Skip to main content

من جهة منح البركة وتقبل العشور

عندما غزا "كدر لعومر" ملك عيلام[1]، هو وحلفاؤه، مدينتي سدوم وعمورة قديماً، وأسروا الكثير من سكانهما، ومن بينهم لوطاً وأولاده شق الأمر على ابراهيم (وكان وقتئذ يدعى "أبرام[2]")، لأن لوطاً كان يمت إليه بصلة القرابة. ومن ثم انقض هو وغلمانه على الغزاة، فهزموهم واسترجعوا لوطاً وأولاده، والأسرى الذين كانوا معهم.

وبينما كان أبرام راجعاً من الغزو، خرج ملكي صادق للقائه وقدم له ولغلمانه خبزاً وخمراً، وباركه قائلاً له "مبارك أبرام من الله العلي مالك السموات والأرض. ثم شكر الله قائلاً "ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك". حينئذ قدم له أبرام (1/10) الغنائم التي كان قد استولى عليها من الغزاة (تكوين14: 8- 24)- ومن هذه العبارة يتضح لنا ما يأتي:

1-(أ)-عندما علم ملكي صادق بانتصار أبرام، رفيقه في عبادة الله العلي، تقدم بروح كهنوتية كلها محبة وإخلاص وقدم لأبرام ولغلمانه خبزاً وخمراً. والراجح أنه قدم لهم كمية كبيرة منهما حتى تكفيهم جميعاً، لاسيما وقد كانوا منهوكي القوى بسبب الجهود التي بذلوها في الحرب، وكانوا في حاجة ماسة إلى ما يقويهم وينشطهم- وطبعاً لم يقدم ملكي صادق لهم لحوماً أو فاكهة وقتئذ، لأن العادة جرت قديماً على تقديم الخبز والخمر للمسافرين لاحتمال بقائهما مدة طويلة دون أن يصيبهما العطب. ولأنهما كانا أيضاً الغذائين الرئيسين في تلك الأيام (تكوين27: 28، مزمور104: 14، 15، إشعياء36: 17، إرميا31: 12) (ل)

(ب)-وإذا نظرنا إلى ربنا يسوع المسيح نرى أنه هو الذي يمدنا في العالم الحاضر بالأطعمة الروحية المتنوعة التي تشبع نفوسنا وتنشطها وتملؤها فرحاً وابتهاجاً، الأمر الذي كان يرمز إليه قديماً بالغرض من تناول الخبز والخمر الماديين- هذا من الناحية التعليمية. أما من الناحية النبوية، فإننا نعلم أن الشبع والفرح بالمعنيين الروحي والمادي معاً لا يتحققان، إلا تحت رياسة المسيح المباشرة على العالم، لأنه هو الذي بيده كل البركات الروحية والمادية، وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أنهما سيتحققان تماماً في الملك الألفي، لأن في هذا الملك سيكون له المجد الملك الوحيد على العالم كله (إشعياء11: 1، زكريا14: 9).

وقد أشار يوحنا الرسول إلى هذا الملك فقال "رأيت ملاكاً نازلاً من السماء... فقبض على... إبليس... وقيده ألف سنة. وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكي لا يضل الأمم فيما بعد حتى تتم الألف سنة... ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع... فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة، وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف سنة...هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة" (رؤيا20: 1- 6). ولذلك نادى بهذا الملك كثير من علماء المسيحيين، في القرون الأولى مثل بابياس ويوستينوس وايريناوس وكبريانوس ونيبوتي (تاريخ الآباء في القرون الثلاثة الأولى للدكتور أسد رستم ص125 والخريدة النفيسة للأسقف إيسوذورس ج1ص229) كما نادى به كثيرون في العصر الحاضر، نكتفي بذكر بعض الأرثوذكس، منهم ابن كاتب قيصر (قانون الأرثوذكسية ص18و 183)، وعريان مفتاح (الدرة البهية ص62) (م).

