Skip to main content

الفصل الثاني عشر: لا، للحلول الوسطية

قبل أن يُقدم العديد من المدعوين علماء على دعم نظرية النشوء على نطاق واسع، كان كل مسيحي مؤمن يقبل بالنص الحرفي لسفر التكوين في الكتاب المقدس. وهذا القبول كان خالياً من أي شك  في أمر حداثة عهد الأرض أو في عملية الخلق التي استغرقت حرفياً ستة أيام، كما يذكر الكتاب المقدس. وبعد هذا، اعتمد الشيطان حيلته القديمة المعهودة، محاولاً حَمْلَ المؤمنين على التشكيك في الكتاب المقدس لزعزعة إيمانهم. لقد سبق له أن نجح في إقناع حواء في الجنة، فلماذا لا ينجح من جديد؟ غير أن الشيطان طوّر هذه المرة استراتيجية جديدة، إذ زار جميع جامعات العالم وعرف مقدار ما للعلوم من نفوذ فيها. وهكذا استخدم النشوء لحَمْلِ الناس، ومن جملتهم العديد من المسيحيين، على التشكيك في كلمة الله. كان بإمكانه اختراع أدلّة "لأنه كذّاب وأبو الكذّاب" (يوحنا 8: 44). وقد نجح إلى حدّ كبير، واأسفاه. فغير المؤمنين وجدوا في "العلم" مسوّغاً لهم للعيش في الخطية والتمرد على الخالق، فيما راح المؤمنون يصارعون للتوصل إلى حلول وسطية بين الكتاب المقدس وما ظنه بعضهم أنه ادعاءات علمية.

تحت هول الصدمة، جرى استحداث بعض النظريات على عجلة: نظرية اليوم الموازي لدهر (The Day- Age Theory)، ونظرية الفجوة الزمنية (The Gap Theory)، ونظرية النشوء بمبادرة إلهية (Theistic Evolution) وغيرها. كان الغرض من جميع هذه النظريات إدخال المليارات من سنوات النشوء ضمن الكتاب المقدس. أنا لا أشك على الإطلاق في مصداقية العديد من أولئك الذين طوّروا هذه النظريات، غير أن كل واحدة من هذه النظريات التي تعرض حلولاً وسطية هي مناقضة لكلمة الله وللعلم في آن.

سنتناول ما تنطوي عليه نظريات كهذه من مشاكل. وأنا لا أسعى بذلك لتقويض أي تعليم محدّد، إنما أقصد ببساطة أن أنقل إليك ما كشفه لي الرب من الكتاب المقدس، بالإضافة  إلى ثمرة أبحاثي الطويلة في هذا الموضوع.

1. نظرية اليوم الموازي لدهر (The Day- Age Theory)

كان الهدف من هذه النظرية دمج حقبات النشوء الجيولوجية ضمن أيام الخلق الستة، على اعتبار أن كل يوم يوازي مليون أو حتى مليار سنة، لكن احتمال حدوث هذا الدمج مستحيل، ذلك لأن أيام الخلق لا تتبع الترتيب نفسه لسجلّ المستحجرات الجيولوجي. كما أن هناك تعارضاً بين هذين النظامين في عشرين ناحية على الأقل. ومن جملتها مثلاً:

تظهر الحياة النباتية أولاً في سفر التكوين، لكنها تأتي لا حقاً بحسب نظرية النشوء.

يذكر لنا سفر التكوين أن عملية خلق الأسماك والطيور حصلت في اليوم عينه. أمّا نظرية النشوء فتعتبر أن الزحافات نشأت من الأسماك، ثم تطوّرت على مدى ملايين السنين لتصبح من الثدييات والطيور.

صُنعت الشمس والقمر والنجوم في اليوم الرابع. غير أن انطلاق عملية الحياة، بحسب نظرية النشوء، يستلزم وجودها قبل أي شيء آخر.

خُلقت الحياة النباتية في اليوم الثالث، وبعدها كوّنت الشمس في اليوم الرابع، فإذا سلّمنا فرضاً بأن فترة مليار سنة كانت تفصل بين هذين اليومين، كما تدّعي النظرية، فعندئذٍ تكون النباتات قد حُرمت مليار سنة من نور الشمس.

