Skip to main content

الفصلُ السادِس "أخبارُ الله المُحزِنة"

رأى إرميا رُؤيا عن سلَّتي تين. (إصحاح 34). بعضُ هذا التين كانَ طازَجاً وناضِجاً، وبعضُ هذا التين فسدَ واهترأَ ولم يعُد صالحاً للأكل. فقالَ الربُّ لإرميا، "إنَّ التينَ الجيد يُشيرُ إلى الذين يذهبونَ في السبيِ إلى بابِل. فلقد أرسلتُهُم للسبي لصالِحِهم. وسوفَ أسهَرُ على راحَتِهم وأُعيدُهُم إلى أرضِهم ثانيةً. سوفَ أُساعِدُهم ولن أُؤذِيَهم. سوفَ أغرِسُهم ولن أقلعهم. وسوفَ أُعطيهم قلباً يتجاوبُ معي. سيكونونَ لي شعباً وأنا أكونُ لهُم إلهاً. لأنهم سوفَ يرجِعونَ إليَّ بفرحٍ كبير."

"وأمَّا التينُ الفاسِدَ فيُمثِّلُ صدقيَّا، ملك يهوذا، وقادتَهُ وكُلُّ أولئكَ الذينَ سيبقونَ هُنا في أُورشَليم، وكذلك أولئكَ الذين سينـزلونَ إلى مِصر. سوفَ أُعامِلُهم كالتين الفاسد الرديء الذي لا يصلُحُ أكلُهُ. سوفَ أُرسِلُ السيفَ والجوعَ والوبأَ عليهم حتَّى أُفنِيَهم."

هذه عِظةٌ لإرميا كرَّرها مراراً. كانَ هُناك نوعانِ من الناس في أورشليم عندما كانت على وشكِ السقوطِ بيد البابِليين. أولئكَ الذي أدركوا أنَّ السبيَ هو تأديبٌ من اللهِ، ولهذا ذهبوا إلى السبي وقَبِلوا تأديبَ اللهِ وتابُوا. وأولئكَ الذينَ، أمثالَ الملك صدقِيَّا، رفضوا أن يعتَرِفُوا بهذا كإرادةِ الله، ورفضوا وعظَ إرميا وتمرَّدوا على البابِليين، فانتهى بهمِ الأمرُ مثلَ الإناءِ المسحوق أو مثلَ التين الفاسد الذي لا يُؤكَلُ من رداءتِه.


حُجَجٌ ضِدَّ الفلسفة الإنسانيَّة

هُناكَ عِظاتٌ أُخرى لإرميا تُعارِضُ ما نُسمِّيهِ اليوم الإنسانيَّة. فهناك إيديولوجيَّات تظهرَ وتكبُرُ في أيَّامِنا، نظنُّها جديدةً ومُعاصِرة، ولكنَّها ليسَت جديدةً البتَّةَ، بل هي مُجرَّدُ هرطقاتٍ قديمة تظهَرُ على الساحة. هذه الإيديولوجِيَّات، "كالإنسانيَّة" مثلاً، التي تُعلِّمُ أن الإنسانَ قادرٌ على تدبيرِ أُمورِهِ بنفسِه، موجودةٌ منذُ القديم. "أنا سيِّدُ مصيري وأنا رُبَّانُ نفسي،" هكذا يُعبِّرُ الإنسانيونَ عن موقِفِهم. ولكن عندما ندرُسُ سِيَرَ حياة أمثل موسى، نجدُ العَكسَ تماماً، فنجدُ هذه المُطلقات الروحيَّة تظهرَ في حياتِهم: "ليسَ أنا، بل اللهُ، وهو فيًَّ. أنا لا أستطيعُ ولكنَّ اللهَ يستطيعُ وهو معي."


