Skip to main content

الفصل السابع: جلسات مع الأنبياء

أخذني رفيقي إلى قاعة كبيرة جداً، قال لي إن اسمها "قاعة التاريخ "رأيتُ فيها ملايين الملايين. ورأيت مقعداً خالياً فجلستُ عليه، كان الجالسون حولي من عظماء العظماء. عرفت منهم موسى وداود وأيوب وارميا وحبقوق وملاخي. وبدأ رفيقي الحديث!

" أقدّم لكم صديقي السيد باحث مخلص، ويدعونه "الباحث عن الحق "وفي لغتنا نحن نسميه الباحث عن الله. خرج من قومه يافعاً وأنتم ترونه الآن شيخاً قارب أن يصل إلى سن الهرم. وقد مرّ بأقاليم أوزيريس وايزيس، وعاش عدة سنوات في كنف آلهة مصر. وهناك سمع عن بعل ومولك وملكوم. في مصر قابل ملكة السموات ايزيس وسمع عن إخوتها وعشتاروت وعشتار وفينيس وأختها من أبيها أرطاميس. بالطبع حدثوه عن "الوالد "زيوس وهرمز وكيوبيد ومارس وأثينا. وقد احتقر الآلهة وأبغضها وخرج من إقليمها ساخطاً. وأرشدته العناية إلى إقليمنا المبارك، إقليم يهوه العظيم.

الحقيقة إني عثرت عليه مطروحاً في الصحراء البعيدة. هو لا يعرف متى كان بين قومه، ماذا حدث له في الطريق، متى وجد نفسه في مصر ومتى هرب. انه كثيراً ما يفرك عينيه ويسأل: "هل أنا أحلم؟". بل أني سمعته كثيراً يقول: "من أنا؟ من هم قومي؟ هل كنت أعيش هناك في الواحة الكبيرة في قلب الصحراء؟ هل كنتُ أقيم في منطقة الخيام؟ هل كانت لنا ثروة؟ هل كنا نعيش كالبهائم؟ هل جاءنا حقاً التاجر الكنعاني والفينيقي؟ هل حدثنا الفينيقي عن ضيفهم الغريب الذي أخبرهم عن وجود إله؟ هل سافرت معه حقاً، أم كنت أحلم؟ هل حدثت زلزلة؟ هل سقطتُ في حفرة؟ هل كانت حفرة بلا آخر؟ هل استيقظت حقاً؟ هل كنت في مصر؟...

" كان يفعل ذلك كلما كان وحده، وكان يحدث نفسه... ثم يختم حديثه بالقول: "إني أكاد أُجن".

"وفي إقليمنا المبارك كان سروره عظيماً وهو يسمع عن يهوه العظيم، ويقول انه حقاً "الله الذي ظللتُ أبحث عنه". على أنه بعد أن سار في الإقليم قترة بدأ يحس بشيء من الضيق. كنت أسمعه يتمتم: ليس هذا هو الإله الذي أبحث عنه. إني أبحث عن إله أحسُّ وأنا بين يديه أنه يملأ قلبي، كل قلبي... قلبي لا جسدي... كل قلبي.

وها أنا قد جئتُ به إليكم يا أعمدة هيكل يهوه، إليك أيها النبي الكبير موسى، وأنت أيها المرنم العظيم داود، أنت يا اشعياء نبي العبد المتألم، يا ارميا يا حبقوق يا ملاخي، أنتم يا إخوان الإيمان، هل ستسمحون له أن يبسط قلبه، كل قلبه أمامكم؟" قال هذه الكلمات وجلس.

وساد على المكان صمت رهيب. اختفى المكان أمامي. لم أعد أرى أحداً. بل شككت في نفسي، هل أنا موجود. حاولت أن أتأكد أني أعيش، أني مستيقظ، أني لا أحلم. أنا في الصحراء، وظللتُ كذلك إلى أن أيقظني صوت مرتفع كالرعد، ولو أنه كان يحمل في طياته نغمة رقيقة حليمة، ماذا تبغي أيها الباحث عن الحق؟

التفتُ ناحية الصوت، وعرفتُ أن المتكلم هو موسى. كيف عرفت أنه موسى؟ لا جواب. بل أني لم أعد أرى أحداً، لا داود، ولا اشعياء ولا الألوف أو الملايين التي سبق أن رأيتها – كنت أحس بوجودها، بل كنت أحس أن الجو نفسه مملوء بكائنات رهيبة.

