الفصلُ الخامِس مُرنِّمُ السبي
عندما كانَ الشعبُ على وشكِ أن يذهَبُوا مُقيَّدينَ بالأغلالِ إلى بابِل، أعطاهُم إرميا بعض كلمات الرَّجاء ليتحمَّلوا السبي. فأولئكَ الذين نجوا من الذبحِ عندما سقطَت أُورشَليم، صُدِموا من الحُزنِ والهَلعِ والرُّعب. إن كلمات إرميا الممسوحة هذه، جاءَت لتُساعِدَهُم على إحتِمالِ سبعينَ سنةً من السبي: "لا يفتَخرِنَّ الحكيمُ بحِكمَتِه، ولا يفتَخِر الجبَّارُ بجبروتِه، ولا الغَنيُّ بِغِناه، بل بهذا ليفتخرِنَّ المُفتَخِر: بأنَّهُ يفهمُ ويعرِفُني أنا الربُّ الصانِعُ رحمةً وقضاءً وعَدلاً في الأرض لأنِّي بهذه أُسَرُّ يقولُ الربُّ." (إرميا 9: 23-24).
الكلمةُ الأُخرى التي تُستَخدَمُ في بعضِ الترجمات هي كلمة "مجد." إنَّ فحوى ما يقولُهُ إرميا هو شيءٌ كالتالي: "إن كُنتُم أغنياء، لا تفتَخِروا بِغناكُم. وإن كُنتُم أقوياء، لا تفتَخِروا بقوَّتِكُم. وإن كُنتُم حُكَماء، لا تفتَخِروا بحِكمَتِكُم." إن كلمة "مجد" تعني، "أن نُفجِّرَ كُلَّ الطاقات المُتوفِّرَة في وضعٍ ما، لكي نُعبِّرَ عن ملء جوهر ماهيَّة الله في حياتِنا."
في هذا الوضع، يُطبِّقُ إرميا هذه الكلِمَة، ولكنَّهُ يُطبِّقُها ليسَ على الله، بل على الشعب الذاهِب إلى السبي. مثلاً، يقولُ إرميا للرجُلِ الغني، " لم يعُدْ بإمكانِكَ أن تعتَمِد على الغِنى لكي تُفجِّرَ الطاقة الكامِنة في كيانِك. ينبغي عليكَ أن لا تفتَخِر بالغِنَى لأنَّكَ لن تجِدَ فيهِ شبعَكَ." إنَّ الأغنياءَ الذين ذهبُوا مُقيَّدين في السبي، جُرِّدوا من ثرواتِهم. لربَّما كانوا يفتَخِرونَ بِغِناهُم قبلَ سقوطِ أورشليم، ولكن ليسَ بعدَ سُقوطِها. ويقولُ إرميا بالمعنى ذاتِه للحكيم والقَويّ، "أيُّها الحكيمُ، لربَّما لا تشعُرُ أنَّكَ حكيمٌ الآن، كونَكَ تُقادُ بالأغلالِ خارِجَ بِلادِك. ويا أيُّها القويُّ، لا تفتَخِر بقوَّتِك. فعندما تغدُونَ عبيداً ستُصبِحونَ تقتاتُونَ على الفُتات وستُصابُونَ بالضعفِ والهُزَال."
حتى الآن، يبدو هذا كرِسالةٍ سلبيَّة. ولكن إليكُم الجزء الإيجابيّ من رسالةِ إرميا. يقولُ اللهُ لهؤلاء العبيد من خِلالِ إرميا، "إن كُنتُم فعلاً تُريدونَ أن تفهَموا معنى وهدف الحياة، وأن تُفجِّروا كُلَّ طاقَتِكم، تعالوا إليَّ واعرِفُوا من وما أنا. بهذه الطريقة ستكتشِفونَ على الأرض جوهر ما هو اللهُ في السماء. سوفَ تفهمونَ جوهر كيانِي ومن ثمًَّ جوهر كيانِكم، إذا فهِمتُم بأنَّني أعلنتُ نفسِي على الأرض من خِلالِ صِفاتِي." فصفاتُ الله هي التي تُشكِّلُ شخصِيَّةَ الله وماهيَّتَهُ.
في هذه العِظة العظيمة لإرميا، قالَ هذا النبي، "اللهُ يُمكِنُ أن يُعرَفَ بهذهِ الطريقة، من خِلالِ شخصِهِ، أي من خِلالِ محبَّتِهِ الثابِتَة، ومن خِلالِ بِرِّهِ وعدله المُطلَق." ألم يُعطِ هذا الوعظُ للشعبِ السالِكَ في السبي إلى بابِل مادَّةً ليُفكِّرُوا فيها على الطريق؟ لقد عرفوا أنَّهُم لن يجدوا شبَعَهُم ومعنى حياتِهم في الغِنى أو الحِكمة أو القوَّة. بل عرفوا أنَّهُ عليهِم أن يجدوا معنى حياتِهم في أُمورٍ أُخرى. لقد قالَ إرميا، "إنَّ هذا هو الوقتُ المُناسِبُ لكي تجِدُوا معنَى وشبع حياتِكُم في معرِفة الله. عندها سيكونُ لديكُم شيء لا يستطيعُ أحدٌ أن ينـزعَهُ منكُم."
- عدد الزيارات: 10026