الفصل السابع: موت المسيح - مركزية الصليب
1ـ مركزية الصليب
لا مبالغة في القول، إن الشخص الرئيسي في الكتاب هو يسوع المسيح، وان الظاهرة الرئيسية في حياته كما يصوّرها الكتاب هي موته، وليس هذا أيضاً بالعجيب، لأن غاية الكتاب غاية عملية جوهرية.. إذ هو دليل الخلاص للخطاة، فإن كان الحال كذلك فمن المحتم أن المسيح المصلوب هو الشخصية البارزة، لأن فيه الخلاص لا سواه، ولهذا استطاع المسيح أن يوبّخ تلميذي عمواس، اللذين امتلكا الكتب المقدسة ودرساها ولكنهما لم يدركا ضرورة موته فقال لهما: "أيها الغبيّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" ومن ثم يواصل لوقا حديثه قائلاً: "ثم ابتدأ (يسوع) من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لوقا 24: 25- 27).
كانت ديانة العهد القديم متعلقة بالذبائح منذ البدء، فمنذ عهد هابيل الذي قدّم من أبكار غنمه ومن سمانها، نظر الرب إلى هابيل وقربانه (تكوين 4: 4، 5) ثم أخذ شعب الرب يقدّمون له الذبائح وبنيت المذابح، وذبحت الحيوانات، وسفك الدم قبل أن تأتي شريعة موسى اللاوية بزمن طويل، وفي أيام موسى، بعد أن جدد الله عهده مع شعبه على جبل سيناء، تنظّم - كل ما كان تلقائياً وعرضياً - تنظم عن طريق فرائض إلهية.. وقد احتجّ أنبياء القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، ضد طقسية العبادة، وفساد وانحطاط العابدين، ومع هذا فقد ظلّ نظام الذبائح قائماً بدون انقطاع، إلى وقت خراب الهيكل في سنة 70 ميلادية، وكان كل يهودي يألف الفرائض والطقوس المختصة بذبائح المحرقة، وتقدمة الملء، وتقدمة الشكر، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم، والتقدمات المناسبة، كما كان يلم تماماً بالأوقات، والمناسبات - يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية - لتقديم هذه الذبائح والتقدمات، وما من يهودي - مهما بلغ ضعف إدراكه الديني - إلا ويعرف الحقيقة الأساسية في كل هذه العملية التهذيبية انه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عبرانيين 9: 22).
فإذا كانت ذبائح العهد القديم ترمز بصورة منظورة إلى ذبيحة المسيح العظمى، فإن الأنبياء والمرنمين في سفر المزامير، قد تنبأوا عن آلامه أيضاً، ويمكننا أن نراها في صور باهتة خفيفة في شخص المتألم البريء، الذي اضطهد وتألم ظلماً ومن غير حق، في مزامير مختلفة، طبقت فيما بعد على يسوع، وها نحن نراه في صورة الراعي الذي ذكره النبي زكريا، وقد ضُرب وتبددت خرافه (زكريا 13: 7 قابل مرقس 14: 20) كما صوره دانيال بالمسيح الرئيس الذي يُقطع (دانيال 9: 25، 26) وفوق الكل نراه ممثلاً في الشخص الشريف الذي يظهر في الأناشيد الخاصة بالعبد المتألم، كما أوردها النبي أشعياء قرب نهاية سفره وقد قيل عنه انه "رجل أوجاع، محتقر ومرذول مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا.. مثل شاة تساق إلى الذبح، وهو حمل خطايا كثيرين" (أشعياء 53) وهكذا هو مكتوب "كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" (لوقا 24: 46).
لما جاء يسوع عرف نفسه أنه ابن الله، المعيّن منذ البدء، وعلم يقيناً بأن الكتب المقدسة تشهد له، وأنه فيه يتم انتظارهم، ويبدو هذا واضحاً وصريحاً في إشارته عن آلامه العتيدة أن تكون، وقد جاءت نقطة التحول في خدمته في قيصرية فيلبس حيث "ابتدأ يعلّم تلاميذه أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً" (مرقس 8: 71) وذلك حالاً بعد أن اعترف سمعان بطرس بأنه المسيح ابن الله الحي... ولعلنا نراه في هذه الكلمة "ينبغي " وقد أوضح لنا روح الإلزام والحتمية الموضوعة عليه في الكتب المقدسة، كإعلان لإرادة الآب والتي كرّرها كثيراً في تعاليمه فقد عرف أنه كانت له "صبغة يصطبغها" وأنه منحصر حتى تكمل (لوقا 12: 50) وكان يسير بانتظام نحو ساعته التي قال عنها في إنجيل يوحنا عدة مرات أنها "لم تأت بعد" والتي عنها قال أخيراً قبيل تسليمه، وشبح الصليب جاثم أمامه "أيها الآب قد أتت الساعة" (يوحنا 17: 1) ولعل وقوع المصيبة خير من انتظارها، فإن انتظار "الساعة" قد ملأه بالألم والانزعاج حتى قال: "الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول أيها الآب نجنّي من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. أيها الآب مجد اسمك" (يوحنا 12: 27، 28) ولما حانت ساعة تسليمه، واستلّ سمعان سيفه ليحمي سيّده، وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه، انتهره يسوع قائلاً: "ضع سيفك في الغمد. الكأس التي أعطاني الآب ألا اشربها؟" (يوحنا 18: 11) ويذكر متى أن يسوع أضاف قوله: "أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة. فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي أن يكون" (متى 26: 54،53).
