Skip to main content

الفصل الحادي عشر - الملك المتعظم - أنتيوخوس أبيفانس ووقت النهاية

الصفحة 4 من 6: أنتيوخوس أبيفانس ووقت النهاية

أنتيوخوس أبيفانس ووقت النهاية

"فيقوم مكانه محتقر لم يجعلوا عليه فخر المملكة ويأتي بغتة ويمسك المملكة بالتملقات" (دانيال 11: 21).

ابتداء من هذا العدد نتقابل ثانية مع ذلك الحاكم الشرير "أنتيوخوس أبيفانس"، الذي هو "القرن الصغير" المذكور في الإصحاح الثامن. وعلينا أن نضع في أذهاننا أن النبوة في هذا الإصحاح لا تتحدث فقط عن أنتيوخوس أبيفانس، بل تتحدث عن المستقبل البعيد، وعن ظهور الوحش الطالع من البحر، الذي كان أنتيوخوس أبيفانس رمزاً باهتاً له. نقول هذا لأن الملاك الذي تحدث إلى دانيال في الرؤيا قال له "وجئت لأفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة لأن الرؤيا إلى أيام بعد" (دانيال 10: 14) ثم يعود فيقول "وبعض الفاهمين يعثرون امتحاناً لهم للتطهير وللتبييض إلى وقت النهاية. لأنه بعد إلى الميعاد" (11: 35) وأخيراً يقول "أما أنت يا دانيال فأخف الكلام واختم السفر إلى وقت النهاية. كثيرون يتصفحونه والمعرفة تزداد" (دانيال 12: 4).

فالرؤيا التي رآها بدأت بالإمبراطورية الفارسية، ثم بالإمبراطورية اليونانية ورأسها العظيم الاسكندر الأكبر، وبانقسام هذه الإمبراطورية إلى رياح السماء الأربع، وتركزت بعد ذلك في سوريا ومصر، على اعتبار أن سوريا يحكمها "ملك الشمال" وأن مصر يحكمها "ملك الجنوب" وأخيراً وصلت بنا إلى عصر "أنتيوخوس أبيفانس" الذي كان كما ذكرت رمزاً باهتاً للحاكم العالمي القادم، الوحش الطالع من البحر.

ونحن نرى أن هذا هو ترتيب النبوة في سفر دانيال، فهي تبدأ بالحديث عن الأحداث التي ستتم قريباً لكنها تنتقل وتتركز في أحداث وقت النهاية، الوقت الذي سيسبق المجيء الثاني للمسيح. وهذا واضح في الإصحاح السابع (دانيال 7: 8 - 27) ثم في الإصحاح الثامن (دانيال 8: 23 - 26)، ثم في الإصحاح التاسع (دانيال 9: 26 و 27) ثم في الإصحاح العاشر (دانيال 10: 14) ثم هنا في الإصحاح الحادي عشر (دانيال 11: 21 - 45).

"فيقوم مكانه محتقر لم يجعلوا عليه فخر المملكة ويأتي بغتة ويمسك المملكة بالتملقات" (دانيال 11: 21).

هذا "المحتقر" هو أنتيوخوس أبيفانس، ولم يكن من حقه الشرعي أن يرتقي العرش، لأن الملك كان يجب أن يعطي لابن الملك "سيلقوس فليوباتور Selecus Philopator" "ديمتريوس سوتر Demetrius Soter" بالوراثة، لكن أنتيوخوس قرر أن يأخذ المملكة لنفسه. وبالتملقات كسب المملكة واستسلم السوريون له بهدوء وسلام.

كان أنتيوخوس أبيفانس من الشخصيات التاريخية الغريبة ويصفه "ستيوارت" بالوصف التالي:

"كان طماعاً وكان ضالاً، وكان مفرطاً في انغماسه بالشهوات، كما كان سادياً يميل إلى تعذيب الآخرين، وكان مزيجاً من الحماقة الشديدة والضعف في كثير من نواحي شخصيته، كما كان يتميز بالدهاء والمهارة في نواحي أخرى وخاصة فيما يختص بالتملقات. في فترة من ملكه كان هناك احتمال أن يصل إلى قمة القوة، ولكن التيار تحول ضده، ومات في ظروف تشبه تلك التي مات فيها أبوه. ويقيناً أن وحشيته وحماقاته ستكون دائماً حديث التاريخ. ولقد أطلق على نفسه اسم "أبيفانوس Epiphanes" ومعناه "المجيد" بينما أطلق عليه معاصروه اسم "أبيمانس Epimanes" ومعناه "المجنون".

