Skip to main content

الفصل الثاني: قصد الله في الطبيعة

لم يخلق الله العالم وحسب، بل يحكمه ويديره لأهداف فدائية. هذا هو التشديد المستمرّ الذي يلاحظه رجال الإيمان في الكتاب المقدس كلما خطر لهم موضوع الكون الماديّ الطبيعي. أما الذين كتبوا الكتاب المقدس فلم تشغلهم هذه الأمور إلا قليلاً. إنها لم تستحوذ على تفكيرهم كما تستحوذ على تفكير أناس العصر الحديث. ويجدر بنا أن نعير الموضوع شيئاً من اهتمامنا ما دمنا نبغي القيام بدراسة كاملة لعمل الله وقصده الخلاصييّن في العالم.

ينظر الناس إلى الله فيراه بعضهم محصوراً في العالم ويراه البعض الآخر بعيداً عن العالم. أما الكتاب المقدس فلم يقعوا قط في أي من هذين الخطأين. إن هناك من يقول بتأليه الكون أو بما يسمى "وحدة الوجود" (Pantheism). هذا الرأي لا يميّز بين الله والكون ويعتبرهما شيئاً واحداً (1). ينظر أصحاب هذه العقيدة إلى الله فيعتبرونه مبدأ عاماً شاملاً حتى ليقولون أن كل شيء في الوجود هو الله والله هو كل شيء. لكن أصحاب الرأي المتطرف الآخر، القائل بوجود الله وإنكار الوحي أي "الدايزم" (Deism)، فيعتقدون بالله كما اعتقد اليهود في المسيح (2). إنهم يفصلون بين الله والعالم. إن خليقة الله في رأيهم حادث جرى في الماضي حرّك الله به "نظاماً قائماً بنفسه بموجب قوانين طبيعية لا تتغير ويعمل طائعاً دوماً لتلك القوانين" (3).

لم يقع كتّاب الكتاب المقدس قط في خطأ أصحاب عقيدة "وحدة الوجود"، أي أنهم حَرَصوا على ألا يخلطوا بين الله والعالم. جاء في سفر أشعيا 66: 1 "السموات كرسيّي والأرض موطئ قدميّ." إن هذا القول بديهي حتى أن كتّاب العهد الجديد استخدموه واقتبسوه مراراً عديدة (4). يتبيّن من هذا أن من الخطأ الخلط بين الله والكون وجعل الاثنين واحداً. إن وقار رجال الكتاب المقدس واحترامهم لله منعهم من الخلط الكائن في عقيدة "وحدة الوجود." ليس في الكتاب ما يشير إلى احترام قوى الطبيعة أو أشياء العالم المادي على أساس أنها الله. إن التوحيد بين الله والعالم واعتبارهما واحداً يسيء إلى فكرة الله إذ بذلك تصبح الطبيعة إلهاً، وذلك غير صحيح (5).

إن كتّاب الكتاب المقدس، في الوقت ذاته، لم يفصلوا الله عن العالم. إن العالم في حالته الحاضرة "بعيد عن كونه ملكوت الله- غير أنه يظلّ عمل الله والمكان الذي يُجري الله فيه عمله" (6). عندما تكلم يسوع عن الله قال أنه "ربّ السماء والأرض" (متى 11:25). فالله هو الخالق الحاضر في العالم: يجعل الشمس تشرق كل صباح ويرسل المطر على الأرض (متى 5: 45)، يعطي الطيور ما تقتات به (متى 6: 26)، ويكسو عشب الحقل وأزهاره كساء مجيداً لم يلبس مثله سليمان (متى 6: 29- 30). الله يهيمن على الطبيعة حتى ليستطيع المؤمن أن يصلي "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" (متى 6: 11)، ويستطيع أن يعتمد على الله الذي يهب خيرات للذين يطلبونها منه (متى 7: 11). وكان بولس يرى الرأي ذاته في سيادة الله المسيطرة على الطبيعة. فقد قال في رسالته إلى أهل كولوسي أن الكل، أي كل ما خلقه الله، يقوم بالمسيح بقوة الله (كولوسي 1: 17).