وقفتُ مكاني وقلت:

" سيدي موسى،

كان قومي يعيشون كالبهائم، يأكلون ويشربون ويزّوجون ويتزوجون... ويموتون... ليقوم بعدهم جيل آخر يسلك كما سلكوا، إلى أن جاء الكنعاني وجاء معه الفينيقي الذي أيقظني. إني لست طائراً ولا حيواناً... أنا... أنا رجل. أمي امرأة. نحن نسود على الطيور والحيوانات، ولكننا نعيش نظيرها. أقلقتني هذه اليقظة. وعندما تحدثتُ بما جال في صدري إلى أبي، ثار فيّ وقال: "لا تبلبل فكرك وأفكارنا. كفَّ عن

هذا التفكير الأحمق". ولكني لم أستطع أن أكف. كان هناك جوع في قلبي!

"خرجت وحُملت إلى مصر مجبراً. ورأيت آلهة مصر وسمعت عن يهوه العظيم. عرفتُ أنه هو الإله الذي أبحث عنه. انه إله واحد. الله الروح. انه إله قدوس. انه إله الخير. ولكن هذا الإله يا سيدي – دعني أقول هو إله موسى. هل تسمح لي أن آتي شططاً وأقول انه ليس الإله الذي أبحث عنه. أنا أطعن في الله، حاشاي! أنا أخشع أمامه. ولكن الذي تقدمونه لا يمكن أن يكون الله، كل الله... لا. يا سيدي موسى، ليس هو الله الذي أبحث عنه".

كان موسى يتململ في مكانه، وقد أحسستُ أنه يحتمل مني ما يفوق احتماله. وانطلق يتحدث اليّ بنغمة هادئة ولو أنها كانت تحمل في طياتها غضباً مرعباً. قال: "تقول أن إلهنا ليس هو الله الإله الحقيقي الذي تبحث عنه، الذي يملأ فراغ قلبك. هل تقول ذلك؟ انك إذن أحمق أعمى القلب والبصيرة. إن إلهنا هو الله الإله الحقيقي وليس سواه". قال موسى هذه الكلمات بهدوء. ولكنها كانت في قوتها كالرعد... فقلت: "عفواً يا سيدي موسى، أنا لم أقل ذلك. لكني أرجو أن تسمعني بحلمك. لماذا لا تسمع كلامي وأنا لم أبتعد بعيداً؟ أنا سأعيد على مسمعك الكلمات التي دونتها أنت عن إلهك. كما أني أرجو أن لا تتخلى عن حلمك المعروف وأنت تسمعني. دعني أضع نفس الكلمات التي كتبتها في أسفارك المقدسة. إنها لا تحتاج إلى توضيح:

هذا ابراهيم يقول لسارة امرأته: "إني قد علمت أنك امرأة حسنة المظهر. فيكون إذا رآك المصريون... فيقتلونني ويستبقونك. قولي انك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك". وتمَّ تدبير ابراهيم وأخذ فرعون سارة، وصنع لإبراهيم خيراً بسببها... فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي". قل لي يا موسى، ماذا تقول في إله يترك المذنب ويعاقب البريء؟

" ثم اسمع أيضاً. هذا إله خلق الأكوان... انه إله أخشع أمامه. إله أرهبه. إله أضطرب في حضرته. لكني خرجتُ عن إله أحبُّه... إله يحبني. هوذا أراه يرسل رسله إلى سدوم. أهلها أشرار جداً. هذا صحيح. ولكنهم صنعةُ يديه. وأنت تكتب عنه "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض.... ونظرت امرأة لوط من ورائه فصارت عمود ملح". قل لي يا سيدي موسى، كيف استطاع ذلك الإله أن يستريح وهو يرى الأهوال تصيب أولئك التعساء، وكيف احتمل أن يرى الأطفال الصغار يصرخون من أهوال العذاب وهم يتقلبون في النار؟ ترى هل كانت النار عقاباً. ألم يكن في إمكانه أن يلاشيهم بدون نار؟ والأطفال ما ذنبهم؟