"وأذرع الجارف تجرف من قدامه وتنكسر وكذلك رئيس العهد" (دانيال 11: 22).

الأذرع في الكتاب المقدس تشير إلى القوة (خروج 6: 6، مزمور 136: 12، حزقيال 20: 23، خروج 15: 16، مزمور 77: 15) وأذرع الجارف هنا لا تشير إلى القوات التي حاولت استعادة الملك لابن سيلقوس، ولكنها تشير إلى القوات المصرية التي هزمها أنتيوخوس وهكذا "تجرف من قدامه" "وتنكسر" كمل تنكسر آنية الخزف. "وكذلك رئيس العهد" والكلمات تشير إلى رئيس كان له عهد مع أنتيوخوس. يقول بعض المفسرين أن هذا الرئيس هو "بطليموس فيلوميتور Ptolemy Philometor" الذي تحالف مع أنتيوخوس، ولكن هذا التفسير لا يصف العلاقة التي بين الاثنين، ولو كان هذا الرئيس هو بطليموس لأعطته النبوة اسمه "ملك الجنوب". ويقول مفسرون آخرون أن "رئيس العهد" هو "أونياس Onias" الكاهن اليهودي الذي عزله أنتيوخوس. ويبدو أن الرأي الثاني هو الأرجح، وأن العهد المذكور هو "عهد الله" مع شعبه القديم (دانيال 11: 28).

"ومن المعاهدة معه يعمل بالمكر ويصعد ويعظم بقوم قليل" (دانيال 11: 23)

يقول جيروم أن أنتيوخوس أظهر روح الصداقة للمصريين، وهكذا كسب قلوبهم إذ عاهدهم بالسلام، وكان ماكراً في خطته، وبهذا المكر السياسي صعد نجمه وعظم شأنه ووصل إلى مركز القوة، والقوم القليل المشار إليهم في النص هم المشايعون لأنتيوخوس والذين أيدوه في ملكه.

"يدخل بغتة على أسمن البلاد ويفعل ما لم يفعله آباؤه ولا آباء آبائه. يبذر بينهم نهباً وغنيمة وغنى ويفكر أفكاره على الحصون وذلك إلى حين" (دانيال 11: 24).

يقيم أنتيوخوس "بغتة" أي بدون سابق إنذار، والناس يظنون أنهم في طمأنينة وسلام ويدخل على أسمن البلاد أي أغناها، ويعمل عملاً لا يخطر على البال "لم يفعله آباؤه ولا آباء آبائه" "يبذر بينهم نهباً وغنيمة وغنى" فهو يدخل أسمن وأغنى البلاد والمقاطعات ويسلبها ثم يوزع النهب والغنيمة والغنى على الناس، وبهذا يخدعهم ويسلب قلوبهم، ويكسب حبهم. وبعد أن تنجح خطته في كسب عواطف رعاياه "يفكر أفكاره على الحصون" والحصون هنا هي حصون مصر التي فكر أنتيوخوس في غزوها.. واستمر تفكيره "إلى حين" أي إلى الوقت المحدد من الله.

الحملة ضد مصر (دانيال 11: 25 - 28)

"وينهض قوته وقلبه على ملك الجنوب بجيش عظيم وملك الجنوب يتهيج إلى الحرب بجيش عظيم وقوي جداً ولكنه لا يثبت لأنهم يدبرون عليه تدابير" (دانيال 11: 25)

يصور النص الحالة السياسية في الحقبة التي تمت فيها هذه النبوة، ومشاعر العداء بين ملك الشمال "أنتيوخوس أبيفانس" وملك الجنوب وهو على الأرجح "بطليموس فيلوميتور" التي سادت بين الملكين في ذلك الوقت. ومع أ ملك الجنوب واجه حملة الشمال بجيش عظيم وقوي جداً إلا أنه هزم بسبب خيانة أولئك الذين تظاهروا بمساعدته.

