Skip to main content

الإصحاح الثاني والعشرون: خطابات الأصحاب

هنا تبدأ مجموعة ثالثة من الأحاديث، إلى هنا تكلم الأصدقاء عن الشرير بصفة عامة: هو يفعل هذا ويستحق ذلك (ص15: 20) والآن يكشف أليفاز أعماق أفكاره باتهامات مباشرة فيقول له: شرّك.....آثامك..... (ع5). ما ابعد هذا الرجل ورفيقيه هن تعاليم الرب التي تقضي بالحكم على الذات قبل نزع القذى من عين الأخ (متى7: 1-5). وما أبعدهم عن مثال الرب الذي انحنى ليغسل أرجل تلاميذه (يوحنا13: 14، 15)

وعندما نقارن (ع3) مع ما قاله الرب للشيطان في (ص1: 8، 2: 3)، نرى إلى أي حد لا يعرف أليفاز الله لأنه لا شيء يسر قلبه أكثر من الإنسان الذي يصنع بره (أعمال الرسل10: 35). ومع ذلك ليتنا نصغي إلى ما يريد روح الله أن يقوله لنا من خلال هذه الكلمات فإن كان ممن يقرأون هذه الكلمات ليس بعد في سلام مع الله. ليته يستجيب إلى نداء (ع21) "تعرّف به وأسلم. بذلك يأتيك خير" (قارن 2 كورينثوس 5: 20).

أما العدد التالي فهو موجه لجميعنا وليتنا نصغي له "اقبل الشريعة من فيه وضع كلامه في قلبك".

تصل بنا هذه المجموعة إلى خاتمة الجدل، وذلك فيما يتصل بالأصحاب. ففيما خلا التكرار المرهق لمجادلاتهم السابقة، إذا صحّت عليها هذه التسمية، فإن أقوالهم خلت من كل شيء له أهمية فأليفاز الذي يفتتح هذا القسم من الخصومة يستمر متمسكاً بنقاشه الأصلي، ويتحدث في أسلوب رائع يتميز بالروح الشاعرية الجميلة، مع لفتات قليلة من الرقة. على أن روح الظلم العنيف تشوّه خطابه.

أما بلدد، ثاني المتكلمين، فإنه يختم دوره في ضعف وإيجاز. لكن صوفر يخلد إلى السكوت. إذن فمحاولتهم الأخيرة هذه إنما هي متقطعة غير متكافئة ونستطيع، دون أن نكون متعسفين ظالمين، أن نعدها فاشلة.

ومن الناحية الأخرى نرى أيوب يزداد غضبه اشتعالاً يزد على صاحبيه بشدة وبقدر طيب من الحزم والايجابية، وبطريقة تسد أفواه أصحابه. لكن فمه لا يزال فاغراً يقذف الأسرار التي ينطوي عليها قلبه المثقل، والستارة الكثيفة ما تزال تفصل بينه وبين الله. وسوف يتضح هذا كله عندما نتناول كل خطاب والرد عليه.

والخطابان اثنان فقط، لأن صوفر كما قلنا لم يساهم في هذه المرة.

1-                   خطاب أليفاز: اتهامات باطلة ضد أيوب، والوعد بالرجوع ورد نفسه إن هو تاب، ثم رد أيوب (ص22-24).

2-                   خطاب بلدد: يجدد أقواله عن عظمة الله وشرّ الإنسان، ثم رد أيوب     (ص25، 26).

*    *     *

أولاً: خطاب أليفاز: - وهو ينقسم إلى سبعة أجزاء، أي أنه يحتوي على خلاصة كاملة لرأيه في المناقشة كلها.

(ع1-5) خطية أيوب من وجهة عظمة الله.

(ع6-11) الاتهام المباشر.

(ع12-14) كل شيء معلوم لدى الله.

(ع15-18) طريق الأشرار.

(ع19-20) قضاؤهم العادل.

(ع21-25) دعوة أخيرة للتوبة.

(ع26-30) نبوءة عن مستقبل منير.


(ع1-5) خطية أيوب من وجهة نظر عظمة الله.

