ليخضع لها، وأوقحت وجهها وقالت له "اضطجع معي" (تكوين 39: 7).

لكن يوسف قال بكل إصرار "لا" قال:

" كيف أصنع كل هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله" (تكوين 39: 9).

ولما ازداد إلحاحها عليه، ويقيناً أنه كان إلحاحاً مغرياً استخدمت فيه كل جاذبية أنوثتها، ووصلت لدرجة أن أمسكته بثوبه قائلة "اضطجع معي" .. "ترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى الخارج" (تكوين 39: 12).

وادعت المرأة الساقطة أن يوسف حاول اغتصابها. واشترى زوجها ادعائها ووضع يوسف في بيت السجن.

لم يتلاعب يوسف مع الخطية الجنسية.. ولم يحاول أن يجد لنفسه مبررات لارتكابها وهو بعيد عن أهله.ز وهو عبد في بيت فوطيفار.. وارتضى أن يدفع ثمن طهارته.. "آذوا بالقيد رجليه. في الحديد دخلت نفسه" (مزمور 105: 18) "مررته ورمته واضطهدته أرباب السهام" (تكوين 49: 23).. لكن جاء الوقت الذي فيه كافأه إله السماء العادل " أرسل الملك فحلّه. أرسل سلطان الشعب فأطلقه. أقامه سيداً على بيته ومسلطاً على كل ملكه. ليأسر رؤساء حسب إرادته ويعلم مشايخه حكمة" (مزمور 105: 20- 22).

*ثم يأتي في موكب الذين قالوا "لا" موسى النبي العظيم. قال "لا" للمجد الفرعوني، ولخزائن مصر الغنية، وللتمتع الوقتي بالخطية..

"بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون. مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية. حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عبرانيين 11: 24- 26).

ولم يكن نطقه بكلمة "لا" أمراً سهلاً.. لقد كان يعني أن يقطع بعمق وقسوة كل العواطف التي جاشت في قلبه من نحو ابنة فرعون.. أن يقف موقف الجحود أمام حبها، وأمام الملجأ الذي وجده في بيتها ، وأمام العلم الذي هذبته به، لقد كان معنى أن يقول "لا" أن يضحي بحضارة مصر وحكمتها،وغناها، ومجدها. وأن يقبل حياة العبودية، والمرارة التي عاشها شعبه الذليل. ومع علمه بهذه التضحيات الغالية قال بإصرار رائع لكل ما أحاط به من إغراء للحياة السهلة الهنية المليئة بالتمتع "لا".

* ونلتقي في موكب هؤلاء العظماء بالملكة "وشتى" زوجة الملك أحشو يرش الذي ملك من الهند إلى كوش على مئة وسبع وعشرون كورة. وهذه المرأة العظيمة نساها الكثيرون.. لكنها كانت من العظمة بحيث قالت للملك زوجها "لا".. قالتها لأنها رفضت مهانة الجسد الأنثوي.

والقصة تبدأ بمهرجان يعده الملك احشو يرش في السنة الثالثة من ملكه لإظهار غنى مجد ملكه. وقد استمر هذا المهرجان مئة وثمانين يوماً.. وخلال المهرجان، وكانت الخمر عنصر أساسياً فيه، وشرب المدعوون بكثرة، سكر الملك وقال للذين يخدمون بين يديه "أن يأتوا بوشتى الملكة أمام الملك بتاج الملك ليرى الشعوب والرؤساء جمالها لأنها كانت حسن المنظر" (استير 1: 11) وأراد الملك السكران أن يستعرض جمال زوجته أمام السكارى.. وقالت الملكة وشتى "لا". "فأبت الملكة وشتى أن تأتى حسب أمر الملك عن يد الخصيان" (استير 1: 12) ودفعت لرفضها البطولي ثمناً فادحاً إذ خلعها الملك من ملكها.. لكن الله استخدم هذا الرفض العظيم ليفتح الطريق لأستير حتى تنقذ شعبها من يد هامان الذي يمكن أن نسميه "أدولف هتلر" ذلك الزمان.

*وقد مر بنا في موكب القائلين "لا" دانيال، الذي "جعل في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه فطلب من رئيس الخصيان أن لا يتنجس" (دانيال 1: 8).

لقد قال الرجال الثلاثة شدرخ وميشخ وعبدنغو "لا" للملك نبوخذ نصر، فما هي العناصر التي أعطتهم الشجاعة ليقولوا "لا" في هذا الموقف العصيب؟

* كان أول عنصر وراء شجاعتهم التي يجب أن تكون صفة كل مؤمن بالرب يسوع هو معرفته اليقينية لوصية الله وتصديقها، وعزمهم على طاعتها مهما كلفهم الأمر.

ولقد عرفوا أن وصية الله يقول " أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن. لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي. وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي" (خروج 20: 1- 6).وقرر الرجال الثلاثة طاعة هذه الوصية، ورفضوا أمر الملك نبوخذ نصر.