"والآكلون أطايبه يكسرونه وجيشه يسقط كثيرون قتلى" (دانيال 11: 26).

كان الذين خانوا ملك الجنوب هم الذين يأكلون أطايبه وقد كسروه بتدابيرهم التي دبروها ضده. ومع أن جيشه كان قوياً جداً، حارب ببسالة إذ اقتحم المعركة كالمياه الطامية الغامرة إلا أن كثيرين قد سقطوا قتلى وحاقت الهزيمة بملك الجنوب.

"وهذان الملكان قلبهما لفعل الشر ويتكلمان بالكذب على مائدة واحدة ولا ينجح لأن الانتهاء بعد إلى ميعاد" (دانيال 11: 27)

كان المؤتمر الذي عقد بين الملكين على غرار الكثير من المؤتمرات السياسية التي سجلها التاريخ، فقد قابل أنتيوخوس عدوه ملك الجنوب بمظاهر الود ولكنه تصرف ضد التقاليد الشرقية إذ كلمه بالكذب، وتظاهر ملك الجنوب بتصديق أنتيوخوس وهو يعلم أنه كاذب. وتفشل خطة الملكان، ولا ينجح كذبهما لأن وقت الله المحدد لانتهاء الحروب بينهما لم يكن قد حان بعد.

"فيرجع إلى أرضه بغنى جزيل وقلبه على العهد المقدس فيعمل ويرجع إلى أرضه" (دانيال 11: 28)

رجع أنتيوخوس من مصر بغنى جزيل، وقلبه على العهد المقدس أي على الأرض المقدسة وسكانها أصحاب العهد المقدس مع الله، وقد وضع أنتيوخوس في قلبه العداء لله ولشعبه القديم "فيعمل ويرجع إلى أرضه" وقد عمل غرض قلبه ورجع إلى أرضه.

حملة أخرى ضد مصر (دانيال 11: 29)

"وفي الميعاد يعود ويدخل الجنوب ولكن لا يكون الآخر كالأول. فتأتي عليه سفن من كتيم فييئس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس ويعمل ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" (دانيال 11: 29 و 30)

"وفي الميعاد" أي حين يحين الوقت المحدد من الله، فهو سيد الأرض كلها، يحرك قلوب الملوك "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله" (أمثال 21: 1).

حين يحين هذا الوقت يدخل ملك الشمال ملك سوريا في معركة حربية أخرى ضد ملك الجنوب ملك مصر، ولكنه لا ينتصر في هذه الجملة العسكرية كما انتصر في حملته السابقة "ولكن لا يكون الآخر كالأول".. ويبدو أن السبب في نكسته العسكرية هو مجيء سفن من كتيم "فتأتي عليه سفن من كتيم" و"كتيم" هي الاسم العبري لجزيرة قبرص حيث وقف الأسطول البحري الروماني عند إتمام هذه النبوة.

ومجيء "سفن كتيم" ضد أنتيوخوس هو مقدمة التعريف بالقوة الجديدة التي ظهرت في شرق البحر المتوسط وهو قوة روما.

ويخبرنا يوسيفوس المؤرخ اليهودي عن ما حدث لأنتيوخوس بواسطة الأسطول الروماني فيقول "ولكن أنتيوخوس أبيفانس طرد ليس فقط من الإسكندرية، ولكن من مصر كلها بإعلان الرومانيين، الذين أمروه أن يترك مصر وشأنها. ورجع الملك أنتيوخوس من مصر خوفاً من الرومان، وقام بحملة ضد أورشليم، ولما كان هناك سنة 143 من ملك السلوقيين استولى على المدينة بغير حرب، لأن الذين من جماعته فتحوا له أبواب المدينة"

عاد أنتيوخوس بعد أن يأس من غزو مصر بسبب تدخل الأسطول البحري الروماني، ودخل أورشليم، والغيظ الذي لم يستطع سكبه على مصر، صبه على أورشليم وسكانها المشار إليهم "بالعهد المقدس" وتقول النبوة "ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" وقد أصغى أنتيوخوس إلى اليهود المرتدين عن عهد إلههم، ووجد في مشورتهم الوسيلة التي يتمم بها غرض قلبه.

