Skip to main content

بحث في القيامة والصعود - ثالثاً اعتبارها كدليل على لاهوت المسيح

الصفحة 4 من 4: ثالثاً اعتبارها كدليل على لاهوت المسيح

ثالثاً اعتبارها كدليل على لاهوت المسيح

إن المسيح في حياته على الأرض قال عن نفسه مراراط كثيرة أنه ابن الله، قولا عدّه خصومه أنفسهم أنه يقصد به مساواة نفسه بالله، وعليه حسبوه مجدّفاً وبنوا على ذلك أنه غاش لا ينبغي أن يسمع كلامه. ومع أنه عمل عجائب كثيرة ليبرهن لها على لاهوته- فقد قال مرة للمتعصبين أنه لا تعطى لهم آية إلا آية قيامته لأنها في نظره أهم بل أعظم كل الآيات والمعجزات التي عملها- فقيامته برهنت على أن كل المعجزات التي عملها لما كان على الأرض عملها بسلطانه الإلهي لأنه لو كان كاذباً في دعواه أنه ابن الله لما أمكن أن يقوم من الموت. فقد أظهره الله أنه ابنه وشهد بأبوته له لأنه أقامه من الأموات مبرهناً بذلك على أنه رضي بكفارته التي قدمها عن خطايا البشر وبالتالي على أنه لم يتألم لأجل نفسه بل لأجل شعبه، الأمر الذي لا ينتظر حدوثه إلا من قبل ابن الله.وعليه يبني الرسول قوله: "تعيّن (أظهر) ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 4).

ومن قوله " بقوة " نفهم أنه لا يعني قوة المسيح التي بها عمل المعجزات بل بالحري قوة طبيعته الإلهية التي بها غلب الموت وكسر شوكته وقام منتصراً.وإن تلك القوة الإلهية التي له هي بعكس ضعف طبيعته الناسوتية التي بها احتمل الموت (2كو13: 4). ونلاحظ أن الرسول يعقبها بقوله " من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات ". فقوله من جهة روح القداسة يبيّن أن روحه الإلهي الذي فيه هو الذي حفظ ناسوتيته طاهرة قدوسة بحيث لم يعادله أحد من البشر. فقداسته الكلية دلّت على صدق بنوته لله وعلى أصل عظمته الشخصية وسمّوه.