يتناول أليفاز في هذا الجزء الأول عظمة الله التي لا حدود لها وكفايته تعالى لذاته. هل ينفع الإنسان الله؟ هل هو يضيف شيئاً إلى كمال ملء الخالق؟ إنما ينفع نفسه الإنسان الحكيم الفطن، وليس عليه اعتماد الله بحالٍ من الأحوال. برّه ليس بذي فائدة خاصة لدى الله (لاحظ أن لفظة "فائدة" هي المقصود دون لفظة "مسرة" إذ أن الواقع أنه تعالى يجد المسرة في قديسيه)، كما يقرر الإنسان المفرغ من الذات "صلاحي لا يمتد إليك" (مزمور16: 2). فإن كان أيوب يأبى أن يندم عن خطيته، فهو ليس يؤذي إلا نفسه ولا بد من حصاد النتائج. ثم يسأل أليفاز صاحبه أيوب: أليس في التأديب الذي يقع تحته ما يثبت خطيته؟ أو هل يوبخ الله إنساناً من أجل تقواه؟ إذن فقد تبرهنت خطية أيوب وهي قطعاً طريقة سهلة، في عالم ملؤه الألم، أن نقيم الدليل على أن هذا الإنسان أو ذاك الخاطئ. لكنه دليل شامل إذ يضم تحته كل متألم، الأبرار كما الأشرار.

على أن هناك استثناءاً من جزء الإقرار الأول، كما من طابع جزئه الأخير الواضح الخطأ. ألم يتأثر بر الله في خليقته، لذلك البر الذي هو مظهر طبيعته المباركة؟ فقد خلق كل شيء لمجده تعالى ومسرته.

إذن فسقوط الإنسان معناه خسارة لله، لأن الإنسان اظهر فشله بأن يظهر في حياته ما يكشف عن حكمة خالقه وصلاحه. إذن فالقضاء ليس ذا طبيعة تبريرية، بل عقابية، والغضب إنما هو بسبب خطية فعلية ضد الله. وهذا هو الاقتناع بالخطية كما ينشئه روح الله في الضمير "إليك. وحدك. أخطأت" إن أليفاز يعطينا صورة جافة باهتة عن الله. لكن كلمة الله تكشفه لنا تعالى كمن يعنى بأمورنا، وكمن يهتم بخليقته. ولن نتوقع أن نجد في أقواله، أي أقوال أليفاز، مجالاً للإنجيل أو البشارة. ذلك أن الله لا يمسك بيديه ميزان العدالة فقط كمن هو مجرد مراقب لا يكترث بشؤوننا، ولكن يكيل القصاص للعاجز المقصّر. لو كان لمثل هذا التعليم مكان، فأين كنا نجد مثل هذه العبارات "كما يتراءف الأب على البنين" "الذي يحبه الرب يؤدبه" "وأما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته"؟

لقد أحس أليفاز أن المناقشة قد وصلت إلى حد يتطلب تدخّله من جديد فأجاب على الفور قائلاً: "هل ينفع الإنسان الله"...نعم يا أليفاز، إن الإنسان لا ينفع الله، ولكن ألا يستطيع الإنسان أن يسر الله. الذي قال بروح الحكمة "ولذاتي مع بني آدم"  (أمثال 8: 31).

إنه ليس لأجل المنفعة يخضع الإنسان لله، ويطيع كلماته، بل لكي يسر الله. ولماذا؟ لأنه يحبه. نعم، إن التقي يطيع الله لأنه يحب الله. وهذا شيء يختلف كل الاختلاف عن مسرة العمل سعياً وراء المنفعة. "هل من مسرة للقدير إذا تبررت؟" نعم، إن للقدير مسرة عظيمة في تبريري، ولا شك أن أليفاز كان مخطئاً في تفكيره من هذه الناحية، فالله كان مسروراً بأيوب جد السرور، بذلك الرجل عينه الذي كانوا يظنون في كل سوء، الذي كانوا يرمونه بكل عيب ونقيصة. فأنت تذكر أن الله قد بيّن بصورة واضحة في مستهل السفر أنه لم يكن على وجه الأرض رجل مثل عبده أيوب. ومع ذلك فقد كان هناك شيء خفي لم يكن أيوب يعرف أنه خطأ وقد قصد الله أن يظهره له، لكي يكون له فكر الله فيما يتعلق بنفسه. هذا هو الموضوع كله. ولكن لنستمع إلى أليفاز وهو يتابع كلامه وهو يظن أنه يعبّر عن أفكار الله.

