Skip to main content

الفصل الثالث: وظائف المسيح الرسمية الثلاث - ثالثاً: المسيح الملك

الصفحة 4 من 4: ثالثاً: المسيح الملك

ثالثاً: المسيح الملك

إنه من الطبيعي جداً أن يكون للمسيح، وهو الإلهي الطبيعة، نصيبه الأزلي في التسلّط على الكون. ذلك هو حقّه الإلهي. لكن المسيح له مكانته الملكية الخاصة بصفته الوسيط بين الله والناس، مخلّص بني البشر الخطاة. إذاً ملكية المسيح التي نحن بصددها الآن تتعلق به كابن الله المتجسّد، فهو في طبيعته البشرية إنسان أعطي سلطة خاصة لتكميل ملكوته الروحي في الكنيسة وذلك بحفظها وحمايتها وقيادته لها نحو المجد الأبدي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المسيح أيضاً بصفته الفادي والوسيط، لديه سلطة خاصة كملك على كل المخلوقات، بما في ذلك الأبالسة والبشر غير المؤمنين. هذا بالطبع يرجع إلى ملكيته الفريدة في النهاية عندما "يضع جميع أعدائه موطئاً لقدميه" (مزمور 110)، وحين يكون قد أخضع الكل وصار الكل في الكل. (راجع رسالة كورنثوس الأولى 15: 24-28).

إن الجانب الأول من ملكية المسيح إذاً يرتبط بعلاقته بالمفديين. فهو ملكهم الروحي وله سلطة على خلاص وفداء النفس. تلك المسؤولية كانت هي أيضاً ضمن مواصفات المسيح المنتظر التي كان قد سبق للمشورة الإلهية وقضت بها: "أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي" (مزمور 2: 6). هذا هو الوعد المعطى للملك داود الذي كان رمزاً للمسيح الملك الحقيقي. إن الوحي الإلهي يقول في هذا الصدد "أقسم الرب لداود بالحق. لا يرجع عنه. من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مزمور 132: 11). لأجل هذا السبب دُعي يسوع "ملك اليهود" و"ابن داود"، ولعل هذا هو السبب الرئيسي من وراء ما تضمنه الوحي الإلهي لتلك القوائم الطويلة عن أنساب المسيح، بسبب ضرورة إثبات صلة قرابته بالملك داود. هذا وإن الوحي الإلهي كان قد سبق ووصف المسيح بأن "تكون الرياسة على كتفه.... لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد..." (نبوة أشعياء 9: 6-7، راجع أيضاً نبوة ميخا 5: 2 وزكريا 6: 13). أما بشارة الملاك لمريم فقالت عن المسيح الموعود بقدومه: "هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 32-33). هذا ما أقرّت به الجماهير الغفيرة عندما هتفت قائلةً: "مبارك الملك الآتي باسم الرب" (لوقا 19: 38)، أما يسوع فقد أشار إلى طبيعة مملكته تلك عندما دحض أقوال زعماء اليهود الذين اتهموه بالتآمر على نظام الحكم الروماني، فقال: "مملكتي ليست من هذا العالم..." (يوحنا 18: 36). هذا الجانب الروحي لملكية المسيح هو في موضعه الملكي على شعبه المؤمن. وهذه الملكية تتخذ إطاراً روحياً على قلوب وحياة المؤمنين ولها بعد روحي ألا وهو خلاص الخطاة. أما وسائط هذا الجانب من ملكه فهي روحية أيضاً: فهو يحكم بواسطة كلمته وروحه. وهو يعبر عن ملكه هذا بواسطة تجميع وحكم وحماية وتكميل كنيسته. إن ملك المسيح هذا يسمى في العهد الجديد "ملكوت الله"، وقد دعي في الإنجيل حسب كتابة متى "ملكوت السموات"، ولا يخفى على بال أحد أن متى وهو يكتب أصلاً لمجموعات من اليهود أراد أن يتجنّب استعمال التعبير "ملكوت الله" لأن الكثيرين من اليهود كانوا قد تعودوا على تفضيل الإشارة إلى الأمور التي تخص الله بتعبير "السموات"، ذلك أنهم آثروا التقليل من استخدام اسم الله في أحاديثهم اليومية. ومهما تكن التسمية فإن أعضاء ذلك الملكوت الروحي الذي يملك عليه المسيح هم المواطنون أعضاء كنيسته الحقيقية المفدية التي اقتناها بدمه الطاهر (راجع أعمال الرسل 20: 28).

لكن للتأثير الروحي لمملكة المسيح، الذي هو ملكوت النور، بعد أوسع من حياة المؤمنين. فحيثما وجدت كنيسته وتزايد تأثيرها على المجتمع يلاحظ نمو غير عادي للوفاء والمحبة والعدالة وروح الطهارة والقداسة والجد والتضحية والسلام. هذا ما يعكسه مثلا الزارع والشبكة اللذين ضربهما المسيح نفسه (راجع متى 13: 24-30 و47-50). فالمسيح عندما يملك على قلب البشر ينقلهم من ملكوت الظلمة حيث هم بالطبيعة مستعبدين للشر إلى ملكوت النور حيث كل جمال وحسن وصلاح (راجع متى 12: 28، لوقا 17: 21، رسالة كولوسي 1: 13)، وإذ يرى الناس حياة هؤلاء المتغيرة والمخلوقة من جديد بواسطة روح المسيح، يمجدون الله، (متى 5: 16). من هنا كان امتداد تأثير ملكوت المسيح.

لكن ملكوت المسيح المعطى له بعد التجسّد امتد بشكل أوسع إثر قيامته، لذلك صرّح لتلاميذه قائلاً: "دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28: 18). كان هذا جزءاً لا يتجزأ من مقاصد الله الأزلية وعمله "الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السموات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل" (الرسالة إلى أفسس 1: 20-23). ومع أنه قبل تجسّده كان يتمتع بهكذا سلطان على كل شيء. إلاّ أنه بعد قيامته رسّخ بشكل جديد ملكه على الكل، وهو في ذلك يتحكّم في جميع ظروف مسار التاريخ البشري بأسره لأجل تكميل عمله الكفّاري ولأجل حماية كنيسته من كل خطر من شأنه عرقلة مسيرتها الروحية نحو الكمال الذي أراده لها.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 16509