Skip to main content

الفصل الخامس - نهاية الإمبراطورية البابلية

خطر ببالي عدة عناوين لهذا الفصل، كان من الممكن أن يكون العنوان "نهاية الاستهتار الملكي"، وكان من الممكن أن يكون "ملك في موازين الله"، وكان من الممكن أن يكون "اليد الكاتبة على الحائط" ولكنني فضلت أخيراً أن يكون "نهاية الإمبراطورية البابلية" لأن هذا العنوان يتفق مع المسيرة النبوية للسفر.

يقدم الإصحاح الخامس من سفر دانيال حادثاً تاريخياً كما يقدم حديثاً نبوياً. أما الحادث التاريخي فهو المشهد الذي انتهت به الإمبراطورية البابلية وحلت محلها الإمبراطورية الفارسية المادية. وأما الحديث النبوي فهو أن هذه النهاية التي وصلت إليها بابل القديمة ستكون حتماً نهاية بابل الدينية، وبابل المدينة.

في بابل القديمة نور كيف ارتبطت الخطايا الجسدية بالعبادات الوثنية "كانوا يشربون الخمر ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجر" (دانيال 5: 4). وفي بابل الدينية نجد ذات الارتباط بين ما يسمونه عبادة الله وبين الخطايا الجسدية الشريرة، فبابل الدينية نراها في سفر رؤيا يوحنا الإصحاح السابع عشر "متسربلة بأرجوان وقرمز ومتحلية بذهب وحجارة كريمة ولؤلؤ ومعها كأس من ذهب في يدها مملوءة رجاسات ونجاسات زناها" (رؤيا 17: 4). في بابل القديمة كان الناس يسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب، وفي بابل الدينية نرى أن الناس "لم يتوبوا عن أعمال أيديهم حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب" (رؤيا 9: 20). وبابل المدينة القديمة سقطت فجأة (دانيال 5: 30 و 31) وبابل المدينة الحديثة ستسقط فجأة "من أجل ذلك في يوم واحد ستأتي ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي يدينها قوي.. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية. لأنه في ساعة واحدة جاءت دينونتك" (رؤيا 18: 8 و 10). ويصف يوحنا الرائي سقوط بابل الفجائي بكلماته "ورفع ملاك واحد قوي حجراً كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً هكذا بدفع سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد في ما بعد" (رؤيا 18: 21)

الكنيسة في هذا العصر تسير بسرعة مذهلة نحو التنظيم البابلي، حيث تتوحد الطوائف المسيحية في كنيسة واحدة تتحد مع الديانات العالمية بحجة أو هذا هو الطريق إلى السلام العالمي.

وفي بابل الدينية ترتكب أبشع وأفظع الخطايا. وفي بابل المدينة نجد التجارة في أجساد ونفوس الناس (رؤيا 18: 13)

وستنتهي بابل الدينية، وبابل المدينة كما انتهت بابل القديمة.

والملك الذي جاءت على يديه نهاية بابل القديمة "بيلشاصر"، هو رمز للحاكم العالمي القادم الذي ستأتي على يديه نهاية بابل الحديثة سواء كانت بابل الدينية أو بابل المدينة. فبيلشاصر الملك استهان بآنية بيت الله، والحاكم العالمي القادم سيكون "المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهاً أو معبوداً" (2 تسالونيكي 2: 9) والذي سيعطيه الشيطان "قدرته وعرشه وسلطاناً عظيماً" (رؤيا 13: 2).. سيكون أن "الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه" (2 تسالونيكي 2: 8)

وهكذا نرى أن الحادث التاريخي كان رمزاً لإتمام الحديث النبوي في نهاية الأيام.

والآن إلى تفسير الإصحاح الخامس من سفر دانيال.


الخطايا الملكية

"بيلشاصر الملك صنع وليمة عظيمة لعظائمه الألف وشرب خمراً قدام الألف. وإذ كان بيلشاصر يذوق الخمر أمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذ نصر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم ليشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه. حينئذ أحضروا آنية الذهب التي أخرجت من هيكل بيت الله الذي في أورشليم وشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه. كانوا يشربون الخمر ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجر" (دانيال 5: 1 - 4)

بيلشاصر الملك ومعنى اسمه "ليحفظ بيل الملك" هو ابن الملك نبونيدس Nabonidus، وقد جعله أبوه شريكاً له في الملك ما بين سنة 556 – 539 قبل الميلاد. وكان بيلشاصر حفيداً للملك نبوخذ نصر، ويرجح المؤرخون أنه كان شريكاً له في الملك. ويتفق التاريخ البابلي مع التاريخ الكتابي، فعندما أدخل دانيال إلى قدام الملك بيلشاصر ليقرأ الكتابة التي كتبتها اليد الكاتبة قال له الملك "فإن استطعت الآن أن تقرأ الكتابة وتعرفني بتفسيرها فتلبس الأرجوان (الرداء الملكي) وقلادة من ذهب في عنقك وتتسلط ثالثاً في المملكة" (دانيال 5: 16) كان نبونيدس هو الأول، وبيلشاصر هو الثاني، وكان الوعد الملكي أن يكون دانيال هو الحاكم الثالث في المملكة.