إن هذا، بالطبع، ليثير السؤال حول علاقة الله بالناموس الطبيعي، وهو الذي قام حوله الجدل في كثير من الأوساط في القرن الماضي ولا يزال بلا حلّ إلى الآن. ويميل المرء إلى الاعتقاد بأن هذا الجدل في غير محلّه وأن سببه هو تداخل عدة قضايا بعضها في بعض. ويبدو أن رجال العلم الطبيعي يتجاوزون أحياناً حدود الدرس الموضوعي للطبيعة ويشرعون في التكلم كما لو كانوا فلاسفة يحاولون تعريف القوى التي تعمل في الطبيعة. ورجال الإيمان، من الناحية الأخرى، نظروا أحياناً إلى الكتاب المقدس، ونادوا به، كما لو كان كتاباً علمياً (7). والمشكلة هي أن كلاً من الفريقين المذكورين لا يدرك حدود مهمته ومجال عمله. إن مهمة العلم الطبيعي هي دراسة الطبيعة دراسة موضوعية واكتشاف العلاقات القائمة بين مختلف الظواهر في العالم. ليس هناك من ينكر وجود نظام في العالم الطبيعي، وأن هذا النظام يمكن اكتشافه بالدراسة الموضوعية.لقد قدّم العلم الطبيعي للجنس البشري خدمة جُلّى عن طريق ما يعمله هذا العلم. غير أنه لا يمكن بالدراسة الموضوعية التأكد أن الأشياء التي تحدُث عادة في الطبيعة لابدّ أن تحدث دائماً. ولا تقدر الدراسة الموضوعية ذاتها أن تخبرنا ما هي القوة النهائية التي بالفعل تسبّب حدوث الأشياء. إن العلم الطبيعي في الجيل الماضي. من المعترف به الآن أن قوانين الطبيعة لا تقدّم "نظاماً حازماً" هو من الدقة بحيث يضمن ولو نتيجة واحدة، إلا أن تلك القوانين تشير إلى مجموعة من الإمكانيات التي "تتضمن الأشياء البديلة والمدى" (8). وما دام العلم الطبيعي يلتزم بعمله ومهمته ولا يتجاوز حدود نظامه فإنه لا يتعارض مع الإيمان.

لا اصطدام بين الدين والعلم. فكل منهما يعمل في حقله الذي يختلف عن حقل الآخر. من عمل الدين أن يعرّف ويوضح ما هو المصدر النهائي للقوة التي هي علة كل النتائج في الكون، تلك النتائج التي يلاحظها العلم. ليس الخيار بين العلم والمسيحية، بل بين الإيمان المسيحي وعقيدة أخرى بالتاريخ (9). الإيمان يؤكد أن القانون الطبيعي هو الأسلوب المعتاد الذي يستخدمه الله في ضبطه الكون وتسييره. فأيّة عقيدة تنكر أن القانون الطبيعي هو قانون الله لا تكون إلا فلسفة أخرى تتعلق بالطبيعة، ولا يجوز اعتبارها علماً حتى ولو كان القائل بها رجل علم.

فالذي نجده في الكتاب المقدس، إذن، ليس نظاماً للعلم الطبيعي بل علم لاهوت بتكلم عن الطبيعة- ويتضمن الاعتقاد بأن الله يضبط قوى الطبيعة ويديرها. وفي رأي كتّاب الكتاب المقدس ليس ضبط الله لقوى الطبيعة عبارة عن ضبط يقوم به مهندس إلهي صنع آلة وأدارها وتركها تدور تلقائياً. كما ليس هو كضبط طفل يلعب حسب هواه بقوى الطبيعة ليرضي نزواته. إنه ضبط مستمر يقوم به الإله الحي بشكل خلاّق، الإله الذي همّه الرئيسي خلاص الإنسان. ومع ذلك يسود الاعتقاد في الأسفار النبويّة من الكتاب المقدس أن الله يستطيع أن يفعل بالكون ما يشاء. الله هو الذي يسيطر على الطبيعة ويضبطها، "وضبطه للطبيعة"، كما يقول بول مينيار، "يترابط مع الغاية التاريخية الوحيدة التي هي إظهار مجده". إن العالم الطبيعي هو المسرح الذي عليه يُخرج الله دراما الخلاص.