هل نحنُ بِحاجَةٍ لله؟

يُناقِضُ إرميا طريقةَ التفكِير هذه عندما يعظُ مثل العظة التي نجدُها في إرميا 10: "عرفتُ يا ربُّ أنَّهُ ليسَ للإنسان طريقُهُ. ليسَ لإنسانٍ يمشِي أن يهدِيَ خطواتِه" (23). ثُمَّ أُنظُرْ إلى هذه العِظة: "ملعونٌ هو الذي يعتَمدُ على الإنسان ويجعلُ مُتَّكَلَهُ على الجسد، ويحيدُ قلبُهُ عن الرب" (5). ثُمَّ يُعطِي إرميا التصريحَ الإيجابِي عن هذه الحقيقة: "مُبارَكٌ الرجُل الذي يثِقُ بالرب ويضعُ اعتمادَهُ عليه" (7).

هُناكَ الكثيرونَ يُؤمِنونَ أنَّهم ليسوا بِحاجةٍ إلى راعِي. ويظنُّونَ أنَّهُ لم تكُنْ لديهم يوماً مُشكِلةٌ لم يستطيعوا حلًَّها. فهم يُؤمِنونَ بأن الذكاءِ البشري ومؤهِّلاتِ الإنسان هي كُل ما يحتاجُونَهُ. أما كلمةُ اللهِ فتقولُ لا، ليسَ هذا هو كُلُّ ما تحتاجُه. فأنت تحتاجُ إلى راعٍ. وتحتاجُ إلى حكمةٍ من الله وتحتاجُ إلى قوَّةٍ دينامِيكيَّة (نعمة) من الله لتطبيقِ هذه النِّعمة التي أخذَتها من الله (يعقُوب 1: 5؛ 2كُورنثُوس 9: 8). هذه هي فلسفةُ وتعليمُ جميعِ الأنبياء، وتعليمُ العهدَين القديم والجديد.


مُستَعِدٌّ للكَلِمة

إنَّ علاجَ إرميا لإرتداد يهوَّذا، أو الخطيَّة التي جلبَت على الشعب السبيَ البابِلي، يُعبِّرُ عنهُ إرميا في عظةٍ أُخرى نجدُها في الإصحاح الرابع: "لأنَّهُ هكذا قالَ الربُّ لرجالِ يهوذا ولأورشليم احرُثُوا لأنفُسِكُم حرثاً ولا تزرعوا في الأشواك. اختَتِنوا للرَّبِّ وانـزعُوا غُرَلَ قُلوبِكُم يا رِجالَ يهوذا وسُكَّانَ أورشَليم لئلا يخرُجَ كَنَارٍ غيظِي فيُحرِقَ وليسَ من يُطفِئ بسببِ شرِّ أعمالِكُم." (إرميا 4: 3-4).

إنَّ عظةَ إرميا هذه تُشبِهُ عظةً للربِّ يسوع نجدُها في الأناجيل، ونُسمِّيها "مَثَل الزارِع." قالَ يسوعُ أنَّهُ عندما يُكرَزُ بكلمةِ الله، فهذا يُشبِهُ الزارِعَ الذي يخرُجُ ليبذُرَ بُذُورَه. وعندما يبذُرُ الزارِعُ هذه البذور، تسقُطُ على أربعة أنواعٍ من التُّربَة.

فالأنواعُ الأربعة للتُّربة تُمثِّلُ أربعةَ طُرُقٍ يتجاوبُ بها الناسُ معَ كلمةِ الله عندما يُكرَزُ بها. أحياناً لا تستطيعُ الكلمةُ أن تختَرِقَ ذهنَ السامِع؛ وأحياناً لا تستطيعُ الكلمةُ أن تختَرِقَ إرادَةَ السامِع؛ وأحياناً تختَرقُ الكلمةُ الذهنَ والإرادة، ولكن عندما تنمو، تخنُقُها الأشواكُ التي تُشيرُ إلى هُمومِ العالم والغنى؛ وأحياناً تنمو بُذُورُ الكلمة وتُؤتي ثماراً مُتنوِّعة.

