Skip to main content

الإصحاح الثامن والثلاثون: إعلان خصائص القوة أو سجاياها

يتكون هذا الإصحاح من 38 عدد، ذلك لأن الآيات الثلاث الأخيرة منه تتبع في الواقع الإصحاح الذي يليه إذ نبدأ هناك في الدخول إلى عالم الحيوان في الطبيعة، في حين كل ما نلاقيه في إصحاحنا يدور حول ما يسمى عالم الجماد، ولكن الجماد جزء من خليقة الله تماماً كالحيوان، ومع ذلك فإن الطبيعة الحيوانية تسمو فوق كل شيء ليس فيه حياة. نعم، فإن الحياة شيء عجيب للغاية حتى وإن كانت في حيوان، مهما كان صغيراً، فإنها تميزه عن كل شيء ليس له حياة إطلاقاً.

والآن يطالعنا هذا الإصحاح بالرب نفسه متكلماً. لقد تكلم الرب بعد ذلك في جبل سيناء بكيفية تناسب الناموس، فإن ناموس الله إذ أعطي للإنسان – الإنسان الخاطئ كما كان الحال عندئذ – فلابد أن يكون خدمة موت ودينونة (2 كورنثوس 3: 7. 9). وهنا نلاحظ أنه بسبب ما يوجد من نقص في القانون البشري قد يفلت الإنسان المذنب، وعلى ذلك فبقدر ما يكون القانون محكماً بقدر ما يضمن الوصول إلى كل مستحق للقصاص. وناموس الله من هذه الناحية كامل للغرض الذي أعطي من أجله كدستور للإنسان الساقط على الأرض، لكبح جماح الإنسان والحد من زوغانه. وإلا فالدينونة والموت جزاؤه.

ولكن هنا سبب آخر يتكلم الرب من أجله، لأنه كانت هناك غاية أو عاقبة للذين يؤمنون، ولابد أن يعرفوا أن الله يعنى بهم، وهذا أيضاً بغض النظر عن الشعب القديم ومعاملات الله الخاصة بهم (لأن أيوب كما نذكر لم يكن من هذا الشعب) وأن عين الله ترعى كل خليقته على وجه الأرض، بغض النظر عما إذا كانت صغيرة أو كبيرة، شرسة أو مسالمة لا فرق، لأنها جميعاً مخلوقات الله، ولله علاقة دائمة بها كما يرينا هنا. ذلك كان درساً عظيماً جداً لأيوب. لقد نسي أن الله يهتم بذات شعور رؤوسنا لأنها جميعاً محصاة عنده، ولا يسقط عصفور واحد إلى الأرض بغير علمه. ولكن الله يتناول هذه الأمور كلها بحسب عظمته الخاصة، وعظمته فوق عقل الإنسان، وفوق متناول إدراكه، ولذلك كان هذا بالذات هو غرض الوحي هنا. وهو أن يبين لأيوب غباوة تجاسره على الحكم على معاملات الله ومحاولة إسناد العيب إليها لحظة واحدة. ولعلنا نذكر أن في أحد الإصحاحات (ص 23) يذكر أن أيوب تمنى لو أن الله تخلى ولو لفرصة وجيزة عن طبيعته المرهبة وسمح له بالدنو منه لشرح قضيته والدفاع عن نفسه أمامه. وها نحن نرى الرب يوافيه بالجواب. ولسنا بحاجة إلى القول أنه الجواب لكل شخص، لكل شخص عنده خوف الله في كل عصر وجيل، إن نور المسيح لا يقلل إطلاقاً من قيمة هذا السفر بل بالعكس ينبغي أن ندرك مرامي هذا السفر إدراكاً أعظم بفضل ذلك النور.

الأعداد 1-18

في إصحاح 31: 5 يصيح أيوب "ليجيبني القدير!" (قارن ما قاله له أليفاز في ص 5: 1) لكن الله الذي كان يظن أنه لا يسمع ولا يمكن الوصول إليه يستجيب لرغبته ولكن ليس كما كان يظن أيوب. لأن الرب بدلاً من أن يجيب على أسئلته نراه يسأله بدوره عدة أسئلة. ونحن نرى الرب يسوع يتبع هذا الأسلوب في أحيان كثيرة مع المتحدثين إليه (مثلاً لوقا 10: 25، 26، 20: 2-4، 21-24)  لقد كان أيوب في حاجة لأن يذله بسبب مدحه وافتخاره بذاته (ص 31: 37) وهذا هو ما فعله الرب معه بأسئلته إذ جعله يقيس مدى صغره وجهله العميق، (قد يخدع الإنسان نفسه بما عنده من معرفة ولكن عندما تكون المعرفة صحيحة يعرف الإنسان حقيقة نفسه ويصل إلى هذه النتيجة). لذلك نرى في أغلب الأحيان أن أعظم العلماء هو أكثر الناس تواضعاً – وقال واحد من المؤمنين: عندما يصغي الإنسان، يتكلم الله.." والله في صبره ترك لأيوب وأصدقائه فرصة الكلام والتعبير عن أفكارهم الخاطئة، ثم يكلف أليهو بأن ينقضها. وأخيراً سكت الجميع وتكلم الله ولا شك أن له الكلمة الأخيرة. ليتنا نتعلم نحن أيضاً أن نفرض السكوت على أرواحنا المضطربة حيث يمكن أن يسمعنا الله صوته.

الأعداد 19-38

إن الخليقة هي أول شهادة يشهد بها الله عن نفسه، وكل إنسان بدون استثناء مسئول أن يميز بالعقل "أموره غير المنظورة.. قدرته السرمدية ولاهوته". إن التأمل في مخلوقاته دون الاعتراف بالذي صنعها وتمجيده يجعل الإنسان بلا عذر (رومية 1: 19، 20).

إن الله يدعونا مع أيوب للإعجاب بالكون الجميل، ومن يستطيع أن يتحدث عن عجائب الخليقة نظير الذي صنعها؟ إن الذي خلق النور الذي "ربط عقد الثريا" ووضع "سنن السموات" (ع 31-33) هو الذي تنازل ليهتم بنفس واحدة مثل نفس أيوب، وهو لاشك يهتم أيضاً بنفسي ونفسك، كما تقول ترنيمة: "إن الخاطئ البائس له قيمة في عينيه أكثر من نجوم السماء التي لا عدد لها"؛ إن الناس في كل الأزمنة اهتموا بفحص السموات وبعضهم كرسوا حياتهم لها. أليس من الأكثر فائدة أن نكرس حياتنا لفحص الكتب؟ (يوحنا 5: 39)، لأنه إن كانت "السموات تحدث بمجد الله" (مزمور 19: 1) فإن الكلمة تشهد لنعمته.

* *  *

يوضح هذا الإصحاح خصائص القوة أو سجاياها الإلهية. من حكمة وصلاح، على النقيض من عجز أيوب وجهله. ومن هنا فقد كان محصوراً بأن يعترف بافتقاره إلى الصلاح في اعترافه "أنا حقير".

وينقسم إلى الأجزاء التالية:

(ع 1- 3) دعوة الله لأيوب.

(ع 4- 38) أسئلة عن أعمال الخليقة.

(ع 39- 41) إعلان عنايته تعالى بمخلوقاته.


(ع 1- 3) دعوة الله لأيوب.

ليسكت الإنسان فصوت الرب يبدأ التكلم. القدير والخالق ورب الجميع يأتي الآن في المشهد. هو أيضاً مثل أليهو المستمع الصامت سمع شكوى أيوب وثرثرة أصحابه. وانتهى تعبير أليهو العجيب الموحى به من الرب. تهب عاصفة الرعد وبلا شك عاصفة حرفية والسحب الداكنة تتجمع "ثم يأتي من السماء نور ذهبي، الله يظهر في جلال عجيب".