لا نعلم لأية مناسبة صنع بيلشاصر الملك هذه الوليمة العظيمة. لعل المناسبة كانت عيد ميلاده.. أو لعلها كانت عيد جلوسه على العرش، أو ذكرى انتصاره في معركة شهيرة.. كيفما كانت المناسبة فقد صنع الملك هذه الوليمة لعظائمه الألف. وخلال هذه الوليمة العظيمة ارتكب بيلشاصر عدة خطايا.


خطة تدنيس الأواني المقدسة الهيكلية

"وإذ كان بيلشاصر يوق الخمر أمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذ نصر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم ليشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه. حينئذ أحضروا آنية الذهب التي أخرجت من هيكل الله الذي في أورشليم وشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه" (دانيال 5: 2 و 3)

لقد رأينا في الإصحاح الأول كيف ذهب الملك نبوخذ نصر إلى أورشليم وحاصرها. ولم تكن قوته العسكرية هي التي أعطته النصر، بل كان الرب سيد الأرض كلها هو الذي سلم لنبوخذ نصر يهو ياقيم وبعض آنية بيت الله.

"وسلم الرب بيده يهو ياقيم ملك يهوذا مع بعض آنية بيت الله فجاء بها إلى أرض شنعار إلى بيت إلهه وأدخل الآنية إلى خزانة بيت إلهه" (دانيال 1: 2)

هذه الآنية كانت آنية مقدسة. بمعنى أنها كانت مخصصة بالكلية للاستخدام في بيت الله. ولكن بيلشاصر في كبرياء قلبه تحدى الإله الحي، واستهان بآنيته المقدسة فأمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذ نصر أبوه من الهيكل ليشرب بها الخمر في وليمته الماجنة. وكان استخدام آنية بيت الله في هذه الوليمة الدنسة تعظماً على رب السماء كما قال دانيال للملك بيلشاصر "بل تعظمت على رب السماء فأحضروا قدامك آنية بيته وأنت وعظماؤك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر وسبحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده" (دانيال 5: 23)

وهنا يجدر بنا أن نذكر أن جسد المؤمن هو آنية مقدسة لخدمة الرب.

"أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله" (1كورنثوس 6: 19 و 20)

وأن من يدنس هذا الجسد بالزنا أ, بالخمر يعرض نفسه للوقوع تحت يد التأديب الإلهي "مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي" (عبرانيين 10: 31)

"أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو" (1 كورنثوس 2: 16 و 17)

ولقد دنس أحد المؤمنين في كنيسة كورنثوس جسده بالزنى مع امرأة أبيه، وحكم عليه بولس الرسول قائلاً "قد حكمت.. باسم ربنا يسوع المسيح.. أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كورنثوس 5: 3 - 5)

إ، على المؤمن أن يحفظ نفسه طاهراً لكي يستخدمه الرب حسب إرادته كما يقول بولس لتيموتاوس "ولكن في بين كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضاً وتلك للكرامة وهذه للهوان. فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح" (2 تميوثاوس 2: 20 و 21)

وكما أن حياة القداسة، أي حياة الانفصال عن الشر، والتكريس الكامل للرب هي شرط لجعل المؤمن مستعداً لكل عمل صالح، كذلك معرفة الكتاب المقدس ودرسه وفهمه والتشبع بحقائقه ومعانيه يجعل المؤمن متأهباً لكل عمل صالح كما قال بولس لتيموثاوس أيضاً "وأما أنت فاثبت على ما تعلمت وأيقنت عارفاً ممن تعلمت. وأنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عم لصالح" (2 تيموثاوس 3: 14 - 17)

لقد استهان الملك بيلشاصر بالله ودنّس آنية بيته.


خطية تسبيح الآلهة الوثنية

"كانوا يشربون الخمر ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجر" (دانيال 5: 24)

هنا وصل الملك وعظماؤه إلى قمة الحماقة الإنسانية، إذ بدأوا يسبحون أي يحمدون ويباركون آلهة الذهب والفضة والنحاس.. وقد وصفها دانيال للملك بيلشاصر بأنها "لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف" (دانيال 5: 23)

والإنسان في حماقته يصنع من ممتلكاته أصناماً يتعبد لها كما يقول الرب في سفر هوشع "صنعوا لأنفسهم من فضتهم وذهبهم أصناماً" (هوشع 8: 3) الناس يتعبدون ويسجدون لآلهة المال "الذهب والفضة". ولآلهة القوة "النحاس والحديد". ولآلهة الممتلكات "الخشب والحجر".