في هذا المثل الرائِع، كانَ يسوعُ يبنِي على أساسِ عظةِ إرميا. شبَّهَ إرميا "حياةَ الشعبِ بالأرض غير المفلوحة وغير المزروعة." لقد نسى الشعبُ كلمةَ الله. وكُلُّ مشاكِل الشعب وظُروفِ حياتِهم، كانت تُحضِّرُ تُربَةَ حياتِهم لقُبُولِ بُذُورِ كلمة الله ثانِيَةً. لقد كانَ اللهُ يُحضِّرُ تُربَةَ حياتِهم ليسمَعُوا كَلِمَةَ الله.

يتكلَّمُ إرميا أيضاً عن خِتانِ القلب. فكثيرونَ يُؤمِنونَ أن الرسول بُولُس قد اقتَبَسَها من إرميا. فبولُس يقولُ لنا، "أنَّ الخِتانَ كانَ لشعبِ العهدِ القديم مثل المعموديّة بالنسبة لنا اليوم. فالخِتانُ كانَ الفريضةَ أو الطقس الذي أعلنَ بهِ الشعبُ اليهوديُّ إيمانَهم. والمعمُوديَّةُ هي الطريقة التي علَّمنا بِها يسوعُ كيفَ نعتَرِفُ بإيمانِنا بيسوع المسيح اليوم.

والطقسُ قد يُصبِحُ فارِغاً من مُحتواه. فالطقسُ بدونِ حقيقةٍ قد يُصبِحُ فارِغاً وبدونِ معنى. لقد شدَّدَ كُلٌّ من يسوع والرُّسُل والأنبياء على الفرق بينَ القولِ والعمل. فالعملُ هو دائماً أكثر أهمِّيَّةً من القول. فأن تحيا حياتَكَ اليوميَّة كما تُعلِّمُكَ الفرائض التي تُمارِسُها، هو ما يقصُدُهُ إرميا وبُولُس عندما يتكلَّمانَ عن الخِتانِ في القلبِ. فهل تعتَرِف بأنَّكَ تُؤمِنُ؟ إن كُنتَ تعتَرِفُ بالإيمان، لا تكتَفِ بمُجرَّدِ قولِ ذلك، بل عِشْهُ في حياتِكَ.


أخبار الله المُحزِنة

في الإصحاح 23، يَستخدِمُ إرميا كُلاً من الفُكاهةِ والسُّخرِيَة في وعظِهِ، كما نرى في هذا المقطَع، "وإذا سألكَ هذا الشعبُ أو نبيٌّ أو كاهِنٌ قائلاً ما وحيُ الربِّ [أو أخبارُ الله المُحزِنة]، فقُلْ لهُم أيُّ وَحِي [أو أيَّة أخبار مُحزِنة؟]. [أنتُم الخبر المُحزِن] إنِّي أرفُضُكُم هو قولُ الربّ. فالنبيُّ أوِ الكاهِنُ أو الشعبُ الذي يقولُ وحيُ الربِّ [أو يسخَرُ بأخبار اليوم المُحزِنة]، أُعاقِبُ ذلكَ الرجُل وبيتَهُ."

لقد سخِرُوا بإرميا لأنَّهُ لم يكُن لديهِ أيُّ شيءٍ مُفرِح يقولهُ. بل كانت رسالتُهُ رسالةَ ويلٍ، لأنَّ الويلَ كانَ آتِياً. إن كُلَّ ما قالَهُ إرميا تحقَّقَ بحذافِيرِه، سواءٌ الويل أوالهول، ولكن أيضاً الرجاء. كانت كرازةُ إرميا الرجاء الوَحيد عند اليهود الذين سمِعوا عظاتِه. ونُبُوَّاتُهُ المسياويَّة الممزُوجة بوعدِهِ بالرجوعِ من السبي، تُشكِّلُ رجاءنا النِّهائي المُبارَك اليوم.