"هل على تقواك يوبخك" أو يدخل معك في المحاكمة. أليس شرّك عظيماً وآثامك لا نهاية لها؟.


(ع6-11) الاتهام المباشر.

بعد أن خطط أليفاز مبدأه المغلوط بمثل هذه الايجابية وبعد أن أعلن أن خطية أيوب كبيرة بشكل خطير (لأن الله لا يعاقب رجلاً تقياً) يفتتح مجموعة من الأقوال مذهلة، يتحدث فيها عن مسلك أيوب وتصرفاته الفعلية: فلم تعد المسألة بعد مسألة خطية ضمنية يطويها ستار من الدعوة إلى التوبة، أو غطاء من التشبيه لأيوب بأولئك الأشرار، بل هو اتهام فائر بخطية فعلية بما لا يمكن تصوره. فقد استلب أيوب متاع أخيه بدعوى زائفة! جرّد الفقير من غطائه الأخير الساتر! أنكر على الشارق ماءاً وخبزاً عن الهالك جوعاً. بقوة جارحة اخذ أراضي الآخرين وأقام هو فيها كأنه رجل عظيم مترفع الوجه. الأرامل واليتامى طردهم خواة سيدهم الذي لا قلب له. أدلة.  شواهد وشهود! ما الداعي إلى هذا جميعاً ما دامت النظرية مقنعة بغير إقامة الحقائق وتثبيتها! هكذا ومن أغوار باطنه السحيقة يبسط هذا الصديق الوقور، الأشيب الرأس، أليفاز: يبسط الدليل القاطع على أن صاحبه المتألم والأب الماثل أمامه إنما هو مارد آثم! يا ليت إلهنا يعفينا من مثل هذه الصداقة والتزييف لحق.

ولكن حتى الآن: أليس الشك في الآخرين عيباً شائعاً؟ فهوذا شخص لم يواته النجاح في عمله، والمرض يهدّ أفراد أسرته، وهو يفقد أحباءه: وانك لتسمع الاستنتاج العجول بأنه أخانا هذا واقع تحت يد التأنيب لبعض الأخطاء الخيالية الوهمية. ما أقساه! هو سوء ظن يناقض الاتجاه الواضح "على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة". ألا ليتنا نبطئ الشك، ونكون أكثر تباطؤاً في الاتهام بشر مجهول، تاركين ذلك لفاحص القلوب. ولئن كان يدعونا أن نعلن شراً ما، فإنما هو الشر الذي يكشفه بما لا يقبل المظنة.

"لأنك ارتهنت أخاك بلا سبب" والآن تظهر كل ظنونه السيئة مرة ثانية إذ يقول: "وسلبت ثياب العراة. ماء لم تسق العطاش وعن الجوعان منعت خيراً"

إن أليفاز بأقواله هذه يصوّر ما ظن أن أيوب قد فعله ليستحق القصاص الذي كان يعانيه.

"أما صاحب القوة فله الأرض" وأيوب كان صاحب القوة. والمترفع الوجه ساكن فيها. الأرامل أرسلت خاليات. وذراع اليتامى انسحقت. لأجل ذلك حواليك فخاخ. والواضح الجلي أن كل هذا التعليل لا أساس له من الصحة "ويرعبك بغتة. أو ظلمة فلا ترى وفيض المياه يغطيك".

ويختم أليفاز اتهامه معلناً أن هذه الخطايا تبين لماذا يؤخذ أيوب كما في فخاخ، ويباغته الخوف. ألا يرى الظلام الذي يغلّفه وفيض المياه. الشيء المدهش إن كل كلمة مما قال أليفاز دليل على أن الكل كان خليطاً من الأكاذيب تُظهر كلمة الله فيما يختص بأيوب، إن أليفاز مثل كاذب بائس لأن الرب قد قال عن أيوب "لا يوجد رجل مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم" فهل تكلم الرب هكذا إن أيوب انتهك حرية نواميس الخير ومنع الماء والخبز عن المحروم أو جرّد العاري من ملابسه؟ لكن كيف ينزلق أليفاز إلى الحضيض؟ هذا كان نتيجة منطقه الآثم فلا بد أن يكون أيوب خاطئ وهو رجل شرير وبلا حقائق يستخلص النهايات أن أيوب قد فعل هذه الأمور ويتهمه سلبياً بها. لايزال نفس المنطق البغيض بنا. على سبيل المثال يأتي الشر على عبد الرب يسوع المسيح فيجتاز ببلوى ويأتي عليه حزن فوق حزن ثم يقترح أن حياته غير قويمة وسريعاً يلتهمه لسان الافتراءات بشرٍّ محدد.