النور الذهبي من وجود الله ومجده يظلل المشهد خارجاً من الزوبعة يسمع صوته. فهذا هو الصوت الذي يصفه داود في مزمور عاصفة الرعد (مزمور 29) هكذا يصف الصوت بصورة عجيبة الذي على الحياة مملوء بالجلال، الصوت الذي يكسر الأرز، الصوت الذي يقسم لهيب النار وعندما يمجد داود هكذا صوت الرب فهو يظهر مطاليب هذا الصوت "قدموا للرب يا أبناء الله قدموا للرب مجداً وعزاً قدموا للرب مجد اسمه اسجدوا للرب في زينة مقدسة".

كما أن ذلك الصوت مهيب في جلاله سيجلب السلام "الرب يبارك شعبه بالسلام" أي مشهد كان هناك في أرض عوص عندما تكلم صوت الرب من الزوبعة – نستطيع أن نتخيل كيف أن أليهو انتحى جانباً وغطى وجهه وأليفاز وبلدد وصوفر فجعوا مفزوعين وسقطوا على وجوههم في التراب بينما أيوب الصامت مأخوذ بالخشية لم يجرؤ النظر إلى فوق. وما تكلم به فهو لقصد واحد هو أن يتضع أيوب ويضع نفسه في التراب.

كان آخر تعبير لأيوب هو هذا "ليجبني القدير" (ص 31: 35) فالله يجيب الآن "من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة".

هنا يطالعنا الرب (يهوه) وأول ما نلاحظه أن هذا الاسم الكريم لم يظهر بعد الإصحاح الثاني (فيما عدا ص 13: 9) في القسم التاريخي الذي بدأ بالإصحاح الثالث ولكن الآن بعد أن يختم هذا القسم (إذ كان ختامه الإصحاح السابق) يعود الرب فيظهر ثانية. وهو يطالعنا له المجد متحدثاً بحسب سلطانه المطلق وبحسب علاقته بخليقته، وهذا بالضبط المعنى الذي يدل عليه اسم "الرب" – ليس الله في كيانه المطلق المجرد ولكن الله في علاقته بالإنسان على الأرض، ومن هنا يجاوب أيوب ولكنه يجاوبه من العاصفة لأنه جواب موبخ. "فأجاب الرب أيوب من العاصفة".

لقد كان مقصوداً بالجواب أن يكون توبيخاً وأن يشعر به أيوب شعوراً حقيقياً ويستفيد منه. والواقع أنه شيء رهيب للغاية أن لا يوبخ الله إنساناً على الأرض، فذلك معناه دينونة إلى الأبد، أما الذين لهم علاقة حية بالله فإنهم يختبرون أيضاً تدخله له المجد – ليس مجرد وجود هذه العلاقة بل الدليل على وجودها وهذا ما كان يبينه الله في هذا السفر موضحاً بهذا النور العظيم كيف يتعامل معنا وفقاً لهذه العلاقة وكيف كان ينبغي على أيوب أن يحذر من إقامة نفسه قاضياً على الله.

"مَن هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة" ولا يقصد الرب من هذا أن أيوب لم يكن يعرفه إطلاقاً ولكنه يقصد أن معرفته كانت محدودة، وإن معرفته لم تكن كاملة فيما يتعلق بمعاملات الله.

"أشدد الآن حقويك كرجل، - كبطل – فإني أسألك فتعلمني".

هذه كلمة عجيبة، فالله كان مزمعاً أن يسأله عدداً من الأسئلة. لقد تساءل أيوب (متشككاً) عن معاملات الله، وها هو الله الآن يرد عليه فيقول ها أنا مزمع أن أسألك أنت فتجاوبني كرجل إن استطعت.

من العاصفة، منم السحابة العاصفة الذهبية (ص 37: 22) يجاوب الرب شكوك أيوب الباطلة ومرائيه. ويكفي أن نلاحظ أنه لم يكن رداً على أليهو، الأمر الذي يباعد عنه الفكر بأنه هو الذي كان يظلم القضاء أو المشورة. لقد كان أليهو المتحدث بلسان الله، وكان يمهد لهذا الإعلان أو الظهور الإلهي. وكما كان أليهو يخاطب أيوب في أقواله جميعاً، هكذا سمح الرب أن يلاحق أقوال عبده. مرة قال أيوب "من لي بما يسمعني.. ليجبني القدير" (ص 31: 35) وهاهو الآن يحصل على أمنيته، ولكن ما أشد اختلاف النتيجة! يوم ذاك قال "أدنو منه كشريف" (ص 31: 37). ولكن بعد أن سمع صوته تعالى أجاب "ما أنا حقير" يتسائل الرب "مَن هذا الذي يظلم المشورة" الذي يخفي مقاصد الله والحق "بلا معرفة؟" لقد صب أيوب سيلاً من الأقوال والمراثي والاحتجاجات والاتهامات. وكثير منها كان حقاً عظيماً، لكنه فيما يتصل بما قصد الله قد أتلف وأفسد كل ذلك، حينما رفع بره الذاتي على حساب بر الله. وبدلاً من النور، بدلاً من شعلة الحق الإلهي الصافية، هوذا سحابة مدخنة، سحابة عدم الإيمان، تظلم الشمس في السماء. فمن الفاعل؟ هل هو كائن إلهي، نظير الرب، ذاك الذي يجادله في أعمال غيره؟ أهو ملاك مقتدر، مزود بالحكمة الإلهية، ذاك الذي يجسر على إلى إلصاق التهمة ضد صانعه؟ كلا! بل هو إنسان، زائل، جاهل، خاطئ. ولا ريب في أن تساؤل الرب قد حوّل أيوب من أخطائه الوهمية: إلى ذاته. وهوذا المرنم، وهو يرقب الخليقة السماوية، يتساءل "من هو الإنسان؟". إن إبراهيم وهو في حضرة الله لم تسعه إلا أن يقرر أنه "تراب ورماد". وبولس يسد فم المعترض فيقول "بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟" (رومية 9: 20) الإنسان – ذاك المخلوق المحدود، الغير المعصوم، الساقط – أيكون أكثر عدالة من صانعه؟.

هذا هو سؤال الله لكل أقوال الناس الباطلة. قد تكون صرخات من ظلم وهمي، أو مجادلات جوفاء من قبل الذهن البشري لتفسير أحوال العالم من حولنا. وظروف الأسرة البشرية بوجه خاص. ولكن مهما تكن الصورة التي تتشكل إليها أقوالهم، فهي إنما تظلم الحكمة الحقة. وعلى جميع الطرقات التي تؤدي إلى المكتبات الحافلة بمجلدات العلم البشري من تاريخ وفلسفة، مجلدات تستبعد – إن عمداً وإن جهلاً – إعلان الله: على أيوب تلك الطرقات يمكن أن ينقش هذا السؤال الإلهي.

ومع ذلك فإن الله لا يقصد أن يسحق أيوب بل بالحري أن يأتي به إلى معرفة ذاته ومعرفة الله، المعرفة الصحيحة، فليشدد حقويه كرجل. ذلك أن الله لا يعرض أسئلة يستعصي على الإنسان إدراكها. فإذا كان حقواه "ممنطقين بالحق". فإنه يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة، وسيجيب. ومخاطبة الرب لأيوب على هذه الصورة تكشف عن مقاصد رحمته لعبده. هو تعالى يخاطب العقل في أيوب. وبالتبعية الضمير فيه. فيقوده من خلال مشاهد الخليقة الواسعة المألوفة أفيستطيع أن يحل واحداً من ربوات ألغاز وأسرار الخليقة؟ أيستطيع أن يكشف مخبوء أسرار الطبيعة؟ إذا لم يكن هذا ميسوراً له، فلماذا يحاول أن يعلن مشورات الله، ويقتحم دائرة مقاصد ذاك الذي لا يجاوب عن كل أموره، عمن يقول ذلك الرسول الساجد "ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء؟".


(ع 4- 38) أسئلة عن أعمال الخليقة.

