Skip to main content

الفصل السادس: عصمة المسيح

إن التعرّض لأمر عصمة المسيح وعدم ارتكابه لأي خطأ أو شر وتوافر كافة مزايا الكمال والطهارة والقداسة في حياته هو أمر في غاية الحيوية بالنسبة للعقيدة المسيحية عن المسيح بمجملها. إن عصمة المسيح هي العمود الفقري لصموده النهائي وثبات مؤهلاته لأن يكون وسيطاً حقيقياً بين الله والناس. فلو أنه أخفق ولو في زلّة واحدة خلال حياته على الأرض لتهدّم كل البناء الذي جاء لإقامته.

عصمة المسيح قبل كل شيء هي المحك الأساسي لكون المسيح ذا طبيعة إلهية. ثم إنها الدليل على أنه كان الإنسان الصالح الوحيد الذي بمقدرته المبنية على الطهارة والكمال تمكّن من حمل عقاب الآخرين. إضافةً إلى ذلك فإن قيامة المسيح من الموت ما كانت ممكنة إطلاقاً لو لم يتمتع المسيح بتلك العصمة المطلقة عن الخطأ. لعل تلك الحقائق هي من أكثر معطيات الإنجيل نصاعةً وجلاء.

من غير المناسب بالطبع أن لا نبدأ في عرض موضوعنا هذا بالنظر إلى أوصاف المسيّا المنتظر التي طرحتها تنبؤات أنبياء وأسفار العهد القديم. فقد كان من المفروض فيه أن يكون تقي الله الذي لم يرَ فساداً (مزمور 16: 10) وأن يكون عمانوئيل وليد العذراء الذي يعرف "أن يرفض الشر ويختار الخير" (نبوة أشعياء 7: 15و16)، وهو "عبد الله الذي يعقل ويتعالى ويرتقي ويتسامى جداً.... بحبره شفينا... الرب وضع عليه إثم جميعنا.... على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غشّ... البار...." (نبوة أشعياء 53). من هنا كان يجب على الملاك الذي بشّر مريم أن يعرّفها بأن المولود منها هو "القدّوس.... ابن الله" (لوقا 1: 35).

لكن الشهادة لعصمة المسيح في متضمنات الوحي الإلهي لم تكن مجرد تصريحات، بل إنها كانت مدعمة بحقائق ملموسة وظاهرة للعيان وموضوعية لدرجة أذهلت من عاصروا المسيح ولفتت انتباههم كينونة اختلافه عن باقي البشر. هذا مهم للغاية لأن الكثيرين أخذوا بمعجزات المسيح لدرجة أنهم اعتقدوا بأن ذلك هو السبب الجوهري الوحيد الذي سحر الجموع التي تبعته وآمنت به وإن لفترة وجيزة على الأقل. صحيح أن الأغلبية الساحقة بين الذين تبعوا المسيح في مطلع خدمته اجتذبتهم القوة الخارقة التي سيطر فيها على العوامل الطبيعية. لكن الواقع أن ذلك لم يكن العامل الوحيد لاجتذاب أي من أتباعه ورسله الذين التصقوا به وكرّسوا حياتهم لخدمته. لقد كانت لأخلاقه لمعان وطهارة، وكان لأسلوب ودوافع حياته أعظم الأثر وأعمق الواقع على هؤلاء، بل لعّل ذلك هو العامل وراء حياة الطهارة والقداسة التي مارسها ملايين المسيحيين عبر الأجيال.

الشهادة لعصمة المسيح لم تأتِ من ملائكة الله والمؤمنين فحسب، بل أيضاً من بعض أعدائه. مثال ذلك ما ورد على لسان الخائن يهوذا الذي أسلمه للموت مقابل حفنة حقيرة من النقود. فهو إذ شعر بالندم على عمله المرذول هذا ألقى بتلك النقود على الأرض أمام أولئك الذين أعطوه إياها قائلاً: "قد أخطأت إذ سلّمت دماً بريئاً" (متى 27: 4). ثم إن زوجة الحاكم بيلاطس التي أزعج منامها خبر القبض على يسوع وتسليمه لسلطان زوجها للمحاكمة قالت لزوجها: "إياك وذلك البار" (متى 27: 19). وبيلاطس نفسه إذ أدرك سمو وطهارة المسيح، وبعد أن منعه جبنه وخوفه من اليهود على مركزه من إطلاق سراح المسيح قال لهم: "إني بريء من دم هذا البار" (متى 27: 24)، أما ذلك الذنب الذي كان أحد الاثنين الذين صلبا معه، إذ أدرك براءة وطهارة المسيح صرّح قائلاً: "أما نحن فبعدلٍ ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله" (لوقا 23: 41). كما أن القائد الروماني للمجموعة العسكرية التي أشرفت على صلبه إذ صعقته حقيقة السمو الأخلاقي والأدبي للمسيح المصلوب قال: "حقاً كان هذا ابن الله" (متى 27: 54).

