الفصل الثالث: المسيحية والصراع النفسي
تتفق المسيحية في مفهومها الصحيح مع علم النفس الحديث اتفاقاً يكاد يكون شاملاً.
وفي مقدورنا أن نسمي أجزاء "الجهاز التنفسي" بالأسماء التي وردت في الكتاب المقدس لنرى مدى انطباق علم النفس والكتاب المقدس.
"فالأنا" وهو الجانب النفسي الذي يواجه العالم الخارجي ويتأثر به تأثراً مباشراً هو "العقل الواعي" وقد جاء ذكره في الكتاب المقدس مراراً عديدة، فقال صاحب الأمثال "إذا دخلت الحكمة قلبك ولذت المعرفة لنفسك. فالعقل يحفظك والفهم ينصرك لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب" أم 2: 10- 12.
وقال في موضع آخر "أما الزاني بامرأة فعديم العقل. المهلك نفسه هو يفعله. ضرباً وخزياً يجد عاره لا يمحى" أم 6: 32و 33.
وقال في موضع ثالث "خزامة ذهب في فنطيسة خنـزيرة المرأة الجميلة العديمة العقل" أم 11: 22.
"والهو" وهو الذات السفلى الذي لا يهتم بمقتضيات الواقع ولا يتحكم في توجيهه إلا مبدأ اللذة، وهو الجزء الفطري الموروث بما فيه من دوافع فطرية في صورتها الهمجية، يسميه الكتاب المقدس "الإنسان العتيق الفاسد"، نحن نقرأ عنه في مواضع كثيرة من كلمة الله إذ يقول بولس الرسول للمؤمنين في أفسس "أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور. وتتجددوا بروح ذهنكم. وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" أفسس 4: 22، 23.
ويكتب للقديسين في كولوسي الكلمات "لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله. ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" كو 3: 9و 10.
وكما يطلق الكتب المقدس على "الهو" اسم "الإنسان العتيق" كذلك يسميه "الجسد" فيقول بولس الرسول "ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" غلا 5: 24.
وكلمة "الجسد" المذكورة في هذه الآية لا تعني "اللحم والدم" إذ أن الجسد بهذا المعنى هو هيكل للروح القدس الذي يسكن في المؤمنين بالمسيح كما يقول الرسول الجليل "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله" 1كو 6: 19 و20.
إذن "فالجسد" الذي نعنيه هو الميول والرغبات الفاسدة التي استقرت في اللاشعور، والتي ورثناها عن آدم الأول رأس البشرية الساقط؛ والتي وصفها رسول الأمم في رسالته إلى أهل غلاطية قائلاً "وأعمال الجسد الظاهرة التي هي زنى عهارة نجاسة دعارة. عبادة الأوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزب شقاق بدعة حسد قتل سكر بطر وأمثال هذه التي أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضاً إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله" غلا 5: 19- 21.
عن هذا "الجسد" الفاسد، الذي يشبه الحجرة المظلمة الممتلئة بالحشرات يقول الرسول للأحباء في رومية "لأن اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله" رو 8: 6- 11.
ويتفق هذا الكلام مع الوصف العلمي "للهو" فالهو لا يتجه وفق المبادئ الخلقية، وإنما يسير على قاعدة تحقيق اللذة، غير متقيد بقيود منطقية.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن عقيدة المعصية الأولى أو الخطيئة الوراثية هي عقيدة صحيحة تتفق مع أسس علم النفس الحديث كما تتفق مع تعاليم الكتاب المقدس، والذي لا يؤمن بحقيقة وراثة الخطية لا يستطيع أن يدرك كنه النفس البشرية، ذلك لأن الاعتقاد بوراثة الخطية هو التعليل الوحيد الذي نراه معقولاً لانتشار الخطية في العالم والميل العام إلى الانحراف عن الطريق القويم، هذا الميل الموجود في قلب كل إنسان.
منذ وقت ليس ببعيد تصدى أحد الكتاب لعقيدة المعصية الأولى فكتب يقول "أما الإنسان فوقف بعد اليهودية والمسيحية موقفاً لا يحسد عليه كثيراً بسبب ما التصق به من وزر أبيه الأول آدم ذلك الوزر الذي اعتبر خطيئة أولى، وخطيئة باقية موروثة لا بد لها من كفارة وفداء حتى لا يذهب بجريرتها أبناء الجنس البشري كافة.