قد أقبلنا الآن على هذه الأسئلة المتعلقة بخليقة الله والتي تعطينا دائرة مستكملة عن الحق الإلهي، كما يبدو هنالك، من إحدى الزوايا، بساطة ملحوظة تنطوي عليها هذه الأسئلة، بساطة قد تؤدي إلى إجابات متسرعو ولو سطحية ونستطيع أن نتصور طالباً جامعياً، لديه معلومات جيولوجية، أو مبادئ الجغرافيا الطبيعية أو علم الفلك. يجلس أمامه ورقة الأسئلة، راضياً عن نفسه.

ومع ذلك فلا يحسبن العلم الحديث أنه كفؤ للجواب على هذه الأسئلة التي عجز أيوب عن الرد عليها. نحن لا ننكر أن هناك تقدماً في المعرفة الخارجية، وكشوفاً خطيرة لنواميس ومبادئ الطبيعة العظيمة، ولكن هل يستطيع عالم اليوم أن يقدم لهذه الأسئلة الإلهية إجابات أكثر دقة وإشباعاً مما استطاعه أيوب قديماً؟ ومع ذلك، فما هي المعرفة الإنسانية – كما قال سقراط – إلا المعرفة بجهلنا؟ إن أقوال أيوب النبيلة (ص 28) تدل على أنه كانت لديه بعض اللمحات عن هذه الحقيقة العظيمة، وذلك عندما استراح قليلاً من متاعبه. وما هو مفتاح هذه الأسئلة جميعاً؟ هو الله، هو معرفته تعالى معرفة صادقة. فإذ نعرفه، فإننا حينئذ نعرف صاحب ومصدر المعرفة. أسقطه – تبارك اسمه – من حسابك. ومن ثم، لن تكون مجموعة العلوم سوى حائط أصم خاوٍ، تكمن من خلفه كل الحقائق المستورة.

هذه الأسئلة مجمعة في سبعة أجزاء:

(1) أساسات الأرض (ع 4 – 7).

(2) تخوم البحر (ع 8 – 11).

(3) النهار والليل (ع 12 – 15).

(4) الأعماق المجهولة (ع 16 – 21).

(5) العناصر (ع 22 – 30).

(6) الأجرام السماوية (ع 31 – 33).

(7) السحب والتحكم فيها (ع 34 – 38).

[1] (ع 4- 7) أساسات الأرض.

"أين كنت حين أسست الأرض؟". يا له من سؤال محير ماذا كان يعرف أيوب عنه؟. "أخيراً إن كان عندك فهم؟" والواقع أنه لا يفهم شيئاً عن هذا الأمر. "من وضع قياسه. لأنك تعلم؟". إنه في الحقيقة لا يعلم. "أو من مدّ عليها مطماراً. على أي شيء قرّت قواعدها؟". هناك حقيقتان خاصتان بالأرض. أولاهما الثبات والاستقرار في الوقت الحاضر وذلك ما يشار إليه هنا بالقواعد والأسس. وثانيتهما ونجدها أيضاً مذكورة في هذا السفر هي أن الأرض معلقة على لاشيء (ص 26: 7). وهذه الحقيقة الثانية لم تخطر على ذهن أحد من البشر سوى مؤخراً نسبياً وحتى العلماء لم يتوصلوا إلى معرفة هذه الحقيقة إلا في العصور الحديثة. ولكن هاهي تسبقهم في الكتاب المقدس. إن الأرض معلقة على لا شيء، وهي لذلك تتمتع بثبات عظيم وانتظام رائع دقيق في مدارها، حتى لكأنها تبدو أن لها الأساسات العميقة الراسخة. ولكنها بهذا وذاك تبين عظمة قدرة الله، لأنها وإن كانت معلقة على لا شيء من المخلوق فإنها معلقة تعليقاً كاملاً على قوة الخالق.

"عندما ترنمت كواكب الصبح، وهتف جميع بني الله" لقد خلق الله الملائكة قبل أن يخلق الأرض ولكن هذه الحقيقة لا يشار إليها في الإصحاح الأول من سفر التكوين والسبب واضح.

فالهدف الأول في (تكوين 1: 1) هو إعلان خلق جميع الكون حيث لم يكن شيء. فالله خلق الكون، السموات والأرض، وكل ما فيهما، ولكن في حالة تختلف جد الاختلاف عن حالتها الراهنة هذا ما يعلنه (تكوين 1: 1) في البدء خلق الله السموات والأرض، ثم يأتي العدد الثاني ليبين أن انهياراً كاملاً قد حدث . حالة خراب أو (Chaos) وغير المؤمن يبدأ دائماً بهذا، ولكننا نحن نبدأ بالله الخالق. ولكن حالة الخراب المشار إليها كانت كلية الأهمية للإنسان عندما يُخلق على الأرض إذ كيف كان يمكن للإنسان بدونها أن يصل إلى أحشاء الأرض وينتفع بما اختزنته له أعماقها من كنوز؟ كيف كان يمكنه العلم للاستفادة بما احتوته من نفائس الذهب والفضة والأحجار الكريمة والمرمر والإردواز والجرانيت وسائر الأشياء الأخرى النافعة إلى أقصى حد والتي سبق الله فخلقها قبل خلق الإنسان. وقد كانت كلها مخبوءة في أعماق أغوار الأرض ولم يكن ممكناً للإنسان أن يشتبه مجرد اشتباهٍ في وجودها ثم يتحول هذا الاشتباه إلى يقين وبالتالي يبدأ الإنسان في البحث عن هذه المعادن والكنوز الثمينة الكامنة في باطن الأرض – تقول إن هذا كله لم يكن ممكناً إلا بفضل شيء واحد وهو ذلك الانقلاب الخطير أو الخراب الشامل الذي رفع إلى الطبقات العليا من القشرة الأرضية بعضاً مما كان مدفوناً في أغوارها العميقة، حتى أنه يمكن القول أن جميع أعمال التعدين التي مارسها الإنسان في الوقت الحاضر تقوم على أساس حقيقة قوة الله التي في طور من أطوار الخليقة جعلت أسافل الأرض أعاليها أو قل جعلت محتوياتها الباطنية تعلو إلى سطحها الخارجي.

ذلك لأنه ما من أحد من الناس يستطيع أن يخبر بما في أعماق جوف الأرض. فالإنسان مع كل محاولاته لم ينفذ إلى أكثر مما يوازي قشرة البرتقالة بالنسبة للبرتقالة نفسها وهو جزء يسير للغاية بالنسبة لأعماق أحشاء الأرض، إذاً فما يملأ جوف الأرض لا يعرفه الناس على وجه اليقين. قد يتحاجون في حقيقته، وما يسوق عليه الحجة واحد، يسوق الحجة على خلافه آخر. والحقيقة أنهم لا يعلمون. وهذا ما كان الله يقود أيوب لأن يدركه – جهله الكامل.

فما هو أثر ذلك على رجل تقي يؤمن بالله وبإرشاده إيماناً حقيقياً؟ ما هو أثر إدراكنا بأن جهلنا عظيم إلى هذا الحد؟.

لاشك أن هذا كله يقودنا إلى الاتكال الكلي على الله والثقة المطلقة فيه. وذلك كان الشيء العظيم الذي فشل فيه أيوب وبسببه تذمر واستذنب الله. صحيح أنه لم يستطع أن يفهم سر الأمر ولكنه كان يمكنه أن يؤمن وكان ينبغي عليه أن يؤمن. وهنا كثيراً ما نفشل نحن أيضاً لأننا دائمو الاستعداد للمحاججة والتذمر كأيوب. ومهما كان الأمر فإن الله يتحدث هنا جلياً عن سلطانه العظيم في الخليقة وهو له المجد يستأنف حديثه حول هذا الموضوع في الأعداد التالية.

يبدأ الرب بالأرض، مسكن الإنسان. أفيعلم أيوب تاريخ مكان سكناه؟ أين كان يوم وضع المهندس العظيم أسس الأرض، غائرة لا في باطن الرمال المتقلبة ولا فوق الصخور الصلدة، بل في الفراغ الخاوي، فراغ العدم؟.