كذلك خُلقت الحشرات الضرورية للتلقيح في اليوم السادس. فهل حصل هذا بعد ثلاثة أيام أو ثلاثة مليار سنة على خلق النبات؟

دعا الله الإنسان إلى التسلّط على كل كائن قد خلقه تعالى (تكوين 1: 28)، وإلى تسمية كل حيوانات البر (تكوين 2: 19). لكنّ نظام الحقبات الجيولوجية يعتبر أنه قبل ظهور الإنسان كانت قد مضت عدة أجيال على انقراض عدد كبير من هذه الكائنات.

لا أثر في الكتاب المقدس للمطر حتى زمن ظهور الإنسان أو ربما حتى الطوفان (تكوين 2: 5؛ عبرانيين 11: 7). أمّا الجيولوجيون فيقولون إن الأمطار كانت موجودة ما إن بردت الأرض.

نقرأ في تكوين 2: 1- 3 أن كل "جند" الأشياء التي "عملها" الله قد اكتما خلال ستة أيام، وأن الله توقف عن القيام بأي عمل آخر. وهكذا نفهم من سفر التكوين أن عمل الخلق قد انتهى مع نهاية اليوم السادس. وهذا إنما يناقض تماماً ما يدّعيه علماء الأحياء والجيولوجيون العصريون على أن هذه العمليات التي تكوّن العالم على أساسها، لا تزال تحصل في أيامنا.

إن تناول نظرية الموازي لدهر من الزاوية الكتابية، يُضطرنا إلى عرض تفاسير مغلوطة لكلمة الله.

الكلمة "يوم" في اللغة العبرانية والآرامية والعربية تشير في الأساس إلى فترة 24 ساعة. لذا جرى التركيز مراراً وتكراراً على ظاهرة الصباح والمساء، أي أن الأمر كان يتعلق بيوم فعلي (تكوين 1: 5، 8، 13، 19، 23، 31). وقد ورد الحديث عن اليوم هنا بمعنى تعاقب النهار والليل، أو النور والظلمة.

إن نمط حياتنا المؤلف من ستة أيام عمل ويوم راحة، مستوحى من ستة أيام الخلق ويوم الراحة المذكورة في سفر التكوين. ولم يكن أي مسيحي ليحلم قط بنظرية كهذه، لولا الخوف من أن تكون نظرية النشوء على حق.

2. نظرية الفجوة الزمنية

في ضوء ما تضمنته نظرية اليوم الموازي لدهر من نقاط ضعف، قام قَوْمٌ باستنباط نظرية أخرى تُدعى نظرية الفجوة الزمنية. تقترح هذه النظرية أن الله في البدء خلق السموات والأرض كما هو مدوّن في تكوين 1: 1، ثم تلا ذلك دينونة عاد الله بعدها وشرع في عملية خلق جديدة دامت ستة أيام. وهكذا بات بإمكان دعاة نظرية الفجوة الزمنية أن يجعلوا بين تكوين 1: 1و1: 2 سجل المستحجرات الذي يوافق العمود الجيولوجي المنتشر على مدى ملايين السنين. وبذلك يكونون قد لحظوا النشوء ولم ينكروا أهميته.

ولا شك هنا أيضاً في أن هذا الحلّ الاستثنائي جاء وليدة التهديدات المتزايدة التي رافقت الأيام الأولى لصدور كتاب "أصل الأنواع" (The Origin of the Species) [1].ويُرجع أن يكون توماس تشالمرز (Thomas Chalmers)، الواعظ واللاهوتي في كنيسة اسكوتلندا (1780- 1847)، هو أول من وقف وراء نظرية الفجوة الزمنية ووراء شعبيتها. ثم قام بعض المشاهير بتبنّي أفكاره وتطويرها، ونذكر من جملتهم: داربي (Darby)، سكوفيلد (Scofield)، نيوبري (Newberry)، لاركن (Larkin).

كانت فكرة تطوير هذه النظرية مغرية جداً. وهكذا راح كل واحد يساهم في هذا العمل من ناحية معيّنة، ولا سيما أنها أفسحت له هذه النظرية مجالاً لمواجهة بعض المسائل العويصة المختصة بالشيطان والملائكة وحالة الأرض قبل آدم والطوفان قبل نوح. وعليه، تم إيجاد "حلول" لهذه المسائل وغيرها علاوة عن التوصل إلى حلول وسطية مع ما يعتبر في ذلك الوقت تحدياً علمياً لسلطان الكتاب المقدس.