وفي الضيقة العظيمة ورغم الضربات التي سيضرب بها الله الأرض خلال الضيقة فإن الناس لن "يتوبوا عن أعمال أيديهم حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب التي لا تستطيع أن تبصر ولا تسمع ولا تمشي" (رؤيا 9: 20)

أليس من الحماقة أن يصنع الإنسان بيديه الإله الذي يعبده: فيعبد صناعة يديه بدلاً من أن يعبد صانعه؟

هذه هي خطية بيلشاصر الثانية التي جلبت عليه القضاء الإلهي. (اقرأ رومية 1: 8 - 25)


خطية الانغماس في الشهوات الجسدية

"حينئذ أحضروا آنية الذهب التي أخرجت من هيكل بيت الله الذي في أورشليم وشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه" (دانيال 5: 3)

"كانوا يشربون الخمر" (دانيال 5: 4)

الوليمة إذاً كانت وليمة خمر ونساء.

وحين تجتمع الخمر مع النساء فهناك الانغماس الكامل في شهوات الجسد.

"الخمر مستهزئة. المسكر عجاج ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أمثال 20: 1)

"لا تكن بين شريبي الخمر بين المتلفين أجسادهم. لأن السكير والمسرف يفتقران والنوم يكسو الخرق" (أمثال 23: 20)

"لمن الويل لمن الشقاوة لمن المخاصمات لمن الكرب لمن الجروح بلا سبب لمن ازمهرار العينين. للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة. في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان. عيناك تنظران الأجنبيات وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضجع في قلب البحر أو كمضجع على رأس سارية. يقول ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأوني ولم أعرف. متى أستيقظ. أعود أطلبها بعد" (أمثال 23: 29 - 35)

هذا بعض ما تفعله الخمر.

فالخمر والمجون صنوان لا يقترفان. لذلك أوصى بولس الرسول القديسين في أفسس قائلاً "ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح" (أفسس 5: 18). وعلّمت أم لموئيل ملك ابنها الملك قائلة "ليس للملوك يا لموئيل ليس للملوك أن يشربوا خمراً ولا للعظماء المسكر. لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيروا حجة كل بني المذلة" (أمثال 31: 4 و 5)

لكن بيلشاصر الملك شرب الخمر هو وعظماؤه وزوجاته وسراريه، وصارت الوليمة مسرحاً لكل نجاسة ودنس وفسق وفجور.


خطية تجاهل الإنذارات الإلهية

قبل أن يقرأ دانيال الكتابة التي كتبتها اليد الكاتبة على مكلس حائط قصر الملك قال له "أنت أيها الملك فالله العلي أعطى أباك نبوخذ نصر ملكوتاً وعظمة وجلالاً وبهاء. وللعظمة التي أعطاه ئغياها كانت ترتعد وتفزع قدامه جميع الشعوب والأمم والألسنة. فأيا شاء استحيا وأيا شاء رفع وأيا شاء وضع. فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبراً انحط عن كرسي ملكه ونزعوا عنه جلاله. وطرد من بين الناس وتساوى قلبه بالحبوان وكانت سكناه مع الحمير الوحشية فأطعموه العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء حتى علم أن الله العلي سلطان في مملكة الناس وأنه يقيم عليها من يشاء. وأنت يا بيلشاصر ابنه لم تضع قلبك مع أنك عرفت كل هذا. بل تعظمت على رب السماء فأحضروا قدامك آنية بيته وأنت وعظماؤك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر وسبحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده. حينئذ أرسل من قلبه طرف اليد فكتبت هذه الكتابة" (دانيال 5: 18 - 24)

ارتكب بيلشاصر خطية رابعة، هي خطية تجاهل ونسيان الإنذارات الإلهية.. لقد تعامل الله مع جده الأكبر نبوخذ نصر ودانيال يقول عنه "أباك نبوخذ نصر"، تماماً كما قال اليهود للمسيح "أبونا هو إبراهيم" (يوحنا 8: 39).. تعامل الله مع نبوخذ نصر فأذل عظمة كبريائه، حتى علم أن الله العلي "The Most High" سلطان في مملكة الناس وكان يجب على بيلشاصر أن يحفظ هذا الدرس القاسي في قلبه، وأن يسلك بتواضع مع الله، ولكنه تجاهل معاملات الله مع جده نبوخذ نصر مع أنه عرفها بتفاصيلها، وتعظم على رب السماء، واستهان بآنية بيته المقدسة واستخدمها في مجونه.. ولذا كان لا بد أن يوقع الله عليه قضاءه الشديد.

"وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيراً" (لوقا 12: 47)

إن كل إنسان مسئول أن يتعلم من معاملات الله مع الآخرين. فإذا تجاهل هذه الإنذارات وحسب أنه بمأمن من القضاء الإلهي "يضرب كثيراً".

هذه هي الخطايا الملكية، الخطايا التي يسببها تعرض بيلشاصر لقضاء الله المخيف.. خطية تدنيس الأواني المقدسة الهيكلية.. خطية تسبيح الآلهة الوثنية.. خطية الانغماس في الشهوات الجسدية.. خطية تجاهل الإنذارات الإلهية.