تستطيع معارف اليوم أن تتحدث إلينا بأسلوب علمي عن السديم وعن النظام الشمسي، عن الجاذبية ونواميس الجاذبية، وتستطيع أن تفسر لنا أن التبادل الحركي القائم بين هذه النواميس قد منح الأرض شكلها وعلاقتها الثابتة بالأجرام السماوية تستطيع أن تفسر لنا أنه بواسطة قوانين التماسك والتزاوج أو التقارب الكيميائي. التصقت معاً ذرات الأرض وتقاربت. على أن وجود القانون يفترض وجود مشرّع، مانح للقانون، فمن ذا الذي أنشأ هذه القوانين؟ وكيف تعمل جميعاً دون توقف؟ إن الإعلان، والإعلان فحسب، هو الذي يعطينا الجواب – "فيه" أو "به يقوم الكل" (كولوسي 1: 17). فأين كان أيوب؟ أين كان الإنسان؟ يوم أنشأ الرب هذه القوانين والمبادئ؟ يوم أدار دفتها؟ إن الصورة التي وضع الرب بها هذا السؤال كانت تناسب معرفة أيوب في ذلك الوقت، وبالقياس عينه تناسب معرفة الإنسان المتطور في عصرنا الحاضر بل الواقع أنه قصد بتلك الصورة أن تقود أفكاره إلى آفاق من الحق أوسع.

ويعود الرب يتساءل: من وضع مقاييس هذا البناء المشمخر ومد عليه مطماره؟ إن السؤال يوحي بإمكانية وجود شخصية أخرى، شخص آخر اتحد معه تعالى، عمل بالنيابة عنه في رسم الخطة الكبرى وتنفيذها، فمن هو؟ "الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم.. ومن قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أبدئت" (أمثال 8: 25). أو في لغة العهد الجديد "كل شيء به كان". نحن هنا أمام حقيقة أعجب من الخليقة، حقيقة تحدثنا عن شريك إلهي كان وهو ينفذ مشاريع أبيه متلذذاً بها. يضع عينيه على أهداف أخرى "ولذاتي مع بني آدم". وفي الطبيعة، كما في كل شيء آخر، نستمع إلى الله يقول "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا".

حجر الزاوية، قواعد الأرض، من وضعها؟ أين هي؟ ما هو قانون الطبيعة أو الكيمياء؟ أوَ يعرف العلم اليوم أكثر مما كان أيوب يعرفه حينذاك؟ إن الذرة، والأيونات، تتجمع معاً – متشابكة أو مفككة – بقدر ما تؤثر عليها قوانين أخرى. ولكن أين قانون الأساس؟ "لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وضع الذي هو يسوع المسيح" (1 كورنثوس 3) فالقدوم إلى الله، معرفة الله، هو هدف كل الحقائق، ولن تكون الطبيعة على توافق تام مع القانون الوساطي الكبير إلا إذا كانت تقودنا إلى المسيح نفسه. إنما من هذه الزاوية فقط نستطيع أن نصغي إلى كواكب الصبح مترنمة معاً. إنما من هذه الزاوية يهتف جميع بني الله.

جميلة جداً هذه الأقوال وهي تصف الفرحة التي تصاحب تأسيس الخليقة الأولى. فالطبيعة كانت كلها نغماً واحداً متفقاً، والسموات تعلن مجده. فإن حدث تنافر أو نشاز فليس لعيب من جانبه في أن يحمل كل شيء بكلمة قدرته. وكذلك الأمر مع الكائنات السماوية "الرياسات والسلاطين في السماويات" هي الأخرى هتفت مبتهجة حينما انفتحت أمامهم منظرة الطبيعة العجيبة.

من ذا يحد جمال هذه الخليقة العجيبة؟ إن حواسنا المحدودة إنما تقيس حيزاً أو جانباً من كمالاتها، لكن تضافرها الواحد مع الآخر، أعاليها وأغوارها، من يستطيع أن يسيرها؟ من يقدر أن يقول: لو كنا من حدة البصر أو وضاحة السمع بحيث نعدل تلك الشخوص الأثيرية، إذاً لاستطعنا أن نلتقط موسيقى الدوائر البعيدة؟ وإذا كان الضوء والحرارة والصوت ارتجاجات أو ذبذبات، فمن ذا الذي يقول أن اللون ليس له موسيقاه الخاص؟ إن لم يكن لها عطر يلائم النغمة الحلوة؟

إلا أن معرفتنا محدودة. فإنه حتى هذه الخليقة الأولى العجيبة، نحن نجهلها جهلاً مطبقاً. والشيء الذي نعلمه يجعلنا نتحقق من عظمة المحيط الذي لا نعلم عنه شيئاً. والنور الذي بين أيدينا يكشف الظلمة الكثيفة المحيطة بنا.

على أن هذه الأرض المستقرة، بكل قوانينها المجهولة أو المعروفة جزئياً، إنما هي الغرفة الأمامية، أو المدخل، للعالم أو الكون الأدبي. فالطبيعي رمز على الأدبي والروحي، قوانين الجاذبية، والنسبية العددية، والخواص الكيميائية، إنما هي رموز لما هو أعمق. إن هذه الحسبة: 2+2=4 في كل مكان وعلى المدى، هذه الحسبة تعلن عدم تغير برّ ذاك الذي أقام هذه الحقيقة الأساسية. وعملية الاحتراق في كل مراحلها المختلفة تذكرنا بقداسة "إلهنا" الحارقة، إلهنا الذي هو "نار آكلة" إذ نتأمل في هذه السجايا أو الخصائص التي تطبع لون الله الأدبي. لابد أن يغمرنا ليس فقط الإحساس بجهلنا بل كذلك الإحساس بأننا مغايرون لنظامه المقرر.

وإذا ما اجتزنا، بالفكر، إلى الخليقة الجديدة في أعجب ما يمر قدام أبصارنا: عظيماً جليلاً منوعاً مطلق الكمال! فالأرض المستقرّة، بنواميسها العظيمة، إنما هي ظل للأرض الجديدة التي يسكن فيها البر. ظل للمسكن الجديد، مسكن الحق والمحبة حيث لا تقربه الخطيئة. لقد أعلن الله لنا هذا بروحه، غير أننا "نعلم بعض العلم" وهذه المعرفة تنشئ فينا اتضاعاً، ومن ثم سجوداً وتسبيحاً.

ذلك أن الله – تبارك اسمه – قد أعطانا أن نعرفه في شخص ابنه الحبيب. وهذه هي الحياة الأبدية، التي تربطنا بالأمجاد العتيدة التي لا تفنى. أوَلا نستطيع – وبطريقة أتم وأرقى – أن نشارك في حلو نفحات "أبناء الصبح" – لأننا أبناء نهار – ونهتف مع "بني الله" وأكثر مما يهتفون؟

لا حاجة بنا أن نسأل أولئك الذين تفتحت عيونهم وأفئدتهم عن مبلغ ما ساهموا به إزاء هذه العظمة وذاك الصلاح وتلك المحبة. إنما نحن نغطي وجوهنا ونعود بالمجد كله للرب.

تلك هي الحقيقة العظمى التي ينطوي عليها أول أسئلة الرب. إذا ما أجيب على هذا السؤال بما يقنع الإنسان ويشبع الله نستطيع أن نشارك في إنشاد هذه التسبيحة "سبحوا الرب من السموات. سبحوه في الأعالي. سبحوه يا جميع ملائكته. سبحوه يا كل جنوده. سبحيه يا أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور" (مزمور 148).

"وكل خليقته مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر كل ما فيها سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين" (رؤيا 5: 13).

[2] (ع 8- 11) تخوم البحر.

"ومن حجز البحر؟" لقد تطلع إلى الأرض والآن يتطلع إلى البحر. "ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه؟".

نعم، لقد كان جباراً ذلك الوليد، ذلك المخلوق الجديد الذي لا يضبط، الذي اندفق فخرج إلى دائرة الوجود! ولكن ما أروع أن يتحدث الرب عن تغطيته بالسحاب وتقميطه بالضباب. "وجزمت عليه حداً وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعدى وهنا تتخم كبرياء لججك".