إن معظم دعاة نظرية الفجوة الزمنية يفُصِحون بكل وضوح عن السبب وراء تفكيرهم هذا. فسكوفيلد مثلاً يعرض الدافع وراء دعم هذه النظرية: "لإزالة كل أثر للصراع بين العلم ورواية سفر التكوين عن أصل العالم" [2]. كذلك كتب لاركن في كتابه: "الكتاب الأعظم المختص بتدابير الحق في العالم"

(The Greatest Book on Dispensational Truth in the World) ما يلي:

"يرى العلم أنه كان يلزم آلاف السنين لتكوين الأرض. وهذا الوقت متوافر له في كلمات تكوين 1: 1 الخالدة" [3].

إن محاولات المساومة مع النشوء في نظرية كهذه، أدت إلى عدد لا حصر له من الافتراضات: تكوين الله خليقة مادية من عظام ولحم مخصصة لسكن الملائكة. أو إقدام الله في الماضي البعيد على خلق أرض كاملة لسكن جنس من الرجال من دون نفوس. كما أدّى ذلك إلى تقويم تفسير مغلوط للنص الأصلي لجعله يتلاءم مع الفجوة مهما كلّف الأمر. كذلك أسفر عنه إنكار حقيقة شمولية الطوفان في أيام نوح وأبعاده الكونية.

لقد نتج أيضاً من هذه النظرية، ومن دون علم دعاتها، تمجيد قدرة الشيطان وذلك بافتراضها أن الله كان قد عاقب العالم على خطية الشيطان والملائكة الساقطة. وهكذا تكون صوّرته بشكل يتنافى مع ما يعلنه لنا الكتاب المقدس عن عدله تعالى. لقد تجاهلت رومية 5: 12، هذه الآية الأساسية في الكتاب المقدس، حيث نقرأ أنه بآدم دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وأن آدم كان الإنسان الأول (1 كورنثوس 15: 45).

كيف باستطاعتنا القبول بنظرية حلول وسطية مبنية على افتراضات وأساطير وخيال خصب، ولا سيما أن هذه النظرية التي وضعها أناس زائلون تناقض التفسير البسيط لكلمة الله وترفض حتى كلمات الخالق عينها مدّعية أنه ما كان باستطاعته أن يعني ما نطق به؟ ونحن لنا الحق بأن نغضب عندما تقوم مؤسسات مسمّاة مسيحية بالتلاعب بالتراجم لدعم فكرة ما (مثلاً يوحنا 1: 1) كما تفرض ترجمة نصوص أساسية لتلاءم نظرية الفجوة الزمنية.

نستعرض الآن باختصار بعض المسائل الأساسية التي تكشف ضعفات نظرية الفجوة الزمنية:

إن فكرة احتواء سجل المستحجرات على أنواع من حيوانات منقرضة والتي كان يجب أن تخص عالماً مختلفاً تماماً عن عالمنا هي من الأسباب الرئيسة وراء منطق نظرية الفجوة الزمنية. غير أننا نعرف اليوم أن المستحجرات التي تمّ اكتشافها لم تتغير، في غالبيتها، عن الأنواع الحية المتوافرة حالياً، مع أن قسماً منها يدلّ على بعض الحيوانات والنباتات المنقرضة. وهكذا أربك العديد من المستحجرات النشوئيين بظهورها فجأة على الساحة حية وفي حالة جيدة، بعد أن كانوا قد افترضوا أنها انقرضت. لذا أطلقوا عليها التسمية "المستحجرات الحية".

تشكل الديناصورات مثلاً آخر على هذا. لقد سببت هذه الكائنات مشكلة لدعاة نظرية الفجوة الزمنية إذ فاتهم أن يفهموها، ولذا صدّقوا ادعاءات النشوئيين في ذلك الوقت بان الديناصورات قد انقرضت قبل 70 مليون سنة. لقد ساعد حجم هذه الكائنات الضخمة على إقناع دعاة نظرية الفجوة بأنها كانت تشكّل جزءاً من خليقة سابقة. لكننا نعرف اليوم أن الديناصورات هي أنواع من السحالي. كما لدينا القدر الكافي من المعلومات حول ظروف الحياة التي كانت سائدة قبل الطوفان، ما يمكّننا من إدراك أنها لا تنطوي على أي شيء خارق يفترض تفسيره وجود خليقة سابقة قبل آدم. ونعلم أيضاً أن أيوب رأى ديناصوراً دُعي باسمه الحقيقي "بهيموث" (أيوب 40: 15). راجع القسم III للمزيد من المعلومات.