إنه من الأمور المشهورة والمقررة عند العلماء في هذه الأيام مسألة الوراثة. فأخلاق الآباء والأجداد تظهر في أولادهم. وعدا عن كون هذه الحقيقة مثبتة علمياً فإنها مشاهدة بكثرة لدى كل متأمل. نعم توجد أخلاق اكتسابية يأخذها الإنسان بالمعاشرة أو من الوسط الذي يوجد فيه، لكن تلك الأخلاق الاكتسابية لا تلاشي الأخلاق الوراثية. فكورش الفارسي، مع أنه رضع من امرأة راعي مواش وتربّى في كوخ ذلك الراعي، لكنه لما صار غلاماً لم يسر بألعاب أولاد الفلاحين الاعتيادية، ولذلك شخص مملكة بوزرائها بقوادها بجيوشها بقوانينها مما دل على أنه ابن كمبز ملك الفرس وابن بنت ملك بابل وليس ابن الراعي الفلاح. وعلى ذلك نقول: ممن أخذ يسوع فلسفته وتعاليمه الغريبة؟ فيوسف مربيه كان نجاراً، وهو نفسه لم يتلق العلوم على أستاذ، ولم يجلس تحت رجلي غمالائيل، وفلسفة اليونانيين والرومانيين الشائعة في ذلك الوقت لا يوجد فيها ما يماثل تعاليم المسيح كما ظهر بالبحث والتدقيق. بل لم يقم على الأرض من بداءة وجود إنسان إلى اليوم من علّم نظيرها. ثم لاحظوا مبدأ آخر من جهة روح القداسة. فإننا كلنا نقول: “بالآثام صوّرنا وبالخطية حبلت بنا أمهاتنا "، ولم يقم في البشر من أول الزمان واحد خال من الخطية. فممن من الأجداد أخذ يسوع طبيعته القدوسة؟ وممن أخذ قوة إبداع المعجزات وعمل العجائب العظيمة ما دام لم يقم في الأرض من يذكر بجانبه؟ كذا الوسط الذي وجد فيه يسوع وتربى بين أبنائه هو أمة مستعبدة للرومانيين مهانة جاهلة للعلوم التي كانت شائعة بين العلماء والفلاسفة، ومع ذلك نجد أنه من حداثته كان يناقش علماء اليهود ويباحثهم حتى بهت كل الذين سمعوه، وأصمت كهنة اليهود وكتبتهم وفريسييهم مرات عديدة مع تصلّفهم وكبريائهم حتى لم يعودوا يجسرون أن يقفوا أمامه.والمبادىء التي علّم بها لم يسبقه إليها أحد، ولا يمكن تصور أسمى وأنقى منها في الدين والآداب كما شهد بذلك أعاظم رجال العالم من أعداء وأصدقاء. فقولوا لي ممن من الأجداد أو من أية بيئة أخذ يسوع تلك الطهارة والقداسة في العيشة والتعليم؟ لا يقدر العقل المخلص أن يجيب على هذا السؤال جواباً لا يقبل النقض إلا إذا قال أن المسيح ليس مجرد إنسان بل هو أسمى من الإنسان. نعم قد قال وقوله الحق "أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم. أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق " " أنا من عند الآب خرجت " " أنا ابن الله " و" الله أبي "، وقاليوحنا المعمدان " أنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (ولكي تفهم بنوة المسيح لله راجع الباب التاسع). فكما أن ابن الإنسان إنسان كذلك ابن الله هو الله، فهو ابن الله الأزلي وابن العلي وكلمة الله.

معلوم أن ألإنجيل مؤسس على كون يسوع الناصري هو ابن الله. والذي يميّز المسيحية عن غيرها من الأديان هو الاعتقاد بلاهوت المسيح. على أن توراة اليهود مملوءة من تسمية المسيح المنتظر منهم (واسمه غصن داود وغيره) باسم " يهوه " الاسم العلم للعزة الإلهية عندهم.

نعم من الممكن أن نقول عن المسيح أنه ابن الله من أوجه عدة:

1- من جهة كون جسده الناسوتي لم يؤخذ من زرع بشر بل حبل به بقوة روح الله.

2- نظراً لمشابهته لله في العمل إذ كان يتمم أعمال الله (يو4: 34).

3- نظراً إلى السلطان على كل شيء في السماء وعلى الأرض الذي دفع إليه عند صعوده. لكن المسيح يسوع هو ابن الله ليس بمعنى من هذه المعاني بل بمعنى أنه هو الله نفسه كما ذكرنا. فهذه الحقيقة الساميةكان يجب أن تبرهن ببرهان قوي وتثبت بأدلة متينة، ولذلك رأى في حكمته أن يبرهنها بالقيامة من الأموات. وربّ قائل يقول: كيف يمكن لقيامته التي تستلزم موته ضمناً أن تبرهن على وجوده منذ الأزل كالله، والله لا يموت؟

فنجيب:

1- إن المسيح في حياته كان يقول عن نفسه أنه ابن الله وأن ما يعمله أبوه يعمله هو أيضاً بل أنه عامل في الكون مثل أبيه وادعى لنفسه الألقاب الإلهية والصفات الإلهية وقبل لذاته العبادة الإلهية. فلو كان مدعياً كاذباً لما أمكنه أن يقوم من الأموات إذ أن الله لا يعمل معجزة كهذه مع شخص خادع غاش يسلب حقوق الله لنفسه. فكأنه بقيامته قد ختم على صدق مطالبه التي ادعى بها في حياته.وفوق ذلك فإن تعاليمه التي علّم بها والمبادىء التي قررها هي سامية سمواً إلهياً.