ينتقل الرب من الأرض إلى "ذلك البحر العظيم الواسع الأطراف" الموصوف هنا ليس في خلقه الأصلي، كجزء من السموات والأرض. بل كخارج مندفق من رحم أمه. لقد كان يغطي كل وجه الأرض "وعلى وجه الغمر ظلمة". ولو أن البحر تُرك لذاته لطوى كل شيء، لكن صانعه هو سيده، فقد أقام له حدوداً، وكأنه يقتحم سلاسل الجبال العظيمة ليفسح له مكاناً، مسوَّراً مسيَّجاً مغلقاً في وجه كل انطلاق واندفاع ، وما عواصفه وثوراته في يدي القدير سوى عويل طفل وليد، يلفه في قماطة السحب وكثيف الظلام، ويهدهده حتى ينام.

"رفعت الأنهار (أو الفيضانات) يا رب، رفعت الأنهار صوتها سترفع الأنهار ضجيجها (أو أمواجها) الرب الذي في الأعالي أقدر من أصوات مياه كثيرة ومن غمار أمواج البحر" (مزمور 93: 3، 4).

فمن البداية، ثم في الدينونة حينما سمح الرب للبحر أن يغمر الأرض، عمل على ردع واحتجاز المحيط الجبار القلق. الإنسان يحملق فيه مرتاعاً خائفاً لكنه لا يملك أن يتحكم في قوته. قد يرسل أساطيله، ألوف أساطيله، ليمسح البحر ويكتسحه، ولكن بلا جدوى، قد يبعث إلى الأرض تخريباً وتخريباً، غير أن سيطرته تخونه بعد الشاطئ.

وما أوفق ما يتعلم الإنسان من هذا المحيط الجبار، عن عجزه وجهله! وكم من الأسرار تطويها أعماقه! لكن الله وحده تحكم فيه وسيطر عليه، أوقف أمواجه المتكبرة بمغاليق حتى لا تعبر.

هكذا الحال في أوقيانوس الشر – كبرياء الشيطان التي انطلقت في التمرد على الله يوم لم تحفظ الملائكة مكانها الأول (Their First Estate) على أن يد الله الرادعة تضبط الكل وتكبح الجامح. الأشرار كالبحر المضطرب، وإنهم يرتفعون ويرتفعون ظلماً وكبرياء، لكن الله يقول لهم "إلى هنا تأتون ولا تتعدون". وهكذا نرى سلطانه الرادع لكل شر: تبارك اسمه. ولا عجب أن أيوب وهو يرقب الشر بادي النصرة، ويرى إلى ما يجيش به قلبه العنيد، قد ارتعب وارتعد: ومن غير الله يقدر أن يضبط الشر؟.

إننا لنتشوق إلى الزمن الذي ستكون فيه هذه السيطرة الضابطة المطلقة في السموات الجديدة والأرض الجديدة حين "البحر لا يوجد فيما بعد" وانتظاراً لذلك اليوم المجيد، يوم يمضي الشر طريداً إلى مسكنه الأبدي بعيداً عن خليقة الله المعذبة، نستطيع أن تعترف به تعالى كالمتسلط الوحيد.

إن الأرض والبحر يشملان العاملين العظيمين اللذين يضعهما الله أمام عيني الإنسان.

[3] (ع 12- 15) النهار والليل.

"هل في أيامك أمرت الصبح؟" إنه ينظر إلى تغير النهار والليل ويقول هل أنت الذي نظمت هذا كله أو هل تعرف شيئاً عنه وكيف صنع؟

"هل عرَّفت الفجر موضعه ليمسك بأكناف الأرض؟  أي عندما تشرق الشمس بنورها الذهبي. "فينقض الأشرار منها، لأن ظلمة الليل هي التي تتيح الفرصة للقتل والنهب والسرقة وكل مفاسد وشرور الناس الأخرى أكثر من أي وقت آخر. "تتحول كطين الخاتم". لأن الأرض عندما تكون مغطاة بظلمة الليل الداكنة فإنك لا تستطيع أن تبين معالمها أكثر من قطعة الطين قبل ختمها بالخاتم. ولكن بمجرد أن يشرق النور فعندئذ يتجلى لك على الفور كل ما أسبغه الله عليها من جمال وكل ما أثبته على سطحها من مبدعات – تلك العظائم التي لا يمكن أن تتبين منها شيئاً في الظلام "ويمنع عن الأشرار نورهم وتنكسر الذراع المرتفعة".

ينتقل الرب إلى ملامح الطبيعة العظيمة المتكررة كما نراها، النهار والليل. فهل وقع لأيوب مرة أن أمر صبحاً واحداً بالظهور؟ أو جعل الفجر يعرف مكان بروزه؟ ذلك أن الإنسان بكل ما لديه من معرفة وسلطة، لا يملك أن يأمر قوى الطبيعة فتأتمر له.

لكن النور يبرز في مكانه المرسوم يوماً فيوماً، يفيض على الأرض من ضوئه، ومنه يهرب المجرمون "ثم يحل المساء، ولن تستطيع كلمة من إنسان أن تعطل أو تدير سير هذه الحركة الدائبة. لقد ألقى واحد فقط كلمة آمرة منذ البداية "ليكن نور" ومن تلك اللحظة فصاعداً عرف المساء والصباح موضعهما وزمانهما. غير أن يشوع، متكلماً بكلمة الرب. استطاع أن يوقف دورة النهار. وكذلك استطاع النبي أن يقدم لحزقيا علامة إلهية هي إرجاع الظل مع الساعة الشمسية (أي ما يترجم "الدرجات")، غير أن هاتين الواقعتين إنما تعززان الحقيقة المسلم بها وهي أن الله وحده هو الذي يستطيع أن يأمر النور ومكتوب "أنا مصور النور وخالق الظلمة" (إشعياء 45: 7). ألا فلنرمق الشمس الغاربة، ولنرمق فجر اليوم الجديد مذهولين، ولنهتف من أعماق قلوبنا قائلين "لك النهار ولك أيضاً الليل. أنت هيأت النور والشمس" (مزمور 74: 16). لقد عرف الفجر موضعه – في السماء لكنه يختلف كل يوم على مدار السنة. ورجال الفلك يميزون اختلافاته الموضعية والزمنية معاً. على أن كل شيء كامل وتام، الكل ينشد بتسبيح ذاك الذي يأمر والذي يصرّح "تجعل مطالع الصباح والمساء تبتهج" (مزمور 65: 8) وحكمتنا في أن نرقب ونعترف جميعاً بصنع إلهنا وتدبيره الحكيم.

ومع تفجر النور يختبئ الأشرار وهنا ينطبق حرفياً ورمزياً على أعمال الظلمة غير المثمرة. وكما يترك الخاتم طابعه على قطعة الطين (أي الصلصال) هكذا يطبع النور على وجه الأرض أشكال وألوان جميع الأشياء، فتبدو كثياب أو لباس مزركش (أو العكس، كمشهد الخراب – تحت ضوء النور، فالنور يبرز الأشياء على حقيقتها "كل ما أُظهر فهو نور" (أفسس 5: 13). أما الليل فهو نور الأشرار، لأنهم ينبذون النور ولا يريدون أن يأتوا إليه لئلا توبّخ أعمالهم. إذ أن دخول النور يوقف أعمالهم، ومن ثم تنكسر ذراعهم المرتفعة.

وهكذا نور حضرة الله يكشف الشر، فحين يأمر فجر اليوم الجديد أو يبرز – "يوم الرب" حينئذ يتزعزع فاعلو الشر من الأرض. ولهذا السبب فإن شعبه الذين هم أبناء نور وأبناء نهار ينظمون حياتهم بالنور. ولهذا السبب فلن يدخل ما يصنع رجساً إلى رحاب تلك الأرض البهية حيث لا يكون ليل هناك. نعم، فهي يومئذ موطن النور، ولن يستطيع أحد أن يبقى فيها سوى أبناء النور "الخروف سراجها" هذا الاستشهاد بالنهار والليل غاية في التأثير فهل أيوب يتهم ذاك الذي هو النور، والذي يرى كل شيء على حقيقته؟ هل يرتاب فيمن يعلم سرائر قلبه وعلة هذه التأديبات؟ ألا يبدو من هذه الأسئلة أن الله سوف ينهي ليل أيوب، وأنه في الوقت المعيّن سيأمر الفجر المنير أن يفتقد المتألم المسكين.