وإن أنسَ لا أنسى ما ركبني من الفزع والهول من جراء تلك الخطيئة الأولى، وما سيقت فيه من سياق مروع، يقترن بوصف جهنم ذلك الوصف المثير لمخيلة الأطفال، وكيف تتجدد فيها الجلود كلما أكلتها النيران، جزاء وفاقاً على خطيئة آدم. بإيعاز من حواء وأنه لولا النجاة على يد المسيح الذي فدى البشر بدمه الطهور، لكان مصير البشرية كلها الهلاك المبين.
فكان لا بد من عقيدة ترفع عن كاهل البشر هذه اللعنة، وتطمئنهم إلى العدالة التي لا تأخذ البريء بالمجرم، أو تزر الولد بوزر الوالد، وتجعل للبشرية كرامة مضمونة.
والحق أنه لا يمكن أن يقدر قيمة عقيدة خالية من أعباء الخطيئة الأولى الموروثة إلا من نشأ في ظل تلك الفكرة القاتمة التي تصبغ بصبغة الخجل والتأثم كل أفعال المرء، فيمضي في حياته مضي المريب المتردد، ولا يقبل عليها إقبال الواثق بسبب ما أنقض ظهره من الوزر الموروث.
إن تلك الفكرة القاسية تسمم ينابيع الحياة كلها. ورفعها عن كاهل الإنسان منة عظمى، بمثابة نفخ نسمة حياة جديدة فيه. بل هو ولادة جديدة حقاً ورد اعتبار لا شك فيه. إنه تمزيق صحيفة السوابق، ووضع زمام كل إنسان بيد نفسه" أ. هـ.
والكاتب الذي سجل بقلمه هذه الكلمات يحكم على نفسه بالجهل من الناحيتين العلمية والروحية.
فمن الناحية العلمية يؤكد علم النفس أننا جميعاً من الناحية النفسية قد ولدنا أنانيين منطوين، يبدو "الهو" في جهازنا النفسي بسلطانه المقلق، ومن خصائصه كما قلنا أنه لا يتجه وفق المبادئ الخلقية وإنما يسير على قاعدة تحقيق اللذة والابتعاد عن الألم، ومن مركباته النـزعات الفطرية والمكبوتة.
ومن الناحية الروحية تؤكد كلمة الله حقيقة وراثتنا للخطية فيقول الرسول بولس "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" رو 5. 12.
لقد تلوث آدم بالخطية، وكان آدم بالنسبة للبشرية كنبع النهر بالنسبة للنهر، فلما تلوث نبع النهر تلوثت المياه الجارية فيه من منبعه إلى مصبه.
أجل دخلت الخطية اللعينة إلى العالم، وتفشت في كل مكان وطأته أقدام الإنسان. وكان أول إنسان ولد من حواء هو "قايين" القاتل الأول الذي لوث الأرض بدماء أخيه هابيل، ولو لم يرث قايين الخطية من أبيه آدم فمن أين جاءته فكرة القتل؟ من أين دخلت الكراهية إلى قلبه؟ من أين ملأته الغيرة من أخيه حتى دفعته إلى ذبحه؟
وهابيل أيضاً قد ورث الخطية، ولاشك في أنه فعلها كذلك وإلا فلماذا يقدم من أبكار غنمه ومن سمانها قرباناً للرب إلا لأنه تعلم من أبيه أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" عب 9: 22.
وبعد هابيل ولد آدم ولداً ودعا اسمه شيثا ويؤكد الكتاب المقدس أن شيثا ورث أباه في كل شيء فقال "وعاش آدم مئة وثلاثين سنة وولد ولداً على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثا" تك 5: 3.
لقد خلق الله الإنسان مستقيماً كما يقول صاحب سفر الجامعة "أنظر هذا وجدت فقط أن الله صنع الإنسان مستقيماً. أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" جا 7: 29، أجل! سمع الإنسان لصوت الشيطان بمحض إرادته وحريته وانحدر على هوة العصيان وبهذا تلوثت كل ينابيع حياته.
وبغير جدال كان آدم نائباً وممثلاً لجميع الجنس البشري الذي كان في صلبه يوم تعدى وصية الله، فسقط الجنس البشري بسقوطه، واجتاز الموت كما رأينا إلى الناس أجمعين، وعم الفساد البشرية وهذا ما يقرره صاحب المزمور قائلاً "الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله. الكل زاغوا معاً فسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" مز14: 2و 3.