يحوي العمود الجيولوجي بقايا بشرية وآثار أقدام في محازاة الديناصورات والثلاثيات الفصوص. وهذا يبيّن أن أناساً نظيرنا عاشوا إلى جانب الحيوانات المنقرضة الأخرى، الكبيرة منها والصغيرة. أمّا النشوئيون فلاذوا إلى الصمت حيال هذه المسألة.

يرى دعاة  نظرية الفجوة الزمنية أن الناس الذين عاشوا قبل آدم، هلكوا من جراء خطية الشيطان التي وقعت في السماء. فأية صورة عن إلهنا ترتسم أمامنا هنا؟

إنّ الفكرة اللاهوتية وراء نظرية الفجوة الزمنية هي أن الخطية ليست السبب وراء الموت؛ وهكذا يُعدّ الله مسؤولاً عن إدخال نظام الفساد والموت إلى خليقته، وذلك ضمن عملية إيجاد الإنسان. لكن الكتاب المقدس يعلّمنا بأن الموت دخل نتيجةً لخطية الإنسان.

إذا قبلنا بمستحجرات عائدة إلى زمن قبل آدم، فإننا بذلك ننكر تعاليم أساسية في الكتاب المقدس: (أ) "صار آدم الإنسان الأول نفساً حية" (1 كورنثوس 15: 45)؛

(ب) "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رومية 5: 12).

يخبرنا الكتاب المقدس أن  الله خلق آدم "تراباً من الأرض"، ورأى أنه "حسن جداً". بحسب نظرية الفجوة الزمنية، كان يجب أن يكون الله قد خلق آدم من أرض مملوءة مستحجرات وعظاماً وخراباً. لكن بعد إكماله تعالى عمله كخالق، (رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً) (تكوين 1: 31). فإما أن تكون هذه النظرية عل خطإ وإمّا أن تجعل الله كاذباً(1: يوحنا 5: 10).

يعّد الطوفان في أيام نوح من أعنف الجج ضدّ النشوء. لذا يسعى النشوئيون بكل نشاط لإنكار هذه الحقيقة التاريخية. وكل مؤمن يقبل، بالمقابل، نظرية الفجوة الزمنية كما يقترحها الناس، فإنه بذلك يعطي العدو مكاناً، على الرغم من اطمئنانه المزيّف إلى مكانة حجته من الزاوية الكتابية، والكتاب المقدس يعرض علينا تفاصيل كثيرة حول الطوفان بالتركيز على أهميته وعلى حقيقة أنه كان شاملاً وكونياً: "وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض. فتغطّت جميع الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء" (تكوين 7: 19و 20). كما أن عمق الفلك وسائر مقاييسه قد كتبت بشكل دقيق ومحدّد لأجل تعليمنا (رومية 15: 4). والرب يسوع تحدّث بدوره عن طوفان نوح كحقيقة حصلت على صعيد كوني، عندما قارنه بالخراب الذي سيحصل في المستقبل: "ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع" (متى 24: 39).

ومرة أخرى، استوجبت هذه النظرية تغيير بعض الكلمات في النص الأصلي. مثلاً في تكوين 1: 2:

(أ‌)     العبارة "كانت خربة" تبدّلت على "أصبحت خربة"، العمر الذي لا مسوّغ له من زاوية اللغة الأصلية.

(ب‌)                                                            كما أن الصفة "خالية" تبدلت إلى "متهدّمة" من دون أي سند لذلك.

لنتذكّر باستمرار أن نظرية الفجوة الزمنية هي مجرّد فكرة عن الكتاب المقدس وليست الحق بحدّ ذاته. إذاً ليس من العار أو من الضعف بشيء أن تحصل إعادة التقويم لمدى صحة هذه الأفكار في ضوء ما تقوله كلّمة الله فعلاً. فهناك فرق بين الأسفار المقدسة وما كتبه دعاة نظرية الفجوة الزمنية في الأجيال السابقة.

إن نظرية الفجوة الزمنية هي من إفرازات حقبة نشطت خلالها الحلول الوسطية والمساومة على الحق، عندما كان المسيحيون في حالة فرار من الهجومات الضارية والأثيمة التي شنتها الحركة الإنسانية (Humanism) على الكنيسة. فالعديد من المبارزات الفكرية العلنية بين المسيحيين ودعاة الحركة الإنسانية، ربحها أناس نظير هكسلي (Huxley)، الأمر الذي أربك المسيحيين. وهكذا باتت الحاجة إلى التمسك بالحق تحتّم اعتماد الحلول الوسطية، وذلك باعتراف أبرز دعاة هذه الحلول. غير أن أتباع نظرية الفجوة الزمنية يناقضون، شاؤوا أم أبوا، كلمة الله.