هناك غاية ومعنى للمسرح الذي عليه تجري دراما الخلاص، وهذان قد يسمّيان علم لاهوت الطبيعة وهو العلم الذي يتضمّنه الكتاب المقدس. وطبعاً لن يتّجه انتباهنا كثيراً إلى المسرح، إذ لا معنى له في ذاته. ولكن يلزم أحياناً أن يصبح المسرح محطّ النظر لفترة قصيرة، إذ أن ذلك يساعدنا لنفهم الدراما ذاتها.

أولاً، يرى الكتاب المقدس أن الطبيعة تعكس نور مجد الله، نجد التعبير الكلاسيكي لذلك في المزمور 19: 1، 2: "السموات تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يذيع كلاماً، وليل إلى ليل يُبدي علماً." ويصرّح بولس فيما يختصّ بعابدي الأوثان فيقول أنهم بلا عذر لأن "قدرته السرمدية ولاهوته" معلنة في الطبيعة (رومية1: 20)، غير أن عمل الطبيعة هذا محدود تماماً، فهو لا يستطيع أن يحل محل إعلان الله عن ذاته بالطرق الأخرى. فالكتاب المقدس لا يجد في الطبيعة ما يكفي لإعلان نعمة الله، إذ ليست الطبيعة هي البديل لإعلان الله في المسيح.

ثانياً، كان كتّاب الكتاب المقدس يعتقدون أن الله استخدم الطبيعة ووجّهها ليسكب بركاته على الطائعين ويصبّ دينونته على العصاة. إنه يملأ خزائن الذين يكرمونه ويجعل معاصرهم تفيض بالمسطار (أمثال 3: 9، 10). وقال الرب لسليمان أنه يُبرئ الأرض بعد أن يضربها الجفاف والجراد والوبأ (2 أيام 7: 13، 14). ولكن طريقة إبرائها ليست باستعمال أساليب زراعية أفضل بل بصلاة التواضع والتوبة الحقيقية التي يرفعها شعب الله. عندما طلب إيليا من الله أن يمنع المطر عن الأرض ثلاث سنين وبّخه الملك داعياً إياه "مكدّر إسرائيل." أما إيليا فأجاب: "لم أكدّر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم" (1 ملوك 18: 17، 18). فإيليا كان يعتبر منع المطر عن الأرض دينونة وعقاباً على الخطية. إن تصريحات رجال الكتاب المقدس هذه ليست إلا أمثلة. إن ضبط الله للطبيعة يعتبر إجمالاً ضبطاً مطلقاً، وقد استخدم لدعوة شعبه للتوبة وإتّباع حياة البر. ربما يرفض البعض الاعتقاد أن هذا الرأي المتعلق بالطبيعة وضبط الله لها رأي صحيح، وطبعاً ليس من طريقة لإثبات صحته. فهذه حقيقة تستند إلى الإعلان الإلهي، وهي قضية إيمان، وستبقى كذلك.

في هذا الجو، جوّ الإيمان، وليس في سواه يمكن البحث في موضوع المعجزات. إن إنكار أية إمكانية لحدوث معجزة هو إنكار لحقيقة ضبط الله للطبيعة وسيطرته عليها. بينما الإيمان بأن الله يضبط الطبيعة ويسيطر على الطبيعة فلابدّ من وجود وقت يقوم الله فيه بعمل في الطبيعة يظهر للناس أنه معجزيّ. ما دام اهتمام الله الرئيسي هو بخلاص بني الإنسان وليس بالمحافظة على انسجام قوى الطبيعة، فلا بد أن يكون وقت تَحْدُث فيه المعجزات إذا كان حدوثها يسهم في خلاص البشر.