[4] (ع 16- 21) الأعماق المجهولة.

ثم يعود إلى البحر بنظرة أخرى، ليس إلى تدفق المياه المضغوطة بقوة الله، بل إلى منابعه التي ينفجر منها "هل انتهيت إلى ينابيع البحر أو في مقصورة الغمر تمشيت؟". والآن ينزل إلى ما هو أعمق من ذلك، فإن الهاوية مكان الأرواح الراحلة، تصور لنا قلب الأرض. "هل انكشفت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب ظل الموت؟" ثم يصعد إلى السطح فيقول:

"هل أدركت عرض الأرض. أخيراً عرفته كله!" ماذا تعرف عن ذلك. "أين الطريق إلى حيث يسكن النور؟" لا يقول أين يسكن النور، أو من أين ينشأ النور بل أين الطريق. فقد اكتشف العلم الحديث أن للضوء حالة حركة أو موجات اهتزازات سريعة تسير بسرعة 186 ألف ميل / ثانية وهذا ما سبق الكتاب وقرره هنا عرضاً.

"والظلمة أين مقامها. حتى تأخذها إلى تخومها وتعرف سبل بيتها. تعلّم لأنك حينئذ كنت قد ولدت وعدد أيامك كثير" ويواصل الله جسّ نبض أيوب فيما له صلة وثيقة بقوة النور الكاشفة لكل شيء.

فهل يعرف السرائر "التي هي الله"؟ أعماق البحار الدفينة بكل ما تطويه من بقايا أموات بلا عدد، أبواب الموت وما وراءها: هل فحص أيوب هذه؟ هل عرف عرض الأرض – كل ما يحتويه؟ وهل يعرف العلم هذا حقيقة؟ ما هو "سكن" أو أصل النور؟ وما هو مقام الظلمة؟ لقد طالما تساءل الناس وتماحكوا في شأن أصل الشر، وماذا عساهم يعرفون بعيداً عن الإعلان الإلهي؟

لقد وضح لرجال العلم في السنوات الأخيرة أن الشمس ليست هي مصدر النور الذي يقوم وله وجود بالاستقلال عنها، بل كذلك بالانفصال عن كل مصدر آخر منظور وهذه الأسئلة يوجهها الرب ليس إلى أيوب فقط، بمعلوماته المحدودة في يومه – بل إلى رجال يومنا الحاضر.

[5] (ع 22- 30) العناصر.

يبين الله هنا أن عنده مخازن لا يعرف الإنسان عنها شيئاً وأن الله يستخدم هذه المخازن أو يجعلها تعمل عملها كلما شاء. "أدخلت إلى مخازن الثلج. أم أبصرت في مخازن البَرَد التي أبقيتها لوقت الضر، ليوم القتال والحرب؟".

نتأمل الموريين كيف هلكوا بفعل حجارة البَرَد التي أمطرها الله عليهم في الطريق إلى بيت حورون في أيام يشوع، وكيف أنه أمطر ناراً وكبريتاً في حالات أخرى على مدن الدائرة" (يشوع 10: 11)، (تكوين 19: 34).

"في أي طريق يتوزع النور. وتتفرق الشرقية على الأرض؟" كما يقول الكتاب عن الشمس "لا شيء يختفي من حرّها" (مزمور 19: 5). "من فرّع قنوات للهطل، وطريقاً للصواعق ليمطر على الأرض حيث لا إنسان".

نعم إن الله يهتم بالحيوانات الساكنة في البرية، بل هو يهتم بأحقر الحشرات، إنه يهتم ويفكر في حينه. لا إنسان هناك له أيضاً أفكاره وخططه ومشروعاته، وهناك يتجلى جوده وصلاحه. "ليروي البلقع والخلاء وينبت مخرج العشب" هذا هو عمل المطر العجيب وكم للمطر من الفوائد.

"هل للمطر أب، ومن ولد مآجل الكل (أي نقط الندى)، من بطن من خرج الجمد (أي الجليد) صقيع السماء من ولده؟ كحجر صارت المياه. اختبأت وتلكد وجد الغمر".

يتكلم الرب عن ظواهر الثلج والمطر والصقيع والطلّ. ونتائجهن على الأرض وعلى الإنسان. وهنا أيضاً تتجلى غباوة الإنسان وعجزه أمام حكمة الله وقوته وإحسانه، كما ويده التأديبية.

للثلج والبَرَد مخازن: أين هي؟ لا في منطقة خافية. في كتل ضخمة، ولا في البخار النائي عن مدى الأبصار والذي يملأ الجلد كما يحب العلم أن يقول – بل إلى ما وراء ذلك تقع تلك المخازن، مستودعات الرحمة والقضاء: إنها في يد الله؟ كلمته هي أنشأتها وأبرزتها – الثلج لحماية العشب في الشتاء، للتبريد والترطيب والإنعاش صيفاً، والبَرَد لإفساد خطط الأعداء واكتساح أحكامهم ومشاريعهم (أشعياء 28: 17). نحن نعلم أن الثلج يتكون من فعل وتأثير البرد على البخار، فيحول ذراته إلى بلورات بديعة المنظر منوعة الأشكال. هذه الأشكال من خططها؟ وهذه البلورات: ناموس من هي تتمم؟ خلاصة فكر من هي تعلن وتكشف؟

وفي جانب خاصية البرودة التي يتصف بها الثلج. فهو من الناحية الأخرى يتميز بالبياض المطلق والصفاء أو النقاوة. وربما لم يكن أيوب يعلم أن هذا البياض مردّه إلى انعكاس الضوء الصافي الأبيض من أوجه بلوراته العديدة. ولكن كم من "خزائن" البياض يحتفظ بها الله؟ هو نور، وحقيقة أن الثلج يعكس ضوء الشمس تكشف عن إعلان بره الجوهري في عملية الفداء التي جعلته تعالى يقول "إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج" (أشعياء 1: 18). فالخطايا التي كانت تصرخ مرة للانتقام، هي الآن – بفضل دم المسيح الكريم – تعكس مجد صفات الله "لإظهار بره ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية 3: 26).

ففي الفداء الذي في المسيح يسوع خزائن لا تفرغ، خزائن بياض وحماية لخطايا العالم. ومن هنا ما أشد رعب الدينونات والأحكام التي سوف تتخلف عن رفض تلك النعمة! "غضب الخروف" – وهنا يتساقط الثلج في عاصفة هلاكية لا ترحم.

هذه الفكرة تتعزز في البَرَد، قطرات المطر المتجمدة. أجل، فإن تلك القطرات التي تروي الأرض لتخرج ثمارها، تحولت إلى غضب مميت!هكذا يختزن ويدخر العالم الذي يرفض المسيح "غضباً ليوم الغضب" الذي في البَرَد صورة أو تشبيه له (خروج 9: 22، حجي 2: 17، مزمور 18: 12، رؤيا 16: 21).

على أن الأحكام المرعبة – "فعله الغريب"، تعالى – تعلن مجد برّ لا يلين ومملوء محبة "النار والبَرَد والثلج والضباب (أي البخار) الريح العاصفة الصانعة كلمته" (مزمور 148: 8).

فليحدثنا العلم عن كل ما يستطيع كشفه من نواميس البلورات الثلجية وآثارها، من اختلاف درجات الحرارة لتيارات الهواء، عن الشحنات الكهربائية والمعادلات، ولنتعمق في أقصى ما نستطيع في هذه العلل لثانوية، ولسوف نجد أنه بمثابة الدار الخارجية لمساكن الله، مظهر سجاياه وخصائصه، تقودنا إلى أقداس شخصه المعلن، كما نراه في المسيح يسوع.