(ع12-14) كل شيء معلوم لدى الله.

"هوذا الله في علو السماوات. وانظر رأس الكواكب ما أعلاه. فقلت كيف يعلم الله". هذا لم يقله أيوب أطلاقاً بل بالعكس تماماً.. "هل من وراء الضباب يقضي؟".

هذا الجزء متابعة لشكوك أليفاز الظالمة. إنه يحمل أيوب أن يقول إن الله يسكن السماء. بين النجوم مقامه، ولذلك أنى له أن يشهد ما يجري تحت السحب التي تخفي الأرض عن نظره؟ أنه يتمشى على دائرة السماوات جاهلاً في العالم التحتي! أو نسي أليفاز اعتراف أيوب القوي بكل قدرة الله وكل عمله كما نرى في (ص9)؟ إن العنوان الذي يمكن أن يوضع في رأس هذا الجزء هو هذه العبارة "معلومة عند الله" كل الأشياء، لأن إيمان أيوب المزعوم قصد به أن يبرز حقيقة سامية وهي أن لا شيء يخفى عن فاحص القلوب.


(ع15-18) طريق الأشرار.

إذ يعود أليفاز إلى الأمثلة المتكررة كثيراً عن الأشرار وعقوبتهم فإنه يصوّر نجاحهم الوقتي والقضاء الذي لا ندم عنه، والذي لا بد أن يباغتهم مثل العشب الذي ما نما مبكراً إلا ليذبل، هكذا يهلكون قبل وقتهم. الأسس الراسخة في الظاهر قد اكتسحها الغمر. وقد تكون في هذه العبارة إيماءة تلميحية إلى أيام نوح حيث كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان واهلك الجميع وكعينة للفجار في كل الأزمنة، كان هؤلاء الناس قبل الطوفان قد تحدوا الله الذي منحهم بركاته "ابعد عنّا"، ماذا يفعل القدير لهم؟ عن مثل هذا الفجور يتحول أليفاز مرتعباً "لتبعد عني مشورة الأشرار" وهو هنا يقتبس أقوالاً صدرت عن أيوب (ص21: 16) فلماذا إذن يأبى على صاحبه السابق أن يكون هو نفسه متأبيا على تلك المشورة؟ إنه عوض ذلك يبدو وكأنه يُظهر نفوره من أيوب إذ يضمه مع اللذين يتحدون الله.


(ع19-20) قضاؤهم العادل.

إن عدم التقوى إنما تنال عقوبتها التي تستحقها وعندما يفرح الأبرار. "يفرح الصديق إذا رأى النقمة، يغسل خطواته بدم الشرير. ويقول الإنسان إن للصديق ثمراً. أنه يوجد إله قاضٍ في الأرض"    (مزمور58: 10، 11).

إن هناك فارقاً بين موقف أليفاز والمواقف التي نراها في كثير من المزامير فالمزامير تطالعنا بالتطهير الأخير للملكوت من جميع المعاثر وفعلة الإثم (متى13: 41) بعد فترة التوبة الطويلة، وبعدما يكون الشر قد تكشّف كعصيان لله لا علاج له، كالحاجز المطلق لكمال البركة. لذلك يفرح الصديق عند الخلاص، لا عند الدينونة ولو بدا كل شيء في مطابقة تامة مع طبيعة الله. وهكذا يكون أيضاً فرح في السماء حيث يطرح الشيطان (رؤيا12) وحيث تنال بابل دينونتها التي طال أمد تأجيلها (رؤيا18، 19).

على أننا نقدر أن نتبين إلى أي مدى كان رأي أليفاز ظالماً بالنسبة لحياة الأشرار ونهايتهم. وعلى وجه خاص بالنسبة للآلام التي يجتازها كثير من الأبرار. وهو شيء أليم بالنسبة لحالة أيوب التي يومئ إليها أليفاز.