" هل تذكر يا سيدي موسى ما كتبته عن طلب الله من ابراهيم أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه. لا تقل لي انه كان مجرد امتحان. إني أفزع من مجرد الطلب. انه لا يصدر عن إله أبحث عنه يحب الناس حتى الأردياء، ويعمل على هدايتهم؟

لقد تتبعتُ طريق إلهكم يا سيدي موسى. نعم أنا أعظمته وأكرمته وخشعتُ أمامه وارتعبت وارتعدت في حضرته. لكن ليسامحني هذا الإله العظيم المخوف، عندما أقول أن هذا ليس هو الإله الذي خرجتُ أبحث عنه!

إنني أرجو أن تسمعني بحلمك المعروف، واطلُب من إلهك أن يعفو عن جسارتي و" عدم أدبي "وخروجي عن حدودي، بل لعلي أقول عن خطيتي إذ أتحدث عنه "بقلة أدب". مرة أخرى أقول لك إني أعرف قوته وأعرف أنه يستطيع أن يلاشيني بنفخة. ولكني كأحد خلائقه أحسّ أن لي الحق أن أتجاسر عليه. لقد سمعتُ أن ابراهيم قال له يوماً: "أديَّان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟" مع أنه كان يعرف أنه يكلم الله. وداود كما سبق أن ذكرتُ تجاسر أكثر من ذلك! أنا واثق أنه يعفو عني لأنه يعلم أني مخلص في حديثي....

" قل لي يا سيدي موسى، ما قولك في إله عظيم يقف خصماً لإنسان؟ ليكن ذلك الإنسان من يكون. ليكن ملكاً بل ليكن أعظم الملوك... بل ليدَّع أنه إله، فهل يجوز أن يقف الله منافساً لذلك الإنسان؟ منافساً لفرعون ولآلهة فرعون... وقد صورتَ لنا إلهك يحارب فرعون... صحيح أنه انتصر عليه. ترى هل نقبل أن إلهاً عظيماً عملاقاً، إلهاً حقيقياً يقف نداً "لإله "آخر؟

نعم، قد قدمتَ لنا ذلك الإله يُجري آيات، ولكنها قُدِّمت على سبيل المنافسة بين اثنين قويين، أحدهما أقوى من الآخر".

وإذ أحسستُ أن موسى يهمُّ بالكلام بادرت أقول: "وقضيةٌ أخرى يا موسى، يا سيدي موسى، قضية الآيات العشر، أو الضربات العشر، كما تدعوها. انك تظن أنك تكرم إلهك أنه ضرب المصريين بأن أذاقهم مرارة شرورهم، فأتلف زروعهم وأباد مصادر أرزاقهم، أجاعهم وجفّف حقولهم وقتل أبكارهم، وأخيراً بعد أن فلق البحر وأجازكم على اليبس أغرق فرسانهم. ورفعت صوتك أنت وأختك بالهتاف: "- الفرس وراكبه طرحهما في البحر". وقد ذكرتَ ذلك زعماً منك أنك تكرم الله وتعظِّمه. أما أنا، فسامحني يا سيدي وليسامحني الله، فاني أرى أنكم لا تكرمونه بل تسيئون إلى اسمه. هل يليق أن أنسب إلى الله هذه الأشياء التي توحي بالقسوة؟.... نعم قد أسأتَ إلى إلهك يا موسى لأنك أوقفتَه عدواً لبعض خلقه!!

لقد أُعجبتُ به في أول الأمر. انه إله واحد، قدوس طاهر، سيد الأكوان، مهوب معظم. ولكنك أظهرتَ في ما كتبتَه عنه أنه إله لا قلب له، أو أن قلبه متَّجه نحو جانب من البشر، جانب صغير محدود المساحة. أما بقية العالم فان إلهك يا موسى يقف منهم موقف الخصومة والعداء. ومع أنك تقول انه سيد الشمس والقمر والسحاب والمطر، لكنك تكاد تعلن أنه، إذا لزم، يحرم العالم من خيرها، وإنما يرسلها لأجل شعبه!!