أجل... بعد طرد آدم من الجنة ولداً نسلاً ساقطاً نظيره في حالة الفساد الروحي والأدبي، وهذا ما يؤكده داود النبي في قوله "ها أنذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي" مز 51: 5، وهي كلمات تعلن حقيقة وراثة الخطية، التي شوهت حياة البشر جميعاً.
منذ وقت ليس ببعيد كتب كاتب اجتماعي مقالاً بعنوان "من هم الناس؟ صور فيه الناس بالصورة التي نلمسها كل يوم، الصورة التي سودتها الخطية. قال الكاتب الكبير: "لست أدري من هم الناس؟... قضيت عمراً أحاول أن أعرفهم فلم أستطع.. وإني لأروح وأغدو بينهم وهم حولي صناديق مغلقة لست تعرف على التحديد ماذا يرضيهم... إن أعطيت طلبوا المزيد، وإن كففت قالوا يا لهذا الرجل الذي تلين الحجارة ولا يلين... إن عفوت طمعوا، وإن انتقمت سكتوا. إن أحببت وعطفت قالوا ضعف وإن كرهت وابتعدت قالوا إنسان لا يحب الخير.... إن خدمتهم اجتمعوا حولك، فإذا انقضت الحاجة تفرقوا عنك... إن قدمت المعروف شكروا ريثما يتم، فإذا انتهى ما بينك وبينهم، فكأنك العدو المبين.
إذا آثرت العزلة قالوا متكبر مستوحش فإذا اختلطت بهم لم تسلم من ألسنتهم يروون عنك ما لم تقل، وينسبون إليك ما لم تفعل... إذا جلست بينهم فتحيات مباركات طيبات، فإذا توليت، أطلقوا فيك ألسنة حداداً..
إذا رعيت واحداً حتى يكبر فهو عند قدميك إلى أن يشب، فإذا طالت قامته، نظر إليك كأنك لم تكن في حياته شيئاً مذكوراً، وكأن يدك لم تمتد إليه بالخير، وكأن عقلك لم يمنحه النصيحة، وكأن هديك إياه حتى يرتفع كان عبثاً آذيته به، وأنه ارتفع لأن قدميه كانتا أثبت منك قدماً.
وإذا أحس أنك تزوره لحاجة، التوى وتعاظم كأنه رب في السماء، فإذا زارك لحاجة فهو الضعيف الأمين الرقيق، خادم إذا شئت، ذليل إذا شئت....
إذا كنت صاحب منصب كبير فالناس من حولك يذودون عنك، ويرتجفون بين يديك، ويملأون أذنيك مديحاً وملقاً... إذا تأففت جروا إليك يسألونك ماذا يضايقك... إذا قلت أنك لم تنم الليلة الماضية، أرقت أو سهرت، بدا الحزن على وجوههم، وأخذ كل منهم يهون الأمر عليك ويلتمس الأسباب التي تريحك... إذا أحسوا أنك حزين، انطلقوا يهرجون حتى تضحك، فإذا أحسوا أنك سعيد فقد عديتهم بالبُشر والهناء وإذا قلت فقولك الفصل، وإذا رأيت فرأيك وحي نازل من السماء... إذا خرجت فهم في ركابك، فإذا دخلت فهم أمامك يفسحون لك، ويهتفون بالناس أن يفسحوا لك... إذا مرضت فبيتك كعبة الزوار، وإذا الأفئدة من حولك واجفة، والقلوب داعية، والعيون مفعمة بآيات الحب والولاء... فإذا عوفيت فالدنيا كلها صفاء في صفاء....
وإذا أحسوا أن السلطان آخذ في الأفول، فهم أسبق إلى النجم الطالع ولسانهم يقول رب إنا لا نحب الآفلين... يقولون للنجم الجديد: كان طالعك في خيالنا منذ أمد بعيد... وإذا جاء ذكر صاحب المنصب القديم، تفضل كل واحد بكلمة أو غمزة أو حكاية فيها سخرية وتصغير، كأنما لم يكن في الأمس القريب بعض الحواريين الراكعين الساجدين.
الناجح عندهم عدو مبين، والفاشل سخرية الساخرين... الذكي لم يرفعه ذكاؤه، والمجد لم يرفعه جده.
الصديق لا مثيل له في الأولين والآخرين فإذا وقع ما يفسد الصداقة فهو الذميم ابن الذميم... ما من نقيضة في الدنيا إلا فيه... هؤلاء هم الناس... الناس بعد أن ملأت قلوبهم الخطية. وغرقوا في الخداع والنفاق والإثم. فبماذا يفسر الكاتب هذه الصور السوداء؟!