*وكان العنصر الثاني وراء شجاعتهم هو أنهم قالوا "لا" في موقف سابق أقل خطراً من هذا الموقف الصعب. قالوا "لا" لأطايب الملك ولخمر مشروبه لأنهم عرفوا أن هذه الأطايب كانت من تقدمات الأوثان ولم يريدون أن يكونوا شركاء شياطين (دانيال 1: 8- 16) فكان من السهل أن يقولوا "لا" أمام الأمر بالسجود للصنم الذهبي .. ومن يعرف أن يقول "لا" للتجارب الصغيرة سيقول "لا" للتجارب الكبيرة.

*وكان العنصر الثالث وراء شجاعتهم هو عبادتهم القلبية للإله الحي. لقد قالوا للملك نبوخذ نصر "هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده" (دانيال 3: 17) وحين يعيش المؤمن في شركة قوية مع الله فلن يخشى وجوه الطغاة. وهنا نجد في كلمات هؤلاء الرجال كلمة جديرة بالتأمل "هوذا يوجد إلهنا".. فالله بالنسبة لشدرخ وميشخ وعبدنغو لم يكن إلهاً بعيداً، جالساً على عرشه في السماء وحوله ملائكته.. لا يعبأ ولا يفكر في الساكنين على الأرض. بل كان هذا الإله القوي القادر هو "إلههم" "هوذا يوجد إلهنا".. هو صاحب السيطرة الكاملة على حياتنا لأنه "إلهنا".. القريب منا.. العارف ظروفنا.. الذي به نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال 17: 27- 28).

والحياة بإحساس قرب الله تعطي للمؤمن شجاعة غير عادية.. لقد كان سر القوة في حياة إيليا النبي هو وقوفه الدائم في حضرة الرب. أسمعه مرة يقول "حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه" (1 ملوك 17: 1) ثم يقول في مناسبة أخرى "حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (1 ملوك 18: 15) لقد وقف في حضرة الرب، وتلذذ بوقفته فاستمر واقفاً في محضره، ومن هنا كان سر شجاعته وتحدياته للملك آخاب ولأنبياء البعل.

* وكان العنصر الرابع وراء شجاعتهم هو معرفتهم اليقينية بطبيعة إلههم " بدء الحكمة مخافة الرب ومعرفة القدوس فهم" (أمثال 9: 10). لقد عرفوا أن الله قدوس منفصل عن الشر، وأنه إله غيور لا يقبل أن يشاركه أحد في مجده.

لم يطلب الملك نبوخذ نصر من هؤلاء الرجال أن يكفوا عن عبادة إلههم كل ما طلبه هو أن يعبدوا مع إلههم آلهته ويسجدو لتمثال الذهب الذي نصبه.

لكن الرجال الثلاثة كانوا يعرفون جيداً أسفار العهد القديم وبغير شك أنهم تذكروا ما قرأوه في سفر صموئيل الأول حين انتصر الفلسطينيون على العبرانيين وأخذوا منهم تابوت الله وأدخلوه إلى بيت داجون إلههم وأقاموا بقرب داجون ظانين أن الإله الحي الحقيقي لا يمانع أن يكون في مكان واحد مع الأصنام.. لكن الإله القدوس ساكن السماء لا يسكن مع الأوثان "وبكر الأشدوديون في الغد وإذا بداجون ساقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب. فأخذوا داجون وأقاموه في مكانه. وبكروا صباحاً في الغد وإذا بداجون ساقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب. ورأس داجون ويداه مقطوعة على العتبة. بقي بدن السمكة فقط" (1 صموئيل 5: 1- 4).

ولقد عرف شدرخ وميشخ وعبدنغو أنه لا يمكنهم أن يعبدوا مع الله التمثال الذهبي الذي نصبه نبوخذ نصر. عرفوا أن قلب المؤمن يختلف عن قلب الأثيم، فقلب المؤمن قصر ملكي يسكنه الروح القدس، أما قلب الأثيم فهو فندق مفتوح على مصراعيه لكل الآلهة الغريبة. ورفضوا السجود للتمثال.

*وكان العنصر الخامس لشجاعتهم وتحديهم لأمر الملك هو استعدادهم للموت في طاعة إلههم عن الحياة في عصيانه. قالوا للملك نبوخذ نصر "يا نبةخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر. هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك. وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك  أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" (دانيال 3: 16- 18) وكلمة "وإلا" مترجمة في الانجليزية "But if not" ومعناها "حتى إذا لم ينقذنا" " فليكن معلوماً لك أيها الملك  أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته".

لقد كانوا مستعدين للموت في طاعتهم لكلمة الرب وولائهم الكامل لشخصه، وكان هذا الاستعداد هو سر قوتهم ونصرتهم، كما يقول يوحنا الرسول عن الذين غلبوا الشيطان "وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت" 0رؤيا 12: 11).