وإذ ينتقل الرب من ظواهر المطر والثلج، يتساءل أيوب عن كيفية توزيع النور. وما أعجب توزيعات أو تفريق النور – يتسلل إلى كل جزء من الأرض حيث تسقط أشعته. وما أسرع "أجنحة الصبح" سرعة خاطفة تدق على الفكر. تومض من الشمس إلى الأرض في لحظات قصار. وما أجمل تلك التوزيعات كما نراها في الطيف. قوس قزح الذي تصبغ المناظر كله بألوان حية. ودعنا نتساءل معاً: لماذا، وكيف، نرى ما هو أخضر وما هو أزرق وما هو أحمر؟ هل يكفي أن يقال أن كل مادة تعكس نوعاً معيناً من الأشعة؟ وإن هذه، بدورها، تنشأ بفعل ذبذبات منوّعة ذات سرعة لا يمكن تصورها؟ وإننا نتساءل عن الأشعة السينية بما تنطوي عليه من قوة نافذة وعن الأشعة فوق البنفسجية والأشعة الحمراء، ذات الخواص الحرارية والكيماوية، لا ريب أن لدى العلم كثيراً من الحقائق تحدثنا بها، مما يملؤنا إعجاباً ودهشة، ورهبة وسجوداً – ولكن عمن؟ إنه بقدر ما نكثر معلوماتنا عن مظاهر إعلانه، تقل معلوماتنا بشخصه الكريم، إلا حين يعلن ذاته في المسيح ومن الشرق، مبعث الضوء، تأتي كذلك الريح الشرقية الكاسحة موزعة في العاصفة على الأرض. صورة لغضب ذاك الذي تكلم في النور كلاماً يشبه الهمس. ولكن حتى الريح الشرقية في قبضته، يسيطر عليها ويتحكم فيها بإرادته تعالى.

على أن العواصف، والسحب العاصفة، إنما هي مقدمة للمطر، وهنا أيضاً نرى الله يبعث الانتعاش والحياة بعد العاصفة. وكذلك كانت الحال مع أيوب، فإن التأديب الذي أصابه لابد أن تعقبه قطرات المطر. ومن يعرف كيف "يفرّق" أو يوزع هذه القطرات المحيية المنعشة؟ إن الإنسان إنما يوزعها بغير عدالة أو مساواة، أو في غير أوقاتها المناسبة. لكن الله يعلم متى وكيف يرسل الراحة المرتقبة. بل إن الصاعقة والبرق والرعد ليست إلا مركبات تنقل قطرات الماء، كما يقرر العلم اليوم.

ما أوسع الدائرة التي يتوزع أو يتفرق إليها المطر، حيث تصل إلى ما وراء مساكن الإنسان، إلى قفار الأرض. وحيث تنمو أدق أوراق النبات، فهناك الحقيقة الباقية "مراحمه على كل أعماله".

كل هذه ليست مجرد أفعال من جانب الله، إنما هي – إن جاز هذا التعبير – نسل وذرية محبة الله وعنايته. فالمطر والندى والثلج والضباب كلهن أولاد الإله العظيم الصالح. كما يقول واحد:

  كل هذه أعمالك                             يا أبا كل صلاح

هل نشك في إلهنا هذا الطيب؟ هل نسيء الظن والحكم على أعماله وأفكاره تعالى؟ في الواقع أن عدم إيماننا وعدم رضائنا يشهدان ضدنا كما أن شكايات أيوب كانت شاهدة عليه.

[6] (ع 31- 33) الأجرام السماوية.

"هل تربط أنت عقد الثريا، أو تفك ربط الجبار، أتخرج المنازل في أوقاتها، وتهدي النعش مع بناته؟".

هنا يوجه الرب أيوب إلى مختلف النجوم ومجموعاتها ويسأل ما هو شأن أيوب بها وهل هو يعلم كيف صارت هكذا أو كيف ترتبت وتشكلت على هذه الصور العجيبة؟.

"هل عرفت سنن السماوات. أو جعلت تسلطها على الأرض؟" إن هذه الأوضاع السماوية لها تأثيرها العظيم على الأرض، وهو تأثير إما للخير أو للشر. ومن هو الذي حدد هذه الأوضاع كلها. هل أنت يا أيوب؟.

"أترفع صوتك إلى السحب فيغطيك فيض المياه. أترسل البروق فتذهب وتقول لك ها نحن. من وضع في الطنحاء حكمة. أو من أظهر في الشهب فطنة، من يحصي الغيوم بالحكمة. ومن يسكب أزقاق السماوات؟".

هذه أمور مستحيلة على الإنسان ولكنها جميعاً في منتهى البساطة عند الله، وهي تأتمر بأمره في كل ناحية منها وفي أبسط مظاهرها إذ ينسبك التراب سبكاً، ويتلاصق المدر".

وفي إشارة الرب إلى الجند السماوي يكاد يتناول أقوال أيوب (ص 9: 9) فإنه تعالى يذكر أسماء كويكبات معينة أو منازل معينة، كالثريا والجبار، والمجموعات التي تؤلف النعش أي الدب الأكبر الذي يشير أبداً إلى الشمال. وقد تنوعت وازدادت آراء المفسرين في شأن معاني هذه الأعداد. فهوذا جانب منهم يظن أن الحديث عن الثريا إنما يشار به إلى كوكبة من الجواهر اللامعة فيضعون العدد هكذا "هل تقدر أن تربط (البروش) البراق على صدر الليل؟.

ويرى البعض أن المعنى المفهوم من الثريا هو تلك المجموعة الكوكبية التي من خصائص الربيع كما أن الجبار من خصائص الشتاء، وعملية فك ربط الجبار معناها إطلاق الشتاء. كما أن ربط أو تقييد مؤثرات الثريا الحلوة من شأنه تعويق أو إبطاء الربيع. كأن الرب يريد أن يقول لأيوب: هل تقدر أن تعطل قدوم الربيع أو تنهي موسم الشتاء؟ أوَ تستطيع أن تبدل نظام أجناد السماء ومسيرها الأمامي، أو تومئ للشمال فيغيّر موقفه؟ وقد قيل أن "الثريا" معناها (مفصّلة) أو محور تدور حوله كل الأجرام السماوية. ويصرّح العالم بأن الكون المنظور بأسره يبدو في نظرنا بطيئاً (ومع ذلك فما أسرعه سرعة لا يدركها الوعي) يدور حول نقطة ارتكاز مجهولة، ليست بعيدة عن مفصلة الثريا – فماذا إذا كان الله يعطي أيوب فكرة عن نقطة الارتكاز العظيمة هذه التي تضبط وتربط كل الأشياء بها؟ إذا كان يقصد تعالى أن يبين لعبده حقيقة ذاك الذي يمسك بيده كل الأشياء.

إن شيئاً واحداً نعرفه وهو أن الله، والله وحده، يستطيع أن يمسك الكواكب في يده ويحصيها ويدعوها بأسماء "لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يتوقف منها واحد" (أشعياء 40: 26).

إن أشعياء النبي كان يذكّر إسرائيل المكروب أن هذا الإله القوي يعرف ذلّهم وطريقهم. إن أعظم قوى الكائنات البشرية لابد أن تضعف وتخور "أما منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون" (أشعياء 40: 27-31).

إننا إذا تطلعنا إلى تلك السماوات فلا ريب في أن عجزنا يهوّلنا ويروعنا. ولكن عندما نتساءل "من هو الإنسان؟" فإن الله يكشف لنا في الحال عن ذاك الذي وضع قليلاً من الملائكة من أجل ألم الموت نراه مكللاً بالمجد والكرامة، مقاماً على كل أعمال يديه (عبرانيين 2).