العِبءُ المُلقى على عاتِق إرميا

لقد كانت رِسالتُهُ عاطِفِيَّةً جِدَّاً. "أحشائي أحشَائي. تُوجِعُني جُدرانُ قَلبِي. يئِنُّ فيَّ قَلبِي. لا أستطيعُ السُّكُوت. لأنَّكِ سَمِعتِ يا نفسِي صوتَ البوقِ وهُتافَ الحرب. بِكَسرٍ على كَسْرٍ نُودِيَ لأنَّهُ قد خرِبَت كُلُّ الأرض." (إرميا 4: 19- 20). ففي إعلاناتِهِ النَّبَوِيَّة عن الإحتلالِ البابِلي، كانَ بإمكانِ إرميا سماع أصوات الجيش البابِلي وصُراخَ شعبِ يهوذا. وكونَهُ استمرَّ باختِبارِ أهوالِ هذه الأحداث، تساءَلَ، "حتَّى متى أرى الرَّايَة وأسمَعُ صوتَ البُوق؟" (21) فأجابَهُ الربُّ، "لأنَّ شعبِي أحمَق. إيَّايَ لم يعرِفُوا. هُم بَنُونَ جاهِلونَ وهُم غيرُ فاهِمِين. هُم حُكَمَاءُ في عملِ الشرِّ ولعملِ الصالِحِ ما يفهَمون" (22).

قد تكونُ عظةُ إرميا هذه مُلائمةً لجيلِنا الحاضِر. فنحنُ خُبراء في صِناعةِ الأسلِحَة المُدمِّرة اليوم، ولكن هل نعرِف كيفَ نعمَلُ الخير؟ لقد أصبحَ العُنفُ والجريمةُ عدوى مُتَفَشِّيَة في حضارتِنا. لقد صارَ لدينا عبقريَّةٌ مُطلَقَة لإختِراعِ الاسلِحة النوويَّة والكيميائيَّة والبِيولوجيَّة للدمارِ الشامِل، ولكن يبدو أنَّنا لم نعُد نعرفْ ما هوَ الخيرُ أو الصواب.


مُثابَرة إرميا

لقد قامَ إرميا بإملاءِ النسخةِ الأصليَّة لهذا السفرِ علىكاتِبِهِ الأمين باروخ، عندما كانَ إرميا في سجنِه. وبعدَ أن أكمَلَ دَرْجَ عظاتِه كما تذكَّرها تِباعاً، طلبَ أن يُقرأَ الدرجُ بأكمَلِهِ على الشعب يومَ الصوم. فأثَّرَ هذا الدَّرْجُ بقوَّةٍ بالشعب، ومن ثمَّ قُرِئَ السفرُ على مسامِعِ الملك. وبينما كانَ يُقرَأُ السفرُ للملك، كانَت هُناكَ نارٌ مُتَّقِدةٌ في مدفأةِ الملك. فبعدَ أن قُرِئَ سفرِ إرميا جزءاً بعدَ الآخر، قطَّعَهُ الملكُ بسكِّينٍ حادٍّ، ورماهُ في النارِ وأتلفَهُ.

عندما أُخبِرُ إرميا بِذلكَ، أرسلَ وراءَ بارُوخ، وقالَ لكاتِبِهِ الأمين أن يأتِيَ بدرجٍ أكبَر من الأوَّل، لأنَّهُ كانَ سيُعيدُ كتابَةَ سفرِهِ، ولأنَّهُ تذكَّرَ عدَّةَ عِظاتٍ لم يكُنْ قد وضعها في الدرجِ الأوَّل الذي إحتَرق. وهكذا أملى إرميا إصحاحاتِهِ الإثنين والخمسين التي درسناها معاً. فلولا مُثابَرة النبي العظيم إرميا، لما كانَ لدينا هذا السفر الرائع.

  • عدد الزيارات: 12211