الموازين الإلهية

"في تلك الساعة ظهرت أصابع يد إنسان وكتبت بإزاء النبراس على مكلس حائط قصرالملك والملك ينظر طرف اليد الكاتبة. حينئذ تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره وانحلت خرز حقويه واصطكت ركبتاه.. وهذه هي الكتابة منا منا تقيل وفرسين.. تقيل وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً" (دانيال 5: 5 و 6 و 25 و 26)

"في تلك الساعة".. ساعة الاستهانة بالله وبآنية بيته.

"في تلك الساعة".. ساعة احتساء الخمر والخضوع لتأثيرها. الساعة التي فيها حركت الخمر الحيوان الكامل في الإنسان، وبدأ كل عظيم يراقص امرأة عارية أ, تكاد.. وانتزعت قوانين الحياء.. وتدانى فيها الملك تحت سلطان الخمر فصار كأحد السفهاء..

"في تلك الساعة".. في وسط الموسيقى الصاخبة، والكؤوس تدور فتدير الرؤوس.. والبهجة في دور اكتمالها.. والمكان يتلألأ بالأنوار وتفوح منه رائحة الزهور.

"في تلك الساعة ظهرت أصابع يد إنسان" (دانيال 5: 5)

يد من هذه اليد الإنسانية

هل هي يد ملاك أرسله الله ليكتب قضاءه الأخير على الملك بيلشاصر؟

أم هي يد المسيح سجلت قضاءه على ذلك الملك الشرير؟ في اعتقادي أنها يد الرب يسوع المسيح.. فالدينونة والقضاء له "لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن. لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (يوحنا 5: 22 و 23)

هذه اليد الإنسانية الكاتبة هي إذاً يد الرب يسوع المسيح "الرب الديان العادل" (2 تيموثاوس 4: 8). وقد سجلت هذه اليد كلماتها النارية.

"وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً" (دانيال 5: 27)

وكل إنسان عاش على أرضنا لا بد أن يوزن بموازين الله. والرب يزن كل دوائر حياة الإنسان.

فو يزن روح الإنسان.

"كل طرق الإنسان نقية في عيني نفسه. والرب وازن الأرواح" (أمثال 16: 20)

وهو يزن قلب الإنسان.

"كل طرق الإنسان مستقيمة في عينيه والرب وازن القلوب" (أمثال 21: 2)

"أنقذ المنقادين إلى الموت والممدودين للقتل. لا تمتنع. إن قلت هوذا لم نعرف هذا. أفلا يفهم وازن القلوب.. فيرد على الإنسان مثل عمله" (أمثال 24: 11 و 12).

وهو يزن طرق الإنسان.

"لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وه يزن كل سبله" (أمثال 5: 21)

إن الله يزن روح الإنسان ليظهر له مدى إخلاصه في عبادته، فالروح هي مركز عبادة الله (رومية 1: 9). ويزن قلب الإنسان ليعلن له ما فيه من ميول، ومشاعر، ودوافع. (مزمور 139: 23 و 24). وهو يزن طرق الإنسان ليريه مدى البعد بينها وبين طرقه. (أشعياء 55: 8 و 9)

ولا بد أن يأتي اليوم الذي فيه يعلن على الملأ نتيجة الوزن، هذا اليوم سيكون رهيباًً، كتب بولس الرسول عنه يقول "إذاً لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله" (1 كورنثوس 4: 5).

وطوبى للإنسان الذي يعرف فكر الله عنه قبل يوم الحساب. هذا الإنسان هو الذي يرفع صلاته لله قائلاً مع داود "اختبرني يا الله وأعرف قلبي امتحني وأعرف أفكاري. وانظر إن كان في طريق باطل وأهدني طريقاً أبدياً" (مزمور 139: 23 و 24).

وزن الله كل دوائر حياة الملك بيلشاصر.. لكن السؤال هو: بأي موازين وزن الله حياة بيلشاصر؟

وزن الله حياة بيلشاصر في ميزان الحق.

قال أيوب "ليزني في ميزان الحق فيعرف الله كمالي" (أيوب 31: 6) وميزان الحق هو ميزات كلمة الله "قدسهم في حقك. كلامك هو حق" (يوحنا 17: 17)

فحياة كل إنسان ستوزن بهذا الميزان "في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح" (رومية 2: 16). "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته. وليست خليقة غير ظاهرة قدامه بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا" (عبرانيين 4: 12 و 13)

ولأن الرب سيزن كل إنسان في ميزان كلمته الموحى بها في كتابه الكريم، لذلك فمن واجبك أ، تقرأ هذا الكتاب المقدس، وأن تعرف حقائقه، وأن تدرس نصوصه، وأن تتشبع بمحتوياته، وأن تطبقه على حياتك. لأنه أحد الموازين التي سيزنك الله بها.


