Skip to main content

الفصل الثالث: طبيعة المسيح وسجاياه - تقديرنا الشخصي للمسيح

الصفحة 5 من 5: تقديرنا الشخصي للمسيح

4-تقديرنا الشخصي للمسيح:

لسنا في حاجة أن نعتمد على شهادة الآخرين، ولكن نستطيع أن نعتمد على ما نكوّنه لأنفسنا، فإنّ دعوى يسوع عن كماله الأدبي كما أعلنها بنفسه، وأيّدها تلاميذه، وأكدّها أعداؤه ساخرين مستهزئين، كل هذه سجلتها الأناجيل.

أمامنا فرصة كافية لنكوّن لأنفسنا رأياً، وقد رسم لنا البشيرون صورة شاملة واضحة ليسوع، تناولت بنوع خاص، خدمته العلنية الجهارية لمدة نحو ثلاث سنوات، إلاّ أنها لم تغفل أن تذكر لمحة عن طفولته، وقد ذكر لوقا مرتين، أنّ يسوع في أثناء وجوده في الناصرة، كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس، (لوقا 2: 40، 52) كما نراه يذهب إلى موضع خلاء مع تلاميذه، مرة أو مع الجموع الكثيرة التي كانت تزحمه، مرة أخرى– ونلاحظه في خدمته الأولى، في الجليل وكأنه معبود الشعب، الذين يسيرون وراءه ويهتفون بحياته، ويسعون لخطفه بالقوة، لكي يجعلوه ملكاً، يُرضي أهوائهم ورغباتهم... ولو سرنا وراءه إلى أورشليم، ودخلنا معه أروقة الهيكل، لرأينا الفريسيين والصدوقين وهم يحاولون أن يصطادوه بكلمة... ولكن يسوع هو هو، لن تغيّره ظروف ولن تؤثر فيه نشوة النجاح الباهر، ولا انقلاب الزمان الغادر، وسيّان عنده، إن أحبّه الناس أم رفضوه، قبلوه أم طردوه...

وعسانا نرى هنا صورة المسيح، غاية في الاتزان، ليس فيه أي أثر للشذوذ، فهو يؤمن صادق الإيمان بما يعلّم به، دون ما تصعب أو انحياز، فإن كانت تعاليمه صعبة على الجمهور وغير مرغوب فيها، لكنّه لا يثور... وهناك من البراهين التي تثبت ناسوته بقدر ما يثبت لاهوته... فقد تعب ونام وأكل وشرب مثل باقي الناس، وجرّب ما في البشر من عواطف مثل الحب والغضب والفرح والحزن، فهو إنسان كامل بلا خطية.

وفوق الكل لم يكن يسوع محبّاً لذاته، أيوجد أعجب من هذا؟ هذا الذي يعرف ويؤمن أنه إله، لم يتكبر أو يتجبر، لم يفتخر أو يتباه مثل الذين يظنون أنهم شيء وهم ليسوا شيئاً، فإنّ الكبرياء لم تجد إلى نفسه سبيلاً، بل كان مثال التواضع والوداعة، وإن التناقض الذي يظهر في شخصه يحيّر، لا سيما وقد جمع في شخصه المتناقضين: التعليم الذي يدور حول النفس أو الذات، ثم سلوكه الذي يخلو من محبة النفس... لقد وضع نفسه أولاً بالقول، ووضعها آخراً بالعمل، وجمع في نفسه أعظم احترام وتقدير للنفس وأعظم إنكار للذات، عرف نفسه ربّاً على الجميع، لكنّه صار عبداً للجميع وقال: "لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مرقس 10: 45) لقد تنازل عن امتيازات كثيرة: ترك أمجاد السماء، ونزل إلى أرض الشقاء والعناء، مضحياً بحصانته الأبدية، معرضاً نفسه لأشواك وشر هذا العالم... ولد من أمٍّ فقيرة في مذودٍ حقير في بيت لحم، وهرب إلى مصر، ثم جاء سراً إلى مدينة الناصرة، حيث عاش واشتغل نجاراً بسيطاً، لكي يعول أمّه، ولمّا جاء الوقت المعيّن، جال يكرز في القرى والمدن. كان فقيراً، لا يملك من حطام الدنيا سوى النذر اليسير، ولم يكن له أين يسند رأسه.... كان الصيادون البسطاء والعشّارون والخطاة، أصدقاءه وأتباعه، واحتمل مشاجرة تلاميذه وتطاحنهم على الرئاسة، وغسل أرجلهم كعبد، ولمس البرص كما لمسه الزناة والزواني، وانصرف بكل قواه إلى خدمة الشفاء والتعليم والكرازة، بصورة متواصلة... لقد أساء فهمه الناس، فأساءوا إليه وجعلوه ضحية تعصبّهم الأعمى، فقد احتقره الشعب ورفضوه، وهجره أتباعه ومحبوه، أدار ظهره للضاربين، وخدّه للناتفين، ووجهه للمستهزئين، وأحنى رأسه لكي يضعوا عليه إكليل الشوك، ومدَّ يديه ورجليه للمسامير، وسُمِّر على الصليب، كما تقضي قوانين الرومان... وحينما شعر بالآلام المبرحة من أثر المسامير وغيرها، صلّى من أجل أعدائه قائلاً: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34).

وهل لعقولنا القاصرة أن تدرك كنه هذا الإنسان؟ لقد نجح هو حيث فشلنا نحن، وكان يضبط نفسه ويملكها، لم ينتقم، ولم يحنق، ولم يثر أو يتهيج، مهما حسبه الناس أو قالوا عنه أو فعلوا به، أنكر نفسه، وسلمها إلى مشيئة الله وخير البشرية كما قال: "لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5: 30، 8: 50) وكما كتب بولس الرسول: "لأن المسيح لم يرضِ نفسه" (رومية 15: 3) والكتاب المقدس يطلق على عدم الاهتمام بالنفس وإنكارها، وعلى خدمة الله والناس، اسم المحبة، فالمحبة لا تطلب ما لنفسها، وجوهر المحبة التضحية وإنكار النفس– هذه المحبة التي تضفي على من يتزين بها نوراً، فكم بالحري تشع حياة يسوع في المحبة نوراً ساطعاً، لا يخبو ولا يتضاءل... وخلاصة القول: كان يسوع بلا خطية لأنه خلا من نفسه ومن محبة الذات- وعدم محبة الذات وبغض النفس هي المحبة عينها، والله محبة.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 10270