(ع21-25) دعوة أخيرة للتوبة.

لقد كان أليفاز يحمل في قلبه شيئاً من الرأفة نحو أيوب. ويقول له "تعرّف به واسلم بذلك يأتيك خير. اقبل الشريعة من فيه"..

إن أليفاز كان من هذه الناحية يختلف عن صوفر، وكذلك عن بلدد... وضع كلامك في قلبك. إن رجعت إلى القدير تبنى". وقد كان كذلك.

إن أليفاز لم يكن يدري أن هذا الرجوع على وشك الظهور لخزيهم وخجلهم. "إن أبعدت ظلماً من خيمتك وألقيت التبر على التراب. وذهب أوفير بين حصا الأودية يكون القدير تبرك وفضة أتعاب لك.

على أن شيخ الأصحاب يبدأ أن يعطي ملاحظاته نهاية ملطفة. وهو مرة أخرى يقدم للمذنب عرضاّ بالرجوع، إن هو ندم. وأسلوبه ذو جمال باهر، كنا نتمنى لو استخدمه صاحبنا بطريقة أجدر "تعرّف به وكن في سلام، بذلك يأتيك خير". وهذه عبارات تصلح أن تكون عبارات تبشيرية، أليست الحياة الأبدية هي معرفة الإله الحقيقي وحده ويسوع المسيح الذي أرسله؟ ما أعظم السلام الذي يمكن تحصيله عن طريق هذه المعرفة: سلام بدم الصليب، سلام مكروز به، سلام يمتلكه الإيمان! وأي خير هذا الذي نجتنيه من هذه المعرفة: خير للزمان وللأبدية. لكنه يوجه خطابه لإنسان يعرف الله، طبقاً لإعلان العهد القديم. ومن هنا تحول التحريض الرقيق إلى ضغينة مريرة "اقبل الشريعة من فيه وضع كلامك في قلبك" إن أقوال أليفاز تخلو من تعزية شعب الله "نفتخر أيضاً في الضيقات" "بكاء مع الباكين" ولا يقول إلا "إن رجعت إلى القدير تبنى، إن أبعدت ظلماً من خيامك".

 ومرة أخرى نحذر شعب الله من الشرك الذي سقط فيه أليفاز فإن كلّ تحريض تقوى على التوبة، وترك الخطية، وإدانة المسلك الشرير، إذا لم يكن مؤسساً على الحقائق المعروفة فلن يكون سوى إهانة، تنم عن روح فريسيّة لابد من الندم عليها كما في أليفاز وأصحابه.

إن أليفاز، وبطريقة نبوية، يعلن صورة لرجوع كل نجاح أيوب ورخائه: من ثروة وسعادة. وهناك تراجم مختلفة للعددين (24، 25). فالترجمة الإنجليزية المعترف بها تقول هكذا (ابتداء من ع23) "إن رجعت إلى القدير تبنى وتبعد الظلم عن خيامك. عندئذ تلقى التبر كأنه تراب وذهب أوفير كحصا الأودية. نعم ويكون القدير تبرك وتكون لك فضة بوفرة" وترجمة أخرى تقول "إن ألقيت التبر على التراب وذهب أوفير تحت حصا الأودية، هكذا يكون القدير لك تبراً بوفرة وفضة لامعة جداً".

لكن يبدو أن القراءة المألوفة هي المفضلة. فالعادة في العهد القديم، وبوجه خاص في سفر أيوب، أن يربط التمتع بالثروة الوقتية، ثروة الزمان، برضاء الله. وأليفاز على هذا القياس يعد برجوع كل الثروة التي فقدها أيوب.

عندئذ يبدو أمراً لا ينقصه الفخر أن تحرّض رجلاً محروماً من ثروته أن يلقيها في التراب أو يعدها بلا قيمة كحصا الأودية. ومن هنا قيل أن أليفاز يتكلم بأسلوب تصويري استعاري، وأنه يطلب من أيوب أن يطرح حب الطمع في الذهب ويلقيه في التراب. ويحسن بنا أن ندع ترجمتنا الفاخرة كما هي فالقدير سيكون حصن دفاع مرتفعاً للتائب، وثروته ستكون وفيرة.