وزن الله حياة بيلشاصر في ميزان الحب.

والحب أنواع.. هناك الحب الشهواني الذي يهدف إلى التمتع بجسد المحبوب. وهناك الحب الإنساني، حب الأصدقاء والخلان.. وهناك الحب الإلهي الحب الذي مصدره الروح القدس في حياة المؤمن "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رومية 5: 5)

هذا الحب الأخير هو الحب الذي يطلبه الله من كل واحد.. هو الحب الذي وصفه بولس في إصحاحه العظيم في رسالته للكورنثيين.

"المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تننتفخ ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء. ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق. وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبداً" (1 كورنثوس 13: 4 - 8)

فالحب الذي مصدره الروح القدس يتأنى ويرفق، ولا يحسد، ولا يتفاخر ولا ينتفخ، ولا يقبح، ولا يطلب ما لنفسه فهو ليس حباً أنانياً نفسانياً، ولا يحتد، ولا يظن السوء، ولا يفرح بالإثم فهو يتألم حين يرى الإثم منتشراً، بل يفرح بالحق.. إنه حب يحتمل كل شيء.. ويصدق كل شيء.. ويرجو كل شيء.. ويصبر على كل شيء.. إنه حب أبدي "لأن الله محبة"

ومن يقف أمام ميزان الحب؟

لقد وزن الله بيلشاصر الملك في الميزان، وأعلن له نتيجة وزنه "وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً"

وزن الله حياة بيلشاصر في ميزان الاحتمال.

وأعني بميزان الاحتمال.. احتمال النجاح، واحتمال الفشل وقد وجد ناقصاً في الدائرتين.

ففي دائرة النجاح قاده النجاح إلى التعظم على رب السماء. تماماً كما حدث مع عزيا الملك الذي نقرأ عنه "وفي أيام طلبه الرب أنجحه الله.. وامتد اسمه إلى بعيد إذ عجبت مساعدته حتى تشدد. ولما تشدد ارتفع قلبه إلى الهلاك وخان الرب إلهه" (2 أخبار 26: 5 و 15 و 16).

أجل تعاظم بيلشاصر على رب السماء ودنّس في كبرياء قلبه آنية بيت الله.

وفي دائرة الفشل ارتعب أمام طرف اليد الكاتبة.

والتجارب قد تحرقك فتحولك إلى رماد. والتجارب قد تثير شكوكك فتحولك إلى ملحد.

والتجارب قد تصقلك وتزيل زغل حياتك فتحولك إلى سراج موقد.

لقد حذّر موسى الشعب القديم من تجارب النجاح فقال "لأن الرب إلهك آت بك إلى أرض جيدة أرض أنهار من عيون وغمار تنبع في البقاع والجبال. أرض حنطة وشعير وكرم تين ورمان. أرض زيتون زيت وعسل. أرض ليس بالمسكنة تأكل فيها خبزاً ولا يعوزك فيها شيء. أرض حجارتها حديد ومن جبالها تحفر نحاساً. فمتى أكلت وشبعت تبارك الرب إلهك لأجل الأرض الجيدة التي أعطاك. احترز من أن تنسى الرب إلهك.. لئلا إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتاً جيدة وسكنت يرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك" (تثنية 8: 7 - 18)


وزن الله حياة بيلشاصر في ميزان الحياة المقدسة

إن الله خلق الإنسان لمجده.. خلقه ليعيش حياة القداسة على الأرض إلى أن يلتقي به في المجد. والكثيرون نسوا أهمية حياة القداسة، مع أنها الحياة التي طالب بها الرب شعبه في العهدين القديم والجديد، وحياة القداسة تعني حياة انفصال عن النجاسة والشر وتخصيص الحياة بجملتها للرب.

يقول الرب لشعبه القديم "لا تدنسوا أنفسكم.. ولا تتنجسوا.. ولا تكونوا نجسين. إني أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأني أنا قدوس" (لاويين 11: 43 و 44) والقداسة هنا تعني الانفصال عن كل ما هو نجس، وهي قداسة رئيس كهنتنا المسيح "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (عبرانيين 7: 26).

ونقرأ في العهد الجديد هذه النصوص التي تطالبنا بحياة القداسة.

"لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة والإثم للإثم هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيداً للبر للقداسة" (رومية 6: 19)

"فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة في خوف الله" (2 كورنثوس 7: 1)

"لأن هذه هي إرادة الله قداستكم. أن تمتنعوا عن الزنا. أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إناءه بقداسة وكرامة. لا في هوى شهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله" (1 تسالونيكي 4: 3 - 5)

"اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14)

لقد وزن الله بيلشاصر الملك في ميزان الحق، وفي ميزان الحب، وفي ميزان الاحتمال، وفي ميزان الحياة المقدسة، وأعلن نتيجة الوزن.. لقد كان ناقصاً في حبه، وفي احتماله، وفي قداسة حياته.

"وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً"

والآن تعال معي لنلق نظرة على الملك بيلشاصر وهو ينظر طرف اليد التي سجلت قضاء الله عليه.

لقد تغيرت هيئة الملك.

وأفزعته أفكاره.

وانحلت خرز حقويه.

واصطكت ركبتاه.

ما أشد ضعف الإنسان حين يواجه قضاء الله.

إن الملحد قد يجدف على العلي

والمستهزئ قد يستهزئ بكلامه.

والمستهتر قد لا يخطر على باله يوم دينونته.

ولكن حين يواجه الإنسان الملحد، أو المستهزئ، أو المستهتر دينونة الله ستصطك ركبتاه.

أين جلال الملك بيلشاصر؟

أين الجيش الكلداني القوي ليحمي عرشك؟

ها هم عظماؤك الألف يحيطون بك فماذا فعلوا لك؟ إن عظمة الإنسان توضع في مواجهة دينونة الله، وسوف يأتي اليوم الذي فيه تتم بالحرف الكلمات التي سجلها يوحنا الرسول "ونظرت لما فتح الختم السادس وإذا زلزلة عظيمة حدثت والشمس صارت سوداء كمسح من شعر والقمر صار كالدم. ونجوم السماء سقطت إلى الأرض كما تطرح شجرة التين سقاطها إذا هزتها ريح عظيمة. والسماء انفلقت كدرج ملتف وكل جبل وجزيرة تزحزحا من موضعهما. وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبد وكل حر أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال. وهم يقولون للجبال والصخور اسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف. لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف" (رؤيا 6: 12 - 17)

هكذا ارتعب صاحب الجلالة الملكية عندما نظر أصابع اليد الإلهية.


الأحكام النهائية

عندما نظر الملك بيلشاصر طرف اليد الكاتبة "صرخ بشدة لإدخال السحرة والكلدانيين والمنجمين. فأجاب الملك وقال لحكماء بابل أي رجل يقرأ هذه الكتابة ويبين لي تفسيرها فإنه يلبّس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ويتسلط ثالثاً في المملكة. ثم دخل كل حكماء الملك فلم يستطيعوا أن يقرأوا الكتابة ولا أن يعرفوا الملك بتفسيرها"

يلجأ الإنسان في محنته إلى ما يؤمن به، وقد آمن بيلشاصر بسحرة مملكته وحكمائها، ومنجميها فلجأ إليهم ليقرأوا له الكتابة ويعرفوه بتفسيرها، لكنهم عجزوا عن قراءة الكتابة وبالتالي عن تعريف الملك بتفسيرها.

لقد قيل "لا يهم ما تؤمن به طالما كنت مخلصاً في إيمانك".. لكن الإخلاص وحده لا يكفي.. إن الوثنيين مخلصون جداً في عبادتهم لتماثيل أصنامهم، ولكن إخلاصهم لا يجعل هذه الأصنام التي لا تبصر ولا تسمع أن تفعل لهم خيراً أو شراً.

كان أنبياء البعل في أيام إيليا النبي مخلصين تماماً عندما دعوا إلههم ليستجيب لهم ويرسل النار على الذبيحة فوق جبل الكرمل. كانوا مخلصين لدرجة أنهم صرخوا بصوت عال وتقطعوا بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم، ولكن إخلاصهم الشديد لم ينفعهم، إذ لم يعطهم البعل جواباً لصلواتهم. (1 ملوك 18: 25 - 29)

الإخلاص في الإيمان لا يكفي، إذ يجب أن تؤمن بالإله الحي الحقيقي.

وهكذا أعلن حكماء بابل بكل فئاتهم عجزهم عن قراءة الكتابة.. لقد كانت الكتابة كتابة الله وليس قدرة أتباع الشيطان أن يفسروا أو يعرفوا كلمة الله.

"ففزع الملك بيلشاصر جداً وتغيرت فيه هيئته واضطرب عظماؤه. أما الملكة فلسبب كلام الملك وعظمائه دخلت بيت الوليمة فأجابت الملكة وقال أيها الملك عش إلى الأبد. لا تفزعك أفكارك ولا تتغير هيئتك. يوجد في مملكتك رجل فيه روح الآلهة القدوسين وفي أيام أبيك وجدت فيه نبرة وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة والملك نبوخذ نصر أبوك جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين. أبوك الملك. من حيث إن روحاً فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الأحلام وتبيين ألغاز وحل عقد وجدت في دانيال هذا الذي سماه الملك بلطشاصر. فليدع الآن دانيال فيبين التفسير.