هذا يأتي بنا إلى حقيقة ثانية يجهلها ذلك الكاتب، ولا بد أن نرد عليها في هذا المقام وهي تظهر في كلماته "وكيف تتجدد الجلود كلما أكلتها النيران. جزاء وفاقاً على خطيئة آدم، بل إن الكتاب المقدس يقرر أنه كما دخلت الخطيئة إلى العالم بإنسان واحد هو "آدم"، وبدون مسؤولية النسل الهابط من ذلك الإنسان،كذلك رفعت هذه الخطيئة عن كاهل البشر أجمعين دون أن يحاسب الله عنها واحداً منهم وهذا ما يؤكده بولس الرسول في كلماته "فإذاً كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة على جميع الناس لتبرير الحياة" رو 5: 18. ولهذا قال يوحنا المعمدان وهو يشير على المسيح له المجد " هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم". يو 1: 29، وخطية العالم بغير جدال هي الخطية التي اشترك فيها الجنس البشري كله، من ولد منهم قبل ميلاد السيد المسيح بالجسد، أو من جاء إلى الأرض بعد صعود السيد إلى المجد. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن عملية الفداء وإن كانت قد تمت فوق الجلجثة منذ قرابة ألفي سنة، إلا أنها كانت في التدبير الإلهي قبل خلقه الإنسان، يعلن هذه الحقيقة الساطعة بطرس الرسول في كلماته "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم" 1بط 1: 18- 20، وواضح من هذه الكلمات الإلهية أن تدبير الفداء كان مرتباً قبل تأسيس العالم، وقبل خلق الإنسان، ولذا فإن أحداً من بني آدم لن يذهب على جهنم لأنه بعد أن بلغ سن المسؤولية ارتكب الخطية فعلاً أو قولاً، ورفض بعناد طريق الخلاص المرتب من الله بواسطة دم المسيح الطهور، فلا حاجة إذن لقلق ذلك الكاتب من جهة مصير ملايين البشر قبل المسيح، وسؤاله عن ذنبهم حتى يهلكوا بغير فرصة للنجاة، فالإنسان لا يؤخذ بذنب آدم ولا يعاقب على خطيئته وإنما يرث حالته فقط، حالة الميل إلى الخطية هذا الميل الذي نبعه "الإنسان العتيق" الذي يسميه علماء النفس "الهو" ذلك الجزء الفطري الذي هو الدوافع الفطرية في صورتها الهمجية كما يقول فرويد عالم النفس المشهور.
هذا يصل بنا إلى الحديث عن "الأنا الأعلى" أو "الذات المثالية" والكتاب المقدس يتفق تماماً مع علم النفس فيطلق على هذا الجزء من الجهاز النفسي اسم "الضمير"، والضمير في لغة الكتاب المقدس يمكن أن يكون صالحاً مدرباً وفق كلمة الله، ويمكن أن يكون موسوماً منجساً بحسب المبادئ والمثل التي تلقنها من بيئته، ولهذا نجد أناساً التوت ضمائرهم يرتكبون الأوزار دون أن يحسوا بألم أو تأنيب، قد يرتكب الواحد منهم جريمة قتل في سبيل عقيدة دينية متسلطة عليه دون أن يحس وخزاً في ضميره أو ألماً في نفسه.
وفي السجل المقدس نرى صورة تؤكد هذه الحقيقة، فقد قبض اليهود على المسيح له المجد وأرادوا قتله، ولكننا نعجب إذ نقرأ عنهم "ثم جاؤوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية لئلا يتنجسوا فيأكلون الفصح" يو 18: 28.
فانظر كيف يتلاعب الضمير فيرضى عن جريمة قتل لشخص بريء، ولا يسمح أن يدخل المرء إلى دار الولاية لئلا يتنجس؟!
الدخول إلى دار الولاية نجاسة، وقتل المسيح القدوس أمر مقدس جليل... ياللضمير الملتوي!!
وكم من أشخاص يسكرون، ويعربدون، ويقامرون، ويدخنون، ويرتكبون مختلف الشرور ثم لا يسمح لهم ضميرهم النجس أن يتوقفوا عن القيام بفرض ديني، كالصوم، أو الصلاة، أو غير ذلك من فروض.