(ع26-30) نبوة عن مستقبل منير.

"....وعلى طرقك يضيء نور" وهذا ما تم فعلاً بأعجب صورة وبأسرع مما كان أليفاز ينتظر أو يتوقع...."إذا وضعوا تقول رفع ويخلص المنخفض العينين ينجى غير البريء وينجى بطهارة يديك".

"ينجي غير البريء"....أي نعم. ومن هم المشار إليهم هنا؟ إنهم أليفاز وبلدد وصوفر. لقد كانوا هم "غير الأبرياء" وقد تحقق الأمر على يدي أيوب بصورة لم يكن يتوقعها أليفاز. لقد عاملهم الله باعتبارهم مذنبين نحو أخيهم العزيز الذي أساؤوا الظن به إلى هذا الحد، ولذي نسبوا إليه كل أنواع الشر الدفين وجعلوا منه إنساناً خبيثاً ومرائياً كبيراً. ولكن أليفاز ينطق هنا دون أن يدري بأقوال قد تحققت فعلاً، وكثيراً ما يحدث مثل هذا في اختباراتنا أقوال عابرة ينطق أخ مؤمن دون أن يكون لديه أي فكرة عن تحقيقها ومع ذلك لا يمضي كثيراً من الوقت حتى يتم الأمر كما صوره ذلك المؤمن البسيط الذي قد لا يكون عنده معرفة القراءة والكتابة. وكذلك هنا نجد هذه الأقوال وقد تحققت. إن الله له دخل بالأقوال الطيبة التي تنطق بها أكثر جداً مما نتصور. وأليفاز مع أنه كان مخطئاً في تصوراته إلا أن الله سمح له بأن ينطق بأقوال أصابت الحقيقة بصورة عجيبة بشأن أيوب نفسه.

"ينجى غير البريء. وينجي بطهارة يديك".. ذلك ما أرغم الله هؤلاء الرجال أن يعترفوا به وهو أن أيوب كان أبرّ منهم وأن يديه كانتا أطهر من أيديهم. لقد نجّسوا أيديهم بما وضعوا على أيوب بمثل هذه الغباوة وبمثل هذه القساوة ولقد اعترفوا لأيوب بأنهم مدينون له بحياتهم، فلولا طهارة يديه وشفاعته فيهم لما نجوا من موت محقق.

هنا يصل أليفاز إلى ختام خطابه، إذ يرسم المباهج التي تنتظر أيوب أن هو اعترف أن متهميه باطلاً هم على حق، يومئذ يتمتع بالشركة مع القدير، ويسبح في ضياء طلعته، تستجاب الصلاة، وتقبل النذور التي نذرها في ضيقه. يرسم خططاً لا تخيب، وعلى كل طرقه يضيء نور. ولئن بدا على تلك الطريق أنها تميل إلى الانحدار (ع29) فلن يعوز أيوب إلا أن يقول "رفع" وحينئذ تسير الأمور سيراً حسناً. لأنه سيكون أحد المتضعين الذين يرفعهم الله. نعم وسيكون أيوب معواناً للآخرين، غير البريء سينجيه ذاك الذي طهرت يداه.

هكذا انتهى صاحبنا. لقد بذل جهداً في عرضه قضيته، وخلط بين الوعود والتكهنات كان يبدو أحياناً أنه يتكّهن أو يتنبأ برجوع أيوب، لكنه شوّه كل شيء بمبدئه الخاطئ الذي هو في ذاته بلا قيمة. ومع ذلك فهناك قدر من المنطوقات الرفيعة الجميلة. لذلك كم هو أمر خطير أن تكون لدينا وجهة النظر الصحيحة حتى يكون افتتاح شفاهنا استقامة.


 

معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح الثاني والعشرون

 ص       ع                    الكلمة                           معناها

 22  :   12                  راس الكوكب                 أعظمها ضياء وأعلاها ارتفاعاً.

22  :  24                    التبر                            الذهب في ترابه قبل تنقيته وصوغه.

22  : 24                     أوفير                         بلاد في المشرق(1 ملوك 1: 11) أو في الهند

  • عدد الزيارات: 17713