إن أهمية الصليب العظمى التي أنبأ بها العهد القديم، وعلّم بها يسوع، صارت حقيقة مدرّكة لدى كتبة العهد الجديد، فقد أفرد البشيرون جانباً كبيراً من بشائرهم، للأسبوع الأخير للمسيح وموته بالنسبة لما أعطوه لخدمته وحياته، فقد شغلت الحوادث ما بين دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم حتى صعوده الانتصاري إلى السماء شغلت هذه الحوادث خمسي الإنجيل الأول، وثلاثة أخماس الثاني وثلث الثالث، ونحو نصف الرابع تقريباً، وان هذا لمدهش حقاً لا سيما في إنجيل يوحنا الذي يقسم أحياناً إلى قسمين متساويين، دُعي القسم الأول باسم "سفر الآيات والمعجزات" بينما دُعي الثاني "سفر الآلام". وقد أشارت الرسائل صراحة، لا سيما رسائل بولس، بما ذكرته الأناجيل ضمنياً وتلميحاً، فلم يأل بولس جهداً في تذكير قارئيه بالصليب، وكان هو نفسه يشعر شعوراً عميقاً، بأنه مديون للمخلص الذي مات من أجله "ابن الله.. الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" كما قال (غلاطية 2: 20) ولذلك "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلاطية 6: 14) وكان لهذا الاختبار وهذا التصميم تأثير جلي في خدمته، فالأفضلية التي أعطاها لرسالة الصليب في كرازته لم ترد، في أي مكان آخر، بمثل الوضوح الذي جاء في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وقد كان الكورنثيون عرضة للوقوع في شراك الفلسفة اليونانية ودهائها، ولكن الرسول لم يكن يساوم على رسالة الإنجيل بل كتب في صراحة يقول: "لأن اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة، وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله" (1كورنثوس 1: 22- 24) وهذا نفس ما كان يملك بولس، وما نادى به في كورنثوس بعدما ترك أثينا في رحلته التبشيرية الثانية قائلاً: "لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً" (1 كورنثوس 2: 2) ثم يقول أيضاً في (15: 3) "فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب".
أما ما فكر به الرسول بطرس وما كتبه عن الصليب، فسوف نراه فيما بعد، وهيا بنا نتأمل قليلاً في الرسالة إلى العبرانيين، حيث ورد صريحاً وبكل جلاء انه "قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عبرانيين 9: 26) وعندما نصل إلى سفر الرؤيا وهو السفر الرائع الغامض، نلقي نظرة على يسوع الممجّد بقرب عرش الله في السماء، ليس فقط "الأسد الذي من سبط يهوذا" ولكن "الخروف القائم كأنه مذبوح" (رؤيا 5: 6،5) ونسمع جموع القديسين والملائكة الذين لا حصر لهم ولا عد يسبحون بحمد، وبصوت عظيم قائلين: "مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة" (رؤيا 5: 12).
ويمكننا من بداءة سفر التكوين إلى خاتمة سفر الرؤيا إلى خاتمة سفر الرؤيا، أن نتتبع ما أسماه البعض "بالخيط القرمزي "وهو أشبه بخيط ثوسيوس الذي يساعدنا على معرفة الطريق في بحر الكتب المقدسة الخضمّ، وما يعلّمه لنا الكتاب بشأن مركزية صليب مخلصنا، أيقنته الكنيسة المسيحية. وكثير من الكنائس ترسم شارة الصليب عند المعمودية، ويقيمون صليبا ًعلى قبر الميت، وكم من كنيسة شُيّدت على شكل صليب، وكم من مسيحي يعلّق الصليب على صدره أو يزين به جيده، ولم يكن هذا عَرَضاً ومن باب الصدفة، ولكنه جوهري لأن الصليب رمز إيماننا، وما يقال عما رآه الإمبراطور قسطنطين في الفضاء نراه نحن على صفحات كتابنا المقدس: "لا نصرة بدون الصليب" ولا مسيحية بدون الصليب.
- عدد الزيارات: 11029