لهذا يحذر بولس تلميذه تيموثاوس قائلاً "ولك إيمان وضمير صالح الذي إذ رفضه قوم انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان أيضاً" اتي 1: 19، وبولس في هذا التحذير يطالب تيموثاوس بضرورة الاحتفاظ بضميره صالحاً يقظاً.
وفي موضع آخر يتحدث الرسول عن الضمير النجس قائلاً "كل شيء طاهر للطاهرين وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهراً بل قد تنجس ذهنهم أيضاً وضميرهم" تي 1: 15.
وفوق هذا نجد حديثاً جميلاً عن الضمير المدرب إذ يقول بولس "لذلك أنا أيضاً أدرب نفسي ليكون لي دائماً ضميرٌ بلا عثرة من نحو الله والناس" أعمال 24: 16.
وعمل "الضمير" أو "الأنا الأعلى" كما يقول علماء النفس هو صب اللوم على "الأنا" حين يخطئ وينحرف عن السلوك القويم، ونحن نرى هذا الفكر واضحاً في كلمة الله.
ذات يوم جاء الفريسيون بامرأة أمسكت في زنى وقدموها إلى شخص المسيح الكريم ولما أقاموها في الوسط قالوا له: يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت؟ قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه. وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر. ثم انحنى أيضاً إلى أسفل وكان يكتب على الأرض. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحداً سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك. أما دانك أحد فقالت لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي أيضاً" يو 8: 3- 11.
على ضوء ما تقدم نرى أنه في مقدورنا أن نعرف الجهاز النفسي بالتعريف الكتابي، كما نعرفه بالتعريف العلمي، فالتعريفان يتفقان وسنضعهما في الجدول التالي.
الاسم في علم النفسالاسم في الكتاب المقدس
الأناالعقل
الهوالإنسان العتيق
الأنا الأعلىالضمير
وهنا يجدر بنا أن نتحدث عن الصراع النفسي بين العقل والإنسان العتيق، وبين العقل والضمير وهو صراع رهيب جبار إذا لم يعالج العلاج الصحيح أدى بالمرء إلى كثير من حالات الاضطراب والمرض النفسي.
وفي السجل المقدس صورة تجسم لنا حقيقة هذا الصراع جاءت على لسان بولس الرسول، اسمعه وهو يتحدث إلى القديسين في رومية قائلاً "فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية. لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن. فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ. فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى لست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيّ. إذا أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي. فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت" رو 7: 14- 24.
فأي صراع أفظع من هذا الصراع بين "العقل" أو "الأنا" بين "الهو" أو "الإنسان العتيق" من جهة وبين "العقل" وبين "الأنا الأعلى" أو "الضمير" من جهة أخرى.
إنه صراع يحس به كل فرد داخل نفسه، وهو يستنـزف الكثير من طاقته، ويصيب الكثيرين من الشيوخ والشباب بشتى أنواع القلق والاضطراب.
فهل في مقدور المسيحية أن تجد علاجاً لهذا الصراع المرير أو تكفي علاجات البشر في إنهاء هذا الصراع الجبار؟!
يقيناً أن المسيحية تقدم العلاج الحاسم الأوحد لهذا الصراع النفسي، ولكننا قبل أن نتحدث عن هذا العلاج الفريد سنأخذ مجالاً للكلام عن العلاجات البشرية، والنتائج النفسية لهذا الصراع الخطير.
لقد سبق أن عرفنا أن هناك صراعاً جباراً بين "الأنا" وعالم الواقع وببين "الأنا" و "الهو" وببين "الأنا" وبين "الأنا الأعلى" شرحناه بالتفصيل فيما سبق من حديث، كما عرفنا كذلك أن مهمة الأنا هي الحصول على حالة اتزان بين هذه القوى الثلاثة، على أن هذا ليس ممكناً دائماً بالبساطة التي نتصورها فقد اغتصب مالاً ولكيلا أشعر بالخطيئة أبرر العمل بيني وبين نفسي فأصل إلى حالة ارتياح، أو يعود "الأنا" إلى حالة الاتزان، وهناك حيل نفسية متعددة توقف إلى حين الصراع الدائر في النفس البشرية، يطلق عليها علماء النفس اسم الحيل العقلية اللاشعورية نذكرها فيما يلي لنبين أنها لا يمكن أن تفلح في علاج الصراع النفسي، ونعتمد في ذكرها على كتابين هما كتاب "الدوافع النفسية" وكتاب "علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية".
والآن إلى الحديث عن بعض هذه الحيل
- عدد الزيارات: 26138