لكن شهادة المؤمنين والرسل لعصمة المسيح لا تقل أهميةً عن تصريحات هؤلاء، خاصةً وهم مجموعة الناس الذين تقرّبوا إليه وتعرّفوا على ما قد نسميه بحياته الخاصة. وهم بالطبع أول من تقع عليه مسؤولية دحض إدعاءات المعارضين، ولذلك كان لزاماً عليهم أن يكونوا الأكثر حرصاً على عدم التورط في تصريحات أو أقوال يستعملها أعداؤهم لمحاولة إثبات ضلالهم. ومع ذلك نجد أن التردد لم يطرأ ببالهم وهم يفصحون عن عصمة سيدهم عن الخطأ. الرسول بطرس قال عنه: "قدّوس الله" (يوحنا 6: 69). و"لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر" (رسالة بطرس الأولى 2: 22)، والرسول يوحنا قال عنه: "ليس فيه خطية" (رسالة يوحنا الأولى 3: 5). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فقال: "مجرّب في كل شيء مثلنا (ولكن) بدون خطية" (4: 15)، وقال: "بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب" (9: 14). ثم يأتي دور الرسول بولس مضطهد أتباع المسيح الذي اهتدى بعد ذلك وقال عن المسيح: "لم يعرف خطية" (2كورنثوس 5: 21).

بيد أن الوحي الإلهي يسجل لنا كيف أن المسيح كان قد وضع نصب عينيه منذ البداية الطاعة الكاملة والمطلقة لشريعة الله وكيف أنه لم يتزحزح عن إصراره هذا حتى قاده ذلك إلى الموت (راجع رسالة فيلبي 2: 8). وتصريحات المسيح نفسها تدل دلالة قاطعة على وعيه الدائم بضرورة القيام دوماً بما يرضي الله (يوحنا 7: 29). كان يسوع في صراع مستمر ضد مغريات إبليس الهادفة لإسقاطه وتفشيل مهمته الخلاصية، والواقع أن مواجهته المباشرة مع عدو الخير كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية التحضير لخدمته الجهارية، بل إنها كانت مفتاح تلك الخدمة لأنها كانت تمثل الحاجز الرئيسي الذي كان يجب عبوره قبل البدء في تلك الخدمة. عندما نقرأ ما دوّنه الوحي الإلهي بهذا الخصوص نرى أن محاولات إغراء إبليس ليسوع في البرية كانت مبنية على نفس عناصر الإغراء التي تعرّض لها أبوينا آدم وحواء (قارن تكوين 3: 1-7 مع لوقا 4: 1-13). تلك العناصر تركزت على شهوة الجسد (الأكل) وشهوة العيون (المنظر الخارجي المغري للأشياء) وشهوة العظمة الاجتماعية (أي تحسين وضع الفرد ومركزه الاجتماعي). وبينما الرغبة في أكل ثمرة الشجرة المحرمة والتمتع بمظهرها الجميل والسعي للوصول إلى مركز الإله الخالق (الذي وعدت الحية حواء به) كانت قد أضعفت صمود حواء وآدم وأسقطتهما في العصيان، فإن المسيح استطاع، ورغم عظمة وفداحة جوعه بعد أربعين يوماً من الصوم والضعف الجسدي، أن يرد إبليس ويقهره بعد كل هجوم. آدم وحواء لم يثبتا في كلمة ومواعيد الله وصدّقا تشكيك الشيطان في صدقها. أما يسوع فكان متسلحاً بكلمة الحق الموحى بها من الله بالذات التي بواسطتها صدّ يسوع كل تيارات الهجوم الشيطانية. عندما عاود إبليس الكرّة الهجومية محاولاً إغراء يسوع وإلهائه عن تكميل مهمته الخلاصية، كان يسوع واعياً لذلك ووقف له بالمرصاد. وقد أخبر يسوع تلاميذه بذلك قائلاً: "... رئيس هذا العالم (أي الشيطان) يأتي وليس له فيّ شيء" (يوحنا 14: 30).

ولعل أبرز وأعظم ما ورد في الوحي الإلهي من أدلة على عصمة يسوع عن الخطأ هو ما قاله يسوع في مواجهته للقيادات اليهودية الدينية التي بنت حياتها على تقوى خارجية زائفة مفعمة بالرياء. فبعد أن قال لهم بأنهم ينتسبون إلى إبليس الكذّاب والقتّال وبأنهم ينفّذون شهواته الشريرة بالذات نراه يتحداهم مشيراً لعصمته وإلى تلك الهوة الأخلاقية والروحية الساحقة التي تفصله عنهم فيقول: "من منكم (يستطيع أن) يبكتني على خطية" (يوحنا 8: 46). والمسيح هنا لم يكن يقصد التمييز ما بين كماله وعصمته وبين شر وفساد ورياء هؤلاء القادة فحسب، بل إنه طرح وبدون تردد حقيقة تميزه عن كافة الجنس البشري بذلك الكمال وتلك العصمة.

صحيح أن يسوع في تجسده خضع لكافة مغريات وتجارب السقوط في العصيان التي يتعرض لها البشر، لكنه هو وحده لم يسقط، وهو وحده لم يكن من الممكن أن يفشل، لقد كان من المستحيل له أن يرتكب خطية، لأنه وهو في طبيعة بشرية محدودة كان لا يزال يتمتع بطبيعة إلهية، والله لا يمكن أن يرتكب خطأ. هذا أمر جوهري للغاية بالنسبة لتأهله لأن يأخذ على عاتقه تلك المهمة الخلاصية الهامة التي حملها. من هنا كان لاتساع بل ولعدم محدودية عصمته وكماله الحق في تحمل نتيجة خطية عدد لا يحصى من بني البشر. من هنا أيضاً مثّل انتصاره على الموت، الانتصار على الخطية بالذات التي تقودهم إلى الموت، وبالتالي تأمين الحياة الأبدية الأكيدة لهم وليس مجرد الوفاء بمتطلبات العدالة الإلهية بالنيابة عنهم. (راجع كورنثوس الأولى 15: 51-58). 

  • عدد الزيارات: 3321