نرى شبه ابن الإنسان لكنه في الوقت ذاته هو القديم الأيام. فهو الذي يمسك السبعة الكواكب في يمينه. وهو الذي دفع ليده كل سلطان في السماء أو على الأرض، هو يربط وهو يفك. يحطم قيود أو يفك ربط ليل الخطيئة الشتوي الطويل ويقود الربيع الأبدي للظهور المنير، وإننا لنسبق الزمن فنسمعه بأسلوب النشيد يقول: "الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال. الزهور ظهرت في الأرض، أتى أوان الغناء" (نشيد 2: 11، 12).

إنه لم يعطنا أن نبدل نظام الطبيعة أو نصعد إلى تلك السماوات، لكنه يعلمنا أن نقدم الجواب الصحيح على أسئلته له المجد وهذا الجواب هو "نرى يسوع".

"أنا أعلم أنه حي الآن، في يمين الله في الأعالي" "أنا أعرف العرش الذي عليه يجلس، أعرف حقه وحبه".

[7] (ع 34- 38) السحب والتحكم فيها.

يختم الرب هذا الجزء من حديثه بأسئلة جديدة لأيوب عن السحب، والعواصف والمطر، أفيستطيع أيوب أن يستنزل المطر، أو يتحدث إلى وميض البروق؟ هل يبين جنبيه ذلك القلب الفهيم الذي يعرف أسباب الغيوم – غيوم المطر، أو غيوم الأحزان – التي ترسل القطرات الندية إلى الأرض المتربة؟ ألا ما أفضله وأكمله طعاماً تقدمه هذه الأقوال للتأمل الوقور ولهج التعبد ألا ليت روح هذه المزامير الثلاثة، مزامير الخليقة والطبيعة (مزمور 8، 19، 104) ألا ليت "كورس الهللويا" الذي تقدمه لنا المزامير الأخيرة. تستقر علينا ونحن نتأمل في هذا الميدان العظيم.

* * *

والآن نأتي إلى عالم الحيوان في دائرة الطبيعة وتعتبر الأعداد (ع 39-41) تتبع الإصحاح التاسع والثلاثين وتعتبر فاتحته لأننا بها ننتقل من نجوم السماء إلى حيوانات الأرض.


(ع 39- 41) إعلان عنايته تعالى بمخلوقاته.

"أتصطاد اللبؤة فريسة. أم تشبع نفس الأشبال. حين تزمجر في عريّسها، وتجلس في عيصها للكمون.." كلا، لست أنت الذي تفعل ذلك وإنما الرب الذي يهيئ طعاماً للأسود ولأشبالها أيضاً وهي رابضة في مغاراتها، فلا يتركها تموت جوعاً.

ترى إلى أي حد من السهو والغفلة قد يصل الإنسان لو عهدت إليه ليوم واحد مهمة تقديم الطعام حتى لفريق واحد من هذه المخلوقات! إنما عن الله وحده جاء القول "كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه" "تعطيها فتلتقط تفتح يدك فتشبع خيراً" (مزمور 104: 21، 27، 28). فالله ليس فقط يحتمل هذه المخلوقات التي يفترس بعضها البعض، بل كذلك يعنى بها. هي قطعة من سيمفونية الحكيم – أخضعت مرة للإنسان ولكنها انقلبت عليه عدواً قاسياً.

وهكذا كان الشيطان – الذي ضج أيوب من هجماته – مجرد مخلوق من مشيئة الله، ينفذ مشيئة الله حتى عن طريق استخدام عدائه. وإن كان أيوب يجهل أفكاره لكن الله لا يجهلها. ومن غدره وزئيره سوف يخرج الخير. ثم "من يهيّئ للغراب صيده إذ تنعب فراخه إلى الله وتتردد لعدم القوت". فليس الأسد الكبير وحده بل الغراب الصغير نسبياً حين تصرخ فراخه إلى الله، أي نعم إنها تصرخ إليه. إنها لا تتذمر ولكنها تصرخ. إنها تعبر عن حاجتها. والله خالقها قد وضع هذه الغريزة فيها. إنها تصرخ والله يسمع صراخها كأنها موجهة إليه مباشرة تبارك اسمك يا رب! "تتردد لعدم القوت" ولكنه يسمعها ويستجيب لصراخها.

والرب يقول للتلاميذ "تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيتها، كم أنتم بالحريّ أفضل من الطيور" (لوقا 12: 24).

هكذا تنعب الغربان، فراخها القصيرة الباع. لكن الله يطعمها إن هذه الطيور التي تحيا على الجيف قد تبدو أكثر أذى للإنسان منها نفعاً، لكن الله يعنى بها. ولاحظ أنه سواء فيما يتصل باللبؤة أو الغربان، فإن الأشبال وفراخ الغربان هي موضع اهتمام الله. فهي عاجزة كل العجز، لا تملك سوى الصراخ تستلفت به النظر. غير أن إلهنا المحسن لا يغلق أذني عنايته حتى عن نعيب الغراب.


معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح الثامن والثلاثون

ص   ع           الكلمة                      معناها

38: 3           تلكّد          :     تجمد. أصبح جليداً.

38: 5           مطمار         :     خيط للبناء يقدر به.

38: 6          قرّت           :     تمكنت، تثبتت.

38: 7         كواكب الصبح :    الملائكة.

38: 8          مصاريع        :    المصراع أحد غلقي الباب.

38: 8          الزائر           :     الذي يزأر وهو الأسد.

38: 8          اندفق           :    انصبّ.

38: 8          الرحم          :    وعاء الولد في البطن.

38: 9          قماط           :    ما يلف به الوليد في المهد.

38: 10        حزمت         :    وضعت عليه.

38: 11         تتخم          :     يوضع له تخوم، أو حد.

38: 13         أكناف        :    (ص 37: 3).

38: 14         الخاتم          :    ما يوضع كعلامة للتثبيت والتمييز.

38: 16         مقصورة       :     الدار المحصنة، حجرة عميقة.

38: 17         أبواب الموت   :     مخاطر الموت.

38: 22         البَرَد          :     (ص 37: 9).

38: 23         الضر          :    (ص 15: 24).

38: 24         الشرقية       :    الريح الشرقية. وتسمى ريح السموم (مزمور 11: 6).

38: 24         الهطل          :     المطر الضعيف الدائم.

38: 25         الصواعق      :    (ص 28: 26).

38: 27         البلقع         :    الأرض القفر - البرية.

38: 28         مآجل         :    مستنقع الماء.

38: 29         الجمد         :    (ص 37: 10).

38: 29         صقيع         :     الساقط من السماء ليلاً وكأنه ثلج.

38: 30         تلكّد          :    لزم بعضه بعضاً.

38: 31         الثريا          :    (ص 9: 9).

38: 31         الجبار         :     (ص 9: 9).

38: 32         المنازل        :     بنات نعش.

38: 32         النعش        :     (ص 9: 9-38: 32).

تابع معاني الكلمات الصعبة

ص    ع          الكلمة                      معناها

38: 33         سنن        :    طريقة أو فريضة.

38: 36         الطنحاء     :    السحاب المرتفع.

38: 36         الشهب     :     شعلة من النار ساطعة، والدراري من الكواكب.

38: 37         أزقاق       :    وعاء من الجلد – قربة (جمع زق).

38: 38         المدر         :    (ص 7: 5).

38: 39         اللبؤة        :    أنثى الأسد.

38: 40         تجرّمز        :    تنقبض (اللبؤة) وتجمع بعضها إلى بعض استعداداً للوثوب.

38: 40         عرّيس       :     مأوى الأسد، عرين.

38: 40         عيص        :    الشجر الكثيف الملتف.

38: 41         تنعب        :    نعب الغراب مد عنقه وحرك رأسه في صياحه، أو حرك رأسه بلا صوت.

الغراب أنواع (لاويين 11: 15) إن الله جعل الغربان وهي آكلة لحوم تحضر لحماً إلى عبده إيليا في وقت المجاعة (1 ملوك 17: 4، 6) والغربان طيور شرهة وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيتها، فبالأولى يطعم الذين هم له. (لوقا 12: 4، مزمور 147: 9، أمثال 30: 17، نشيد 5: 11).

  • عدد الزيارات: 15250