حينئذ أدخل دانيال إلى قدام الملك. فأجاب الملك وقال لدانيال أأنت هو دانيال من بني يهوذا الذي جلبه أبي الملك من يهوذا. قد سمعت عنك أن فيك روح الآلهة وأن فيك نيرة وفطنة وحكمة فاضلة. والآن أدخل قدامي الحكماء والسحرة ليقرأوا هذه الكتابة ويعرفوني بتفسيرها فلم يستطيعوا أن يبينوا تفسير الكلام. وأنا قد سمعت عنك أنك تستطيع أن تفسر تفسيراً وتحل عقداً. فإن استطعت الآن أن تقرأ الكتابة وتعرفني بتفسيرها فتلبس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقك وتتسلط ثالثاً في المملكة" (دانيال 5: 9 - 16)

أولاد الله الأمناء بركة حيث يوجدون، فوجدهم يحول الفزع إلى هدوء، والخوف إلى ارتياح.. وهكذا كان وجود دانيال المؤمن الأمين بركة المملكة البابلية كلها.

وشهادة الملكة التي يبدو أنها لم تحضر الوليمة الماجنة بل دخلتها بعد أن عرفت بحالة الاضطراب والخوف والفزع التي سادتها عن دانيال ترينا تقدير الملكة الجديرة لدانيال فهي تصفه بأن فيه روح الله "روح الآلهة القدوسين" وبأن فيه نيرة أي نوراً، وفطنة أي فهماً، وحكمة أي قدرة على تطبيق معرفته في الحياة العملية، وأنه يستطيع تعبير الأحلام، وبأنه مع كل هذه الصفات به "روح فاضلة".

ها هو الملك يعرض عليه عطاياه أن "يلبّس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ويتسلط ثالثاً في المملكة" إذا استطاع قراءة الكتابة وتفسيرها.

لقد كانت الكتابة واضحة على مكلس حائط قصر الملك، وبقيت في مكانها.. وقرأ دانيال الكتابة وعرف لغة الله الذي يعبده.

إ، كتابة الله لا يفسرها أحد إلا إذا كان ممتلئاً بروح الله "هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1 كورنثوس 2: 11) فكلمة الله لا تعرف معانيها بالعقل البشري المجرد بل بنور الروح القدس المرشد.

"فأجاب دانيال وقال قدام الملك. لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري. لكني أقرأ الكتابة للملك وأعرفه بالتفسير. أنت أيها الملك فالله العلي أعطى أباك نبوخذ نصر ملكوتاً وعظمة وجلالاً وبهاء. وللعظمة التي أعطاه إياها كانت ترتعد وتفزع قدامه جميع الشعوب والأمم والألسنة. فأياً شاء قتل وأياً شاء استحيا وأياً شاء رفع وأياً شاء وضع. فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبراً انحط عن كرسي ملكه ونزعوا عنه جلاله. وطرد من بين الناس وتساوى قلبه بالحيوان وكانت سكناه مع الحمير الوحشية فأطعموه العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء حتى علم أن الله العلي سلطان في مملكة الناس وأنه يقيم عليها من يشاء وأنت يا بيلشاصر ابنه لم تضع قلبك مع أنك عرفت كل هذا، بل تعظمت على رب السماء فأحضروا قدامك آنية بيته وأنت وعظماؤك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر وسبحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده. حينئذ أرسل من قلبه طرف اليد فكتبت هذه الكتابة" (دانيال 5: 17 - 24)

ما أروع وأعظم دانيال في هذا الموقف التاريخي.. لقد رفض عطايا الملك "لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري" ثم بدأ بتوبيخ الملك على خطاياه.. ذكره بإذلال الله لأبيه نبوخذ نصر حين ارتفع قلبه وقست روحه.. وذكره بتوبة الملك نبوخذ نصر واعترافه الكامل بسيادة الله المطلقة. ثم وبخه على تجاهله ما عمله الله لأبيه الملك، أظهر له فظاعة خطيته، وتعظمه على رب السماء، واستخدام آنية بيته المقدسة في وليمته الماجنة، وأعلن له أن الله بيده نسمته، فهو يميت ويحيي يهبط إلى الهاوية ويصعد.. واختتم حديثه بالقول بسبب خطاياك الفظيعة أرسل الله في قلبه طرف اليد فكتبت هذه الكتابة. فهو إله قدوس وعادل وجبار وليس في قدرة أحد ان يتحداه.

"إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر. لأن فوق العالي عالياً يلاحظ والأعلى فوقهما" (جامعة 5: 8)

واستطرد دانيال يقول:

"وهذه هي الكتابة التي سطرت. منا منا  تقيل وفرسين. وهذا تفسير الكلام. منا أحصى الله ملكوتك أنهاه. تقيل وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً في قداسة حياته، وناقصاً في حبه، وناقصاً في عدله، وناقصاً في أدبياته، وناقصاً في احتماله، وبالإجمال ناقصاً في كل دوائر حياته.. وكان حكمه:

"أحصى الله ملكوتك وأنهاه"

ولكل واحد مملكته الخاصة، وحين يتحدى الإنسان الله، ويضرب بوصاياه عرض الحائط يحصي الله ملكوته وينهيه، ويسمعه كلمات داود القائلة:


"لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار.. لسانك يخترع مفاسد كموسى مسنونة يعمل بالغش. أحببت الشر أكثر من الخير. الكذب أكثر من التكلم بالصدق.. أحببت كل كلام مهلك ولسان غش. أيضاً يهدمك الله إلى الأبد. يخطفك ويقلعك من مسكنك ويستأصلك من أرض الأحياء.. فيرى الصديقون ويخافون وعليه يضحكون. هوذا الإنسان الذي لم يجعل الله حصنه بل اتكل على كثرة غناه واعتز بفساده" (مزمور 52: 1 - 7)

لقد أحصى الله حدود مملكة بيلشاصر.. أحصى غناه الموجود في خزائنه.. أحصى جيشه الكلداني القوي. أحصى كل ما ذخره آباؤه.. أحصى كل ما في ملكوته، وأنهاه.

صدر الحكم الإلهي بإنهاء الإمبراطورية البابلية.

وفي كل يوم يصدر الله أحكامه على المتكبرين، والمستهترين، والمتكلين على غناهم وثروتهم وقوتهم ومراكزهم.. وينهي حياتهم.

ضرب المسيح لسامعيه مثلاً قائلاً "إنسان غني أخصبت كورته. ففكر في نفسه قائلاً ماذا أعمل لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري. وقال أعمل هذا. أهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله يا غبي هذه  الليلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون. هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله" (لوقا 12: 16 - 21)

لقد كان هذا الرجل غنياً، وكان غبياً والفرق بين الاثنين نقطة تهبط إلى أسفل بدلاً إن كانت إلى أعلى.. وكان غبياً لأنه جعل نفسه "مركز الحياة".. وكان غبياً لأنه كان أنانياً. فقال "أثماري" "مخازني" "غلاتي" "خيراتي" "وأقول لنفسي" "استريحي وكلي واشربي وافرحي"

وكان غبياً لأنه خطط لحياته ومستقبله دون أن يعمل لله حساباً.

وكان غبياً لأنه خطط للمجهول الذي ليس له سلطان عليه "ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح ولا سلطان على يوم الموت" (8: 8)

وكان غبياًً لأنه ظن أن نفسه يمكن أن تحيا على الغلال مع أنه من الواضح أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (لوقا 12: 20)

هكذا أصدر الله حكمه بإنهاء ملك بيلشاصر

قسمت مملكتك وأعطيت لمادي وفارس

ما أدق كلمات النبوة.. لقد أعلن الله للملك نبوخذ نصر أنه بعد الرأس الذهبي الذي يرمز للإمبراطورية البابلية "تقوم مملكة أخرى أصغر منك" (دانيال 2: 39) وما قاله الله في النبوة لا بد أن يتم بكل دقة، فالله هو صاحب السيادة المطلقة والسلطان الكلي على التاريخ، هو الذي يعزل ملوكاً وينصب ملوكاً، هو المتسلط في مملكة الناس.

قرأ دانيال النبي للملك بيلشاصر الكتابة التي كتبتها اليد الكاتبة "حينئذ أمر بيلشاصر أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه وينادوا عليه أنه يكون متسلطاً ثالثاً في المملكة" (دانيال 5: 29)

هذا أمر ملكي من بيلشاصر الملك.. لكن ما قيمته؟ والملك سيقتل في ذات الليلة التي أصدر فيها أمره الكريم.

"لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره" (مزمور 146: 3)

"في تلك الليلة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين. فأخذ المملكة داريوس المادي وهو ابن اثنتين وستين سنة" (دانيال 5: 30 و 31)

بينما كان دانيال يفسر للملك بيلشاصر الكتابة كانت الجيوش المادية الفارسية تدخل مدينة بابل من قناة فتحتها تحت سور المدينة الضخم. اقتحم الجنود قاعة الوليمة وفي الحال اختلطت الخمر الحمراء بالدم الملكي البابلي.

في تلك الليلة قتل بيلشاصر على عرش أبيه

قتل بقضاء إلهي

ورقدت جثته على الأرض

بغير تاج وبغير صولجان

رقدت في رداء أرجواني.. كتلة من الطين

انتهت الإمبراطورية البابلية بعد أن امتلأ مكيال إثمها وتمت كلمات النبي إرميا التي قالها رب الجنود:

"إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض بقوتي العظيمة وبذراعي الممدودة وأعطيتها لمن حسن في عيني. والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نصر ملك بابل عبدي وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب وابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام" (إرميا 27: 5 - 7)

وها قد جاء وقت بابل وانتهى ملكوتها

وتظهر دقة النبوة في أنها حددت أن المملكة تقسم بين مادي وفارس – وقد حكمها الماديون لفترة قصيرة من الزمن ثم حكمها الفارسيون لوقت غير قليل.

وكما صدقت النبوة من المملكة البابلية، ستتم بدقة في كل ما قالته بخصوص المجيء الثاني للمسيح. اسهروا....

  • عدد الزيارات: 29578