لقد أثارت نظرية الفجوة الزمنية تساؤلات أكثر ممّا قدمت أجوبة، كما ،أنها خالفت مفاهيم الكتاب المقدسة الأساسية. وهكذا بات على المسيحيين أن يتمسكوا بتناقص قضاة أضعفت إيمان بعضهم وقادت عدداً كبيراً منهم، ولا سيما طلاب الجامعات، بعيداً عن إيمان آباءهم. كذلك كان يفترض بالمسيحيين الذين اعتنقوا نظرية الفجوة الزمنية أن يلازموا جانب الصمت في ما يتعلق بحقيقة الطوفان، وذلك بسبب جعلهم كل المستحجرات قبل أيام نوح بوقت طويل. والنشوئيون ، كما أسلفنا حريصون على إنكار طوفان نوح. وهذا يعود بنا إلى رسالة بطرس الثانية: "لأن هذا يخفى عليهم بإرادتهم". ونحن يتحتم علينا بإرادتنا أن نذكّرهم.

وأخيراً، الله نفسه يرفض أن يساء فهمه في هذه المسألة. ففي خروج 20: 11، يصرّح الرب نفسُه ضمن هذا النص الحرفي والتشريعي بما يلي: لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. واستراح في اليوم السابع".

وفي خروج 31: 17، يختم الرب الشريعة بهذه العبارة: "لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفّس".

يدوّن لنا الروح القدس في العدد التالي عن صاحب هذا الإعلان، وذلك لإزالة كل لبس حوله: "ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله".

خلق الله الأرض، وكانت كتلة خربت ومظلمة من دون شكل في مستهل اليوم الأول. "وقال الله ليكن نور...." وابتدأ بذلك أول صباح. فيا لروعة ذلك الصباح، ويا لعظمة الخالق. ولا يسعنا إلا أن نجثو عند عرشه هاتفين: "أن مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة لأنك أنت خلقت كل الأشياء.." (رؤيا 4 :11).

أما الاستنتاج البسيط من كل ما سبق فهو أن هذه النظرية التي طالما أشاعها سكوفيلد وصحبه بين أوساط المسيحيين، كوسيلة للتوفيق بين النشوء وسفر التكوين، تناقض النص الدقيق للكتاب المقدس بل تناقض روح الكتاب أيضاً. وهكذا يتضح أنه يتحتم على جميع المسيحيين رفض نظرية الفجوة الزمنية.

3- التطور بقيادة إلهية (Theistic Evolution)

واجه دعاة التطور صعوبة في إعطاء تفسير للخلية الأولى ومن ثم ترك النشوء يتحتم بالكل.

باستطاعتنا للحال رؤية المشاكل المترتبة على هذا الموقف. فالنشوئيون، من جهة، لا يقبلون بهذا الحل الوسطي، بما أن هدفهم هو التخلص بالتمام من الله. ومن جهة أخرى، كيف باستطاعتنا كمسيحيين القبول بإله ضعيف وعاجز بهذا المقدار؟ حاول لفترة وجيزة أن تتخيل هذا الأمر: الله يُخلق الخلية الأولى ثم يجلس وينتظر ملايين السنين ريثما تحصل التحولات الإحيائية. وبعد هذا تظهر الثلاثية الفصوص... ثم تمر 200 مليون سنة وتظهر الضفدعة. يا للحدث العظيم؛ وهكذا دواليك... إلى أن يكون قد "تطور" الإنسان بعد ملايين السنين من الصراع والعذاب والموت وبقاء الأصلح.

ليس هذا هو الله إلهنا. ليس هذا هو الله الذي يعلنه لنا الكتاب المقدس يتحدث عن خالق ومصمم قادر على كل شيء، كما يتحدث عن الله الجبار الذي "صنع الأرض بقوته"، وعن الله الحكيم "مؤسس المسكونة بحكمته"، والله الفهيم الذي "بفهمه بسط السموات" (ارميا 10: 12). والله الذي صمم كل الأشياء وخلقها يتوجه بالإنسان المخلوق على نحو مميز على صورته تعالى. والآن هذا هو الله إلهنا. لا نقبل بتصديق أية نظرية مبنية على حلول وسطية من شأنها تقليل من عظمة القادر على كل شيء.

الكل أو لا شيء

"وأما أنت فاثبت ما تعلمت وأيقنت عارفاً ممن تعلمت. وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" (2 تيموثاوس 3: 14و15).

