Skip to main content

7- الحجج الخاصة بالمقارنات الدينية والضرورة القانونية

1- أن كثيرين من الانجيلين يعتقدون أنهم يتناولون من جسد المسيح ودمه روحياً، لكن المادة لا تتحول إلى روح، كما أن الروح لا تتحول إلى مادة.ولذلك فالقول بتحول العشاء الرباني إلى ذات جسد المسيحودمه هو الصواب، لأن المادة يمكن أن تتحول إلى مادة [الأفخارستيا ص101،182].

الرد: فضلاً عن أن صاحب هذه الحجة يعتقد أن العشاء الرباني الذي يعمل في كنيسته يتحول ليس إلى ناسوت المسيح فحسب بل وإلى لاهوته أيضاً، أي أنه بجانب تحوله إلى مادة غير المادة الأصلية، يتحول إلى لاهوت أو بتعبير آخر إلى روح (لأن اللاهوت روح)، الأمر الذي ينتقده في عقيدة هؤلاء الانجيلين حسب فهمه لها، نقول إن الانجيلين المذكورين لا يعتقدون أن العشاء الرباني يتحول من مادة إلى روح، بل يعتقدون أنهم بتناولهم من العشاء الرباني بأفواههم، يكونون قد تناولوا من جسد المسيح ودمه روحياً بقلوبهم. ولما كانت هذه الحجة قد بنيت على عدم معرفة بالعقيدة التي يعتنقها هؤلاء الانجيليون، فانها تكون قد بنيت على غير أساس، ومن ثم فهي حجة لا أساس لها.

2- إن الله أقام العهد القديم بدم الذبائح الحيوانية (خروج 24: 2)، وأقام العهد الجديد بدم المسيح، فقد قال المسيح عن كأس العشاء الرباني إنها العهد الجديد بدمه (لوقا 22:20). ولذلك لو أن الخمر التي كانت في هذه الكأس لم تتحول وقتئذٍ إلى ذات دم المسيح، لكانت رموز العهد القديم أفخم من حقائق العهد الجديد، وهذا ما لا يتفق مع الوحي أو العقل إطلاقاً [الأفخارستيا ص40، 45، 46، 83].

الرد: (أ) إن الله لم يؤسس العهد الجديد على السائل الذي كان في كأس العشاء الرباني، والذي يقول صاحب هذه الحجة عنه إنه تحول إلى ذات دم المسيح، بل أسس هذا العهد على دم المسيح الذي سفك على الصليب. والدليل على ذلك أنه عندما سفك هذا الدم انشق الحجاب الذي كان موضوعاً أمام قدس الأقداس (متى 27: 51)، فاتحاً لنا الطريق إلى الله في عهد جديد لا ذكر فيه للخطية على الاطلاق، كما ذكرنا في الباب الأول ( عبرانيين 8: 12).

فضلاً عن ذلك فإن المسيح لم يقل: "هذه الكأس هي العهد الجديد التي فيها دم بعينه"، أو "التي فيها دمي"(بدون كلمة عينه هذه)، حتى كان يجوز القول بتحول الخمر التي كانت فيها إلى دمه، بل قال عن الكأس المذكورة "إنها العهد الجديد بدمي"، وهذه العبارة التي لا تعني سوى أن العهد المذكور قد قام بدم المسيح (وطبعاً دمه الذي سفك على الصليب كما ذكرنا فيما سلف)، والذي كان السائل الموجود في هذه الكأس رمزاً له، لأن قول المسيح عن هذه الكأس إنها "العهد الجديد بدمي"، هو قول مجازي محض. إذ أن الكأس المذكورة ليست هي ذات العهد الجديد، بل إنها فقط الدلالة على هذا العهد كما ذكرنا أسضاً في الباب الأول.