يحتفظ لنا التاريخ بقصة حدثت في حياة يوحنا الذهبي الفم "John Chrysostom " كان هذا الرجل أحد الآباء العظماء في الكنيسة اليونانية، ولقد ولد سنة 347 ميلادية. وأحضروه أمام الإمبراطور في شبابه الباكر ليعطي جواباً عن إيمانه بالمسيح.

قال الإمبراطور ليوحنا ذهبي الفم: "إذا أصررت على إيمانك بالمسيح فسأنفيك من أرض أبيك".

أجاب الذهبي الفم "يا صاحب الجلالة، ليس في قدرتك أن تفعل هذا لأن العالم كله هو أرض أبي".

          قال الإمبراطور: "إذاً فسآخذ منك كل ممتلكاتك". أجاب يوحنا كريستم "ولن تستطيع ذلك أيضاً. لأن كنوزي كلها في السماء".

          قال الإمبراطور: "إذاً سأرسلك إلى مكان لن تجد فيه صديقاً تتحدث إليه".

          أجاب كريستم: "لن تستطيع هذا لأن لي صديق ألزق من الأخ، سيكون يسوع صديقي وفادي معي على الدوام".

          قال الإمبراطور: "سأحكم عليك بالإعدام.. سأحرمك الحياة".

قال كريستم: "وهذا أيضاً لن تستطيعه. لأن حياتي مستترة مع المسيح في الله".

بهذا الاستعداد للموت في طاعة الله غلب الغالبون.

         *وكان العنصر السادس وراء شجاعتهم هو وضع القوة الزمنية الحاكمة في مكانها الصحيح. إن على المؤمن أن يخضع للسلطة الزمنية "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة. لأنه ليس سلطاناً إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" (رومية 13: 1- 2) لكن حين يأمر "السلطان" أمراً يضاد مشيئة الله المعلنة في كلمته فهنا توضع سلطة الله فوق سلطة الإنسان.

لما أمر المجلس اليهودي الذي انعقد في أورشليم الرسولين بطرس ويوحنا "أن لا ينطقا البتة ولا يعلما باسم يسوع" (أعمال 4: 18) أجابهم بطرس ويوحنا وقالا "إن كان حقاً أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فاحكموا" (أعمال 4: 19).

وفي مناسبة أخرى أجاب بطرس والرسل المجمع اليهودي وقالوا "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أعمال 5: 29).

هذا هو المبدأ الذي أعطى الشجاعة للرجال الثلاثة، سلطة الله فوق سلطة الناس.

* العنصر السابع وراء شجاعة هؤلاء الرجال هو الإيمان في قدرة الله. تركت هذا العنصر إلى النهاية لأنه وراء كل العناصر السابقة، فالإيمان هو العنصر الفعال في حياة النصرة. ويتحدث كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن هذا العنصر الذي منه تنسج كل العناصر فيقول "وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود والأنبياء. الذين بالإيمان قهروا ممالك. أطفأوا قوة النار" (عبرانيين 11: 32- 34).

لقد آمن هؤلاء الرجال بأن إلههم الحي يستطيع أن ينجيهم من أتون النار المتقدة وأن ينقذهم من يد الملك.

أثار هذا التحدي العلني الجريء غيظ الملك.

"حينئذ امتلأ نبوخذ نصر غيظاً وتغير منظر وجهه على شدرخ وميشخ وعبدنغو فأجاب وأمر بأن يحموا الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتاداً أن يحمي وأمر جبابرة القوة في جيشه بأن يوثقوا شدرخ وميشخ وعبدنغو ويلقوهم في أتون النار المتقدة. ثم أوثق هؤلاء الرجال في سراويلهم وأقمصتهم وأرديتهم ولباسهم وألقوا في وسط النار المتقدة. ومن حيث إن كلمة الملك شديدة والأتون قد حمي جداً قتل لهيب النار الرجال الذين رفعوا شدرخ وميشخ وعبدنغو. وهؤلاء الثلاثة الرجال شدرخ وميشخ وعبدنغو سقطوا موثقين في وسط أتون النار" (دانيال 3: 19- 23).

ظهر شر الملك نبوخذ نصر واضحاً في الأمر الذي أصدره بأن يحمي الأتون سبعة أضعاف.. فالأتون المحمي على أي مستوى كان كفيلاً بحرق الرجال الثلاثة وتحويل أجسادهم إلى رماد.. لكنه الغيظ البشري، وحب الانتقام ممن يتحدون سلطتننا البشرية.

ولقد خسر الملك بإصدار هذا الأمر، خسر جبابرة القوة في جيشه لأنه "من حيث إن كلمة الملك شديدة والأتون قد حمي جداً قتل لهيب النار الرجال الذين رفعوا شدرخ وميشخ وعبدنغو" (دانيال 3: 22).

والعالم دائماً هو الخاسر حين يحاول التخلص من أولاد الله بغضب وغيظ.

الزائر السماوي
الصفحة
  • عدد الزيارات: 24579