"وتقوم منه أذرع وتنجس المقدس الحصين وتنزع المحرقة الدائمة وتجعل الرجس المخرب"

"تقوم منه أذرع" وهذه الأذرع هي قوات أنتيوخوس العسكرية، وقد قامت هذه القوات بتنجيس "المقدس الحصين" الهيكل القديم، وأوقفت اليهود عن تقديم محرقاتهم اليومية المشار إليها بالعبارة "المحرقة الدائمة"، ومع ذلك كله بنى أنتيوخوس مذبحاً للوثن فوق مذبح المحرقة وذبح خنزيراً على ذلك المذبح. وكان عمله الفظيع بتقديمه الخنزير في الهيكل المقدس إتماماً للنبوة "وتجعل الرجس المخرب" فقد عملت قواته العسكرية هذا العمل المشين.

لقد سعى أنتيوخوس أبيفانس جاهداً أن يزيل كل أثر للديانة اليهودية، ويدخل بدلها الحضارة اليونانية.

"والمعتدون على العهد يغويهم بالتملقات. أما الشعب الذين يعرفون إلههم فيقوون ويعملون" (دانيال 11: 32).

المعتدون على العهد هم المرتدون من اليهود، وأنتيوخوس سيغويهم أي يفسدهم بأساليب التملق التي اشتهر بها. أما الشعب الذين يعرفون إلههم، أي يعرفون أنه إله قدوس، وقادر، فهؤلاء يقوون ولا يتنجسون بأي أطعمة نجسة، ويفضلون الموت عن التعدي على عهد إلههم. بل يموتون في ولائهم لربهم.

"والفاهمون من الشعب يعلمون كثيرين. ويعثرون بالسيف وباللهيب وبالسبي وبالنهب أياماً" (دانيال 11: 33).

الفاهمون أي الذين تعلموا شريعة الله ومعنى النبوات، يعلمون كثيرين حتى يثبتوا، ويظلوا في أمانتهم لله. والبعض بسبب الاضطهادات القاسية "بالسيف وباللهيب وبالسبي وبالنهب أياماً" (مزمور 73: 1 - 3).

لقد قامت قوات أنتيوخوس بمهاجمة أورشليم يوم سبت، وأخذوا النساء والأطفال أسرى، وهدموا الكثير من البيوت، واحتلوا القلعة المطلة على الهيكل. وقد استمر هذا الاضطهاد والتعذيب أياماً.

"فإذا عثروا يعانون عوناً قليلاً ويتصل بهم كثيرون بالتملقات" (دانيال 11: 34).

تمت هذه النبوة بظهور "يهوذا المكابي"، الذي أعلن اليهود ولكن لم يكن في مقدوره أن يضع حداً لعذابهم واضطهادهم. وبسبب ظهور يهوذا المكابي ووقفته ضد أنتيوخوس اتصل كثيرون من اليهود المرتدين، باليهود الذين يقاومون أنتيوخوس بالتملقات. ويبدو أن اتصالهم بهؤلاء المقاومين كان نتيجة المعاملة القاسية التي عاملهم بها أنتيوخوس.

"وبعض الفاهمين يعثرون امتحاناً لهم للتطهير وللتبييض إلى وقت النهاية. لأنه إلى الميعاد" (دانيال 11: 35).

إن قصد الله من السماح بكل هذا الاضطهاد وهذا العذاب لشعبه القديم هو تطهير هذا الشعب وتبييضه، وعثرة بعض الفاهمين هي "امتحان" لفصل الحنطة عن التبن، ولعزل الحق عن الباطل، ولفصل أولئك الأمناء الشجعان، عن الخونة الجبناء. وتقول النبوة إن هذا الاضطهاد على الشعب القديم سيستمر إلى "وقت النهاية".. ويقيناً أن وقت أنتيوخوس لم يكن وقت النهاية، لكنه كما قلنا كان رمزاً ومثالاً لم سيحدث لليهود في وقت النهاية. هذا الوقت هو "إلى الميعاد" أي أنه وقت محدد بالتدقيق في خطة الله لشعبه.

الوحش الطالع من البحر
الصفحة
  • عدد الزيارات: 23452