2- إن قيامته من الأموات هي بقوته الذاتية، كما أشار إلى ذلك مراراً في كلامه، فقال لليهود " انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (أنا) " وكان يقول عن هيكل جسده " وقال مرة " لي سلطان أن أضعها (نفسي) ولي سلطان أن آخذها أيضاً (أي ثانية). فمن ذا الذي يقدر أن يقيم جسده من بين الأموات سوى الله الذي لا يموت؟

فعلى كل حال قيامته من الأموات تبرهن على أنه ليس مجرد إنسان بل أنه هو الله الذي أخذ ناسوتاً واتحد به.

ولكي نوضح الفكر من وجهة أخرى نقول: إن كل معجزات المسيح عملت قبل موته؛ ولكن لو لم يقم من بين الأموات لما كان لتلك المعجزات التأثير المطلوب، ولما كان معنى لكرازة خدامه بالإنجيل، ولما كان الإيمان به إيماناً نافعاً بشيء، بل لكان سقط معنى الإنجيل (بشارة مفرحة) من أوله إلى آخره، بل لكان دفن الإنجيل معه في ذات القبر الذي دفن فيه، وبالتالي كانت دفنت المسيحية في القبر ذاته، وذلك لأن القيامة هي التي جعلت أتباعه الجبناء شجعاناً أقوياء، وهي التي جعلت أولئك العاميين العديمي العلم يحيّرون العلماء والفلاسفة " ويقلبون المسكونة " كما شهد بذلك أعداؤهم (أع 17: 6) مع أنهم فقراء ومزدرى بهم وليس لهم جاه ولا سطوة ولا ملك منظور يحامي عنهم ولا سيف يدافعون به بل بالعكس كان كل الحكام والولاة ضدهم. وقيامته أوجدت الشجاعة في نفوس الشهداء حتى قبلوا أصعب الاضطهادات وأمر الميتات وهم واثقون بها بل وهم فرحون بالعذاب لأجلها. فالإيمان ليس هو سبب القيامة بل القيامة هي الموجدة للإيمان. وعليه نقرأ 24 مرة في سفر الأعمال فقط أن الرسل كانوا يكرزون بقيامة المسيح من الأموات، والذين آمنوا بالمسيح آمنوا بكرازة قيامته من الأموات. فهي واسطة وجود المسيحية في العالم، والمسيحية تعلّم أساسياً أن المسيح هو الله فتعليم القيامة يبرهن لاهوت المسيح.

هذا ولا يخفى أنه توجد علاقة حية بين تعاليم المسيح وبين قيامته. فلا تؤخذ قيامته كبرهان فقط على صدقها بل أنها أعظم دليل على قدرته على إتمام وعده لتلاميذه بإرسال الروح القدس ليعدّهم للكرازة بإنجيله وقدرته على إقامة الذين يؤمنون به في اليوم الأخير حسب وعده. وظاهر أن الميت لا يقدر أن يقيم ميتاً، ولا يقدر أن يعطي الروح القدس محيي النفوس. ومعلوم أن إرسال الروح القدس وإقامة المؤمنين في اليوم الأخير هما الركنان العظيمان في كل تعاليم المسيح.

لاحظوا أن اليهود اجتهدوا أن يفنّدوا معجزات المسيح التي عملها وهو على الأرض بنسبة بعضها لقوة شيطانية وبعضها للسحر. ولكنهم رأوا أن قيامته تبرهن ولا شك على تداخل قوة إلهية فيها، ولذلك لم يجتهدوا أن ينسبوها لقوة من القوات الطبيعية أو الشيطانية بل نفوها بتة وقالوا أنه لم يقم بل سرقه تلاميذه. فعملهم هذا برهان على أنهم رأوا في قيامة المسيح أعظم دليل على القوة الإلهية وأعظم برهان على صدق قوله تحت القسم باسم " الله الحي " أنه " المسيح ابن العلي ". فإن كانت قيامة المسيح لا تقنع الناس بلاهوته فلا يمكن الاتيان بدليل أقوى منها لاقناع العالم. والذي يؤمن بواسطة قيامة المسيح من الأموات فلا يؤمن ولو قام هو نفسه من الموت. فما أعظم نصيب المؤمنين بمسيحهم المقام من الأموات!

 الصعود

لنلاحظ هنا أمراً هو من الأهمية بمكان، وهو أن ربنا يسوع قد قام من الأموات- قام منتصراً على الموت فلا يكون للموت سلطان عليه بعد. فإذا كان المسيح قد قام ولم يمت ثانية فأين هو الآن؟ نعم أنه قد صعد إلى السماء وقد نص الإنجيل على ذلك مراراً كثيرة- منها " وفيما هو (المسيح يباركهم (تلاميذه) انفرد عنهم وأصعد إلى السماء” (لو24: 51) ومنها " ولما قال (المسيح) هذا ارتفع وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السما ء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض وقالا أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء "(أع1: 9- 11).

وكما كرز الرسل بقيامة المسيح كرزوا أيضاً بصعوده إلى السماء. فقال بولس الرسول في أف 4: 9" وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل ". كذا بطرس في أول كرازة قدمها لأمة اليهود عن قيامة المسيح وصعوده معاً قال: " فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله... سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه” (أع 2: 32 و33).

وقد أنبأ المسيح بصعوده إلى السماء مرات كثيرة: منها قوله في يوحنا " وليس أحد صعد (لا أصعد) إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء". [1]فقد نزل من السماء آخذاً جسداً ليفدينا من الخطية بموت ذلك الجسد، وإذ أكمل عمل الفداء صعد إلى السماء ليعمل ببركات الفداء في قلوب الناس لجذبهم إليه وتخليصهم من عبودية ابليس وليشفع في الذين يؤمنون به وليعدهم بعمل روحه القدوس ليكونوا مشابهين لصورة قداسته. ومتى كمل عدد المعيّنين للحياة الأبدية من ثم يأتي بذلك الجسد الذي صعد به لينقلهم إليه حتى حيث يكون هو يكونون هم أيضاً ليتمتعوا به نفساً وجسداً إلى أبد الآبدين.

ونختم كلامنا بالقول: إنّا نقرأ عن كيثرين ماتوا وأقيموا ثانية في العهد القديم والعهد الجديد. فإن ابن أرملة صرفة صيدا الذي أقامه إيليا، وابن الشونمية الذي أقامه أليشع، والرجل الذي قام بعد طرحه في قبر أليشع، وابنة يايرس، وابن أرملة نايين، ولعازر، والذين قاموا عند صلب المسيح، وغزالة، قد عاشوا ومارسوا أعمال معيشتهم الاعتيادية ثم عادوا فماتوا ثانية. ولكن يسوع لما قام من الأموات صرف أربعين يوماً على هذه الأرض لكي يري نفسه حياً ببراهين كثيرة للرسل ولآخرين من المؤمنين ثم صعد إلى السماء. ويعبّر عنه الكتاب بأنه جلس عن يمين الله ومن هناك أرسل الروح القدس فحل على تلاميذه يوم الخمسين حسبما وعدهم قبل صعوده ولا يزال يمارس هناك وظيفته الكهنوتية بشفاعته في المؤمنين في كل حين (عب 7: 25). فهذا هو الذي قال "والحي وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين... ولي مفاتيح الهاوية والموت” (رؤ1: 18) فهو حي منذ الأزل لأنه الله وأتى في الجسد وبه مات وقام أيضاً لأنه هو الحي إلى أبد الآبدين. فما أعظم نصيب المؤمنين بمسيحهم الحي إلى أبد الآبدين!

<

[1] - (وقوة هذا الكلام هي في القول " صعد" (وليس أصعد) الدالة على أنه صعد بقوة نفسه أما أخنوخ وإيليا فأصعدا. ناهيك عما في هذه الآية من البرهان على أنه مالىء السموات والأرض إذ بينما هو ابن الإنسان على الأرض هو موجود في السماء).

الصفحة
  • عدد الزيارات: 17315