على أن أمراً آخر يحيّرني. ها هو "الشعب المختار "يسير إلى كنعان ليمتلك أرضاً تخص شعوباً فيها غير الرجال نساء وأطفال. وهو يأمر "الشعب المختار "أن يدخل تلك البلاد ويقتل الرجال والنساء والأطفال... أو يستبقي العذارى والأطفال ويجعل منهم عبيداً وإماء. قد تقول إن تلك الشعوب كانت تضمُّ جماعات من الأشرار الذين كان ينبغي أن يتلاشوا من الأرض، فهل كان قومك خيراً منهم؟ بل لنقل إنكم كنتم جماعة صالحة، أما كان يمكن لله – وهو الإله القادر على كل شيء – أن يعمل على إعادة خلقهم؟ لا أقول انه يمرُّ بهم مرّ الكرام دون ما صلاح

. ألم يخلقهم هو؟ أليسوا جميعهم أولاده؟ أليس هو والد الكل؟ كيف يهون على ذلك الأب الكبير أن يبغض أولاده ويلاشيهم من أجل "شعبه المختار "الذي لم يكن بالفعل خيراً من بقية الناس؟

" ترى هل عندك كلام يا موسى، أم ترى من اللازم أن أستكمل حديثي؟

أظن أني لا ينبغي أن أطيل المناقشة معك. وأظن أن الأفضل أن أتقدم إليك يا سيدي داود. أنت الرجل الذي قال الله عنك إن قلبك حسب قلبه. هل ترى أن أخبرك إني... إني ماذا.... إني لم أرك تقدم إلهك بالصورة التي خرجتُ أبحث عنها....

" ألم تقل "تحطم الأشرار بقضيب من حديد، وقد سبق أن هشمت أسنان الأشرار". ألم تقل عنه انه "إله يسخط كل يوم". وانه "يمطر على الأشرار فخاخاً وناراً". ألم تطلب منه أن يقوم ويصرع عدوك، وأنك تشكره لأنه علّمك القتال ودرّب يديك على سحق المقاومين؟ ألم تقل له: خاصم يا رب مخاصميَّ، وانه عندما يقوم يتبدد أعداؤه الذين تطلب لهم قائلا: "لتصر مائدتهم فخاً" والذي تقول له "يا إله النقمات". لا يا داود. أنا متألم. كم أردتُ أن أقبل إلهك إله اليهود. إني أقف أمامه في رهبة... أخشاه. ولكني أرغب أن يكون لي إله أحبه.

وإذ ألتفتُ لأتحدث مع الباقين أشار اليّ موسى أن أصمت، وقال: "كفاك الآن ما قلت. لك أن تتكلم مع الباقين في ما بعد". وجهَّ إليَّ كلامه بدون غضب. وذُهلت لأني لم أكن أنتظر منه إلا الانتهار القاسي. وقد ذكرتُ أنه يوماً غضب على المصري وقتله. لكن وجهه كان يعبر عن الرقة. نعم كان موسى حليماً!!

قال: "اسمح لي يا بنيَّ أن أقول انك غبي وأحمق... نعم أحمق جداً. ولقد ظهر أنك انذهلت لعدم غضبي. أنا انذهلتُ أكثر من طول أناة الله عليك. لقد تكلمتَ بعدم معرفة وبجهالة، وأعتقد أنك عرفتَ الله أكثر الآن. لقد تكلمتَ أنت الدودة الحقيرة على الله. من أنت يا بنيَّ حتى تتطاول على الله في حكمته وتدبيره؟ من أنت؟ انظر إلى نفسك. أنت لست شيئاً. هل يتجاسر اللاشيء أن يتحدث عن حكمة الله؟ أنت مسكين. أنا عطفتُ عليك. نعم أشفقتُ عليك. صعب عليك أن ترفس مناخس...... وأنا لا أستطيع أن أكشف لك كل الأسرار. أطلُب من الله أن يكشفها لك. حينئذ ستقول مع أيوب: "لذلك أرفض وأندم في التراب". كل ما أقوله لك: سر في الطريق، فلعل الله يسمح لداود ولاشعياء ولملاخي أن يكشفوا لك بعض أسرار ملكوت الله.... هلم وسر على بركة الله".

  • عدد الزيارات: 2544