(ج)-وبعد ما أعطى ملكي صادق الخبز والخمر، لابراهيم، باركه (عبرانيين7: 1)- والبركة هنا ليست أمنية من صغير نحو كبير، بل هي عطية من كبير إلى صغير. فقد قال الرسول بهذا الصدد "وبدون جدال، الأصغر هو الذي يبارك من الأكبر" (عبرانيين7: 7) الأمر الذي يدل على أن ملكي صادق أعظم من ابراهيم. ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة، أن ملكي صادق بارك أبرام قبل أن يعطيه أبرام عشر الغنائم التي كان قد استولى عليها، الأمر الذي يدل على أن محبة ملكي صادق كانت محبة خالصة، وأن مباركته لابراهيم كانت حقاً حسب مشيئة الله. لكن إذا تطلعنا إلى العهد الجديد، نرى أن بركة المسيح لنا فاقت بركة ملكي صادق لأبرام بدرجة لا حد لها. فقد قال الوحي إن الله باركنا في المسيح بكل بركة روحية في السماويات" (أفسس1: 3)، إذ صالحنا بموته الكفاري مع الله إلى الأبد (2كورنثوس5: 18). كما أدخلنا إلى أقرب نسبة معه، إذ جعلنا أولاداً وأحباء له (1يوحنا3: 1) يجد لذاته ومسرته فينا (أمثال8: 31، لوقا2: 14).

(د)-وأخيراً إذ علم ملكي صادق أن عبيد أبرام الذين غزوا جيوش العداء المتعددة، كانوا لا يزيدون وقتئذ عن 318 شخصاً، أدرك أن الفضل في انتصارهم على هؤلاء الأعداء يرجع إلى قدرة الله العلي وحده. ومن ثم فبروح كهنوتية خاشعة تنحني أمام الجميل والمعروف، رفع الشكر عالياً لله العلي الذي جاد بالنصرة على عبده أبرام[3].

2-وإذ أدرك أبرام مكانة ملكي صادق، قدم له من تلقاء ذاته عشر الغنائم التي كان قد استولى عليها من أعدائه، اعترافاً منه بأن هذا الرجل هو كاهن الله العلي. لأن العشور كما أعلن الوحي، تقدم[4]لله ممثلاً في خدامه فقد قال تعالى لبني إسرائيل فيما بعد، إن عشر حبوب الأرض وأثمار الشجر والبقر والغنم يجب تقديمها للاويين خدامه (تثنية12: 17). ومن ثم فإن كهنة اليهود الذين كانوا يأخذون العشور من إخوتهم، دفعوا هم أنفسهم العشور لملكي صادق، وذلك حال كونهم في صلب ابراهيم أبيهم، الأمر الذي يدل على أن كهنوت ملكي صادق أعظم من كهنوتهم كثيراً كما ذكرنا (عبرانيين7: 4- 10).


58-بلاد عيلام هي بلاد إيران الحالية.

59-هذه الكلمة معناها "أبو العلا" أما كلمة "ابراهيم" فمعناها: "أبو جمهور". وقد دعاه الله بالاسم الثاني عندما رأى إيمانه، ووعده بأنه سيكون أباً لجمهور كثير من المؤمنين.

60-مما تجدر الإشارة إليه أن أبرام تأثر وقتئذ بقدرة الله العلي وشبعت نفسه به شبعاً لا مزيد عليه، ولذلك احتقر كل مقتنيات العالم وترفع عن اشتهائها. ومن ثم عندما قال له ملك سدوم بعد ذلك: أعطني النفوس، وأما الأملاك فخذها لنفسك. أجابه على الفور "رفعت يدي إلى الرب الإله العلي مالك السموات والأرض (الذي كان لا يزال اسمه الكريم يرن في أذنيه) لا آخذن لا خيطاً ولا شراك نعل. ولا من كل ما هو لك. فلا تقول أنا أغنيت أبرام" (تكوين14: 21- 23)- وهذا الموقف هو الذي يجب أن يقفه كل المؤمنين الحقيقيين الذين شبعت نفوسهم بالرب، إزاء كل ما في العالم من ثروة وجاه.

51-ومع ذلك فإننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الأتقياء كانوا يرون أن كل ما لديهم هو ملك لله، ومن ثم كانوا يقدمون منه لشيء الكثير لخدمته تعالى. فمثلاً عندما قدم داود ورجاله حوالي مليار من الجنيهات الذهبية في عصرهم لأجل بناء الهيكل، قال الله: "لأن منك الجميع. ومن يدك أعطيناك" (1أخبار29: 14)، أو بالحري ليس لنا فضل في هذا المبلغ على الإطلاق.

  • عدد الزيارات: 4026