(ب) أما عن كلمة "أفخم" التي وردت في هذه الحجة، والتي تتكرر بصور مختلفة في حجج القائلين بالاستحالة. فإنها تدل على ميلهم إلى تأليف عقائد دينية تجعل المسيحية في نظرهم أفخم من اليهودية. وإن كان المجال لا يتسع أمامنا لمناقشة هذا الموضوع، لكن نقول بكل اختصار: حقا إن المسيحية (أفخم) من اليهودية (وأفخم) منها بدرجة لا حد لها (عبرانيين 6: 9، 7: 19) لأن اليهودية لم تكن إلا تمهيداً للمسيحية وظلالها (عبرانيين 8: 5). لكن (فخامة) المسيحية ليست في المظاهر المادية بل كان من البديهي ألا تظهر هذه الحقائق بمجد تراه العيون الجسدية، أو يطرأ على العقول البشرية. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال: "إن كانت خدمة الموت (اليهودية) المنقوشة بأحرف في حجارة قد حصلت في مجد، حتى لم يقدر بنو إسرائيل أن ينظروا إلى وجه موسى بسبب مجد وجهه الزائل، فكيف لا تكون بالأولى خدمة الروح (المسيحية) في مجد!! لأنه إن كانت خدمة الدينونة (اليهودية) مجداً، فبالأولى كثيراً تزيد خدمة البر المسيحية في مجد[39]. (لذلك) فإن الممجد (في المسيحية) لم يمجد من هذا القبيل (الظاهري) بسبب المجد الفائق ( الذي هو المجد الروحي)" (2كورنثوس 3: -10).

3- إن ذبيحة الفصح السنوية التي كان يقدمها بنو إسرائيل تذكاراً للذبيحة التي قدموها أولاً في أرض مصر، كانت مثلها تماماً. ولذلك فإن العشاء الرباني الذي هو تذكار لموت المسيح على الصليب لأجلنا, يجب أن يكون مثل المسيح تماماً, أي لابد أن هذا العشاء يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته (الافخارستيا ص 47 و 82).

الرد: (أ) إن تذكار الفصح الذي كان يعمله بنو إسرائيل كل عام, كان خروفاً مثل خروف الفصح الذي عملوه أولاً في أرض مصر, لأن الله أمرهم أن يعملوا التذكار خروفاً مثله (خروج 12: 1- 8). لكن المسيح أمرنا في العهد الجديد أن نصنع تذكار موته بخبز وخمر، وليس هناك دليل كتابي أو عقلي يثبت أن الخبز والخمر المذكورين بتحولان إلى ذات جسد المسيح ودمه, لذلك لا يجوز لنا أن نقول من عندنا إنهما مثل المسيح أو إنهما يتحولان إلى لاهوت المسيح وناسوته, أو حتى إلى ذات جسده ودمه فحسب. لأنه ليس لنا أن نطبق ديناً ما على المسيحية, أو نقتبس منه أنظمة وطقوساً نضيفها إليها, إذ أن المسيحية كاملة في ذاتها كل الكمال, وإضافة أي شيء إليها يقلل من كمالها ويشوه من جمالها.

فالله أمر اليهود (مثلاً) أن يقيموا هيكلاً في العهد القديم، لكنه لم يأمرنا في العهد الجديد بإقامة هيكل ما, ليس لأن اليهودية أفضل من المسيحية، بل لأن الله لا يسكن في هياكل مصنوعة بأيدي الناس (أعمال 7: 48، 17: 24)؛ وما الهيكل الذي أمر اليهود بإقامته قديماً إلا رمز مؤقت للأقداس السماوية الأبدية التي يوجد فيها المسيح (عبرانيين 18: 5- 11)، والتي يدخل إليها المؤمنون الحقيقيون بقلوبهم أثناء عهد النعمة، لكي يقدموا العبادة الروحية التي تتوافق مع مشيئة الله، والتي سيقيمون فيها معه إلى الأبد بعد ذلك. (عبرانيين 4: 16، 10: 19- 22). ومن ثم فإقامتنا لأي هيكل في العهد الجديد تشبهاً باليهود، أو اقتداؤنا بهم في