يسجّل الكتاب المقدس حدوث معجزات. من الجدير بنا أن نلاحظ أمرين يتعلقان بما ورد في الكتاب. أولاً، أن عمل المعجزات لم يكن قط مناوئا للطبيعة، لم يكن عمل شخص غريب يجتاح العالم الطبيعي ويشوّشه (13).فالمعجزات، في كل المواضع التي ذكرت فيها تقريباً، هي، بالأحرى، عمل الله فوق الطبيعة ليعيد للإنسان الصحة أو الخير اللذين فقدهما. إنها أعمال رحمة وخير في الطبيعة. ثانياً، للمعجزات دائماً مغزى خلاصي. تجدر الإشارة هنا إلى أن الكتاب المقدس ليس كتاب معجزات. فيه معجزات قليلة، أو هكذا يبدو لمن يتعرّض للجدل حول إمكان حدوث المعجزات. والمعجزات المذكورة في الكتاب تُرى متجمّعة حول عدد قليل من الرجال العظام الذين كانوا يفتتحون انطلاقاً جديداً في عمل الفداء الإلهي. ففي العهد القديم كان صانعوا المعجزات الرئيسيين هم موسى الذي أعطى الله الشريعة بواسطته، وإيليا واليشع مؤسّساً حركة الأنبياء. عدا عن معجزات هؤلاء الثلاثة ليس في العهد القديم سوى حوادث قليلة متباعدة. ما السرّ في ذلك؟ هل هو أن هؤلاء الرجال كانوا وحدهم يتمتّعون بإيمان فائق؟ لا، ولكن لأنهم كانوا يفتتحون انطلاقاً جديداً في برنامج الله الفدائي. كانوا في حاجة لما يؤيدهم ويشهد لهم بوصفهم رسل الله الحقيقيين. هذا كان السبب الحقيقي الذي جعل الله يصنع المعجزات بواسطتهم.

إن هذا يفسّر لنا سبب توقّعنا أن يُجري يسوع والرسل عجائب ومعجزات، وكذلك يفسّر حقيقة إجرائهم تلك العجائب والمعجزات. لقد كانوا يفتتحون الخطوة النهائية في برنامج الله الفدائي. صحيح أنهم صرّحوا بأن لهم سلطاناً إلهياً، وبيّنوا أن ما كانوا يفعلونه سبق فذُكر في النبوّات والناموس. غير أن الإنسان العاميّ لم يقدر أن يفهم كل ذلك. كان في حاجة إلى الاقتناع. لذلك صنع الرسل معجزات، فكان ذلك جزءاً من خدمتهم. وكان الله بذلك يقدم برهاناً على مأموريتهم الإلهية. قال نيقوديموس ليسوع: "نعلم أنك قد أتيت من الله معلّماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه" (يوحنا 3: 2). هذا، إذن، هو تفسير وجود المعجزات في الكتاب المقدس. لقد استخدمها الله لتزويد رسله بالبرهان لكي يقبل الناس تعليمهم ويدركوا أنهم أصبحوا في مرحلة جديدة من برنامج الله الفدائي.

ربما يفسّر هذا سبب خلوّ الخدمة المسيحية هذه الأيام من المعجزات. لا نرى أن لها قصداً فدائياً ينبغي إنجازه. إن خدمتنا للمسيح هذه الأيام مبرهنة بانسجامها مع تعاليم العهد الجديد. صار لنا مقياس نفحص به أية رسالة مسيحية، ولا حاجة بعد للمعجزات لتقوم بهذه المهمة. أصبحنا لا نستغرب إذا لم تحدث المعجزات، بل بالأحرى تتولانا الدهشة إذا حدثت.

إن هدفنا من كل هذا البحث هو الإشارة إلى أن ضبط الله للطبيعة أو توجيهه لها ما هو إلا عامل واحد من عوامل قصد الله الفدائي الواسع النطاق. لقد خلق العالم لأهداف فدائية ويواصل السيطرة عليه لأهداف فدائية أيضاً. أما الحقائق المتعلقة بالطبيعة فليست ضرورية لإيمان رجل الإيمان. فهو قد يقبل هذه الحقائق ويعتقد بها، ولكنه في الواقع لا يحتاج إلى هذه الحقائق لتدعيم إيمانه، ويكفيه من هذه الناحية أن يعرف ما الذي يسيطر على الطبيعة ولماذا؟ وجوابه هو أن الله هو الضابط المسيطر على الطبيعة، وأنه يفعل ذلك لأهداف فدائية خلاصية.

  • عدد الزيارات: 5454