لا نستطيع كمؤمنين التشكيك في اصبع الله، إنما نتمسك بستة أيام بالمعنى الحرفي للكلمة. فالأرض خُلقت في اليوم الأول. وإذا أصررنا على الحلول الوسطية، فإننا بذلك نعارض أصبح الله. لقد استحوذت عظمة جلال كلمة الله على قلبي وكياني الداخلي؛ وأنا متيقن من أن لسان حالك أنت سيكون: "كل الكتاب هو موحىً به من الله" (2 تيموتاوس 3: 16).

هذا، وإن العلم الحقيقي يتفق مع الكتاب المقدس ويناقض نظرية النشوء. فليس هناك أي سند علمي لملايين أو بلايين السنين. أما العلم الحقيقي فيوافق على أن الأرض حديثة العهد ولا يتعدى عمرها بضعة آلاف من السنين، كما يوافق أيضاً على أن الخلق حصل خلال ستة أيام بالمعنى الحرفي للكلمة. وهكذا يبقى أعظم تصريح علمي مختص بأصل الأشياء هو تكوين 1: 1: "في البدء خلق الله السموات والأرض".

غالباً ما وُجهت إلي الانتقادات من جراء اتخاذي موقفاً جازماً من هذه المسائل. وجوابي الدائم هو أن هذا ما قاله الله في الكتاب المقدس، ولو أنه تعالى أراد أن يعني شيئاً آخر لذكر ذلك صراحة. فالكتاب المقدس لا يخضع لتفاسيرنا أو لتأويلاتنا البشرية. وهكذا باستطاعتنا، بمعونة الروح القدس ، أن نشرح الأسفار الإلهية، لا أن نفسرها بموجب أذهاننا المحدودة والمعرضة للزلل. ونحن كمؤمنين قضينا السنوات الطوال من حياتنا مع الرب،وهكذا تحدثنا إليه في الصلاة وكلمنا بدوره من خلال كلمته في الكتاب المقدس. نحن الذين لمسنا عمله في حيواتنا، ووضعنا إيماننا بالتمام بموته البديلي عنا على صليب الجلجثة بحسب ما نقرأ في الكتاب المقدس، فإذا كنا لا نزال بعد هذه السنين كلها عاجزين عن قبول كلمة الرب كاملة، فلا بد من وجود خلل يشوب هذه العلاقة ويلزمنا معالجته على وجه السرعة. وهل من مكان أفضل لمواجهة هذا الأمر من جلجثة حيث أصبح خالقنا مخلصنا الشخصي، دافعاً كلفةً تفوق إدراك عقولنا البشرية.

إذاً، ماذا يعني هذا كله بالنسبة إلينا؟ فنحن المسيحيين المؤمنين الذي اختبرنا المسيح مخلصاً ورباً، لنرفع رؤوسنا لأنّ إلهنا عظيم. ولنثقْ ثقة كاملة بكلمة إلهنا. قال الرب: "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول" (لوقا 21: 33).

فالكتاب المقدس كتاب رائع وكتاب روحي، ومهما كان الموضوع الذي يتناوله الكتاب المقدس سواء أكان في حقل علم الفلك أو الفيزياء أو الرياضيات أو الطب أو التاريخ... يبقى هذا الكتاب مرجعاً حول هذه المواضيع كلّها، من دون منازع.

إنه كتاب كامل، لذا لسنا في حاجة إلى اعتماد أية حلول وسطية. والرب يسوع علمنا تحاشي  المساومة مع الشر؛ والنشوء هو شر. فاقبل كلمة الله كما هي: خلق الله السموات والأرض خلال ستة أيام بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك قبل بضعة لآلاف من السنوات. ثم توّج الكل بخلقه الإنسان على صورته تعالى: خليقة مميزة وليست نتيجة الصدفة. وما لم نتوصل كمسيحيين إلى قبول هذا الحق الأساسي من دمن أي خوف أو مساومة، لن يتسنى لنا اختبار ملء بركات خالقنا ومخلصنا يسوع المسيح.

References in English

1.Darwin, C. The Illustrated Origin of the Species, (A bridged and introduced by Richard Leaky), Book Club Associates, London, 1979.

2. Scofield, C. I. The Scofield Reference Bible, Oxford University Press, London, 1917, notes on PP. 3- 4.

3. Larkin, C. The Greatest Book on Dispensational Truth in the World, Clarence Larkin Estate, Glenside, USA, 1918.P. 22.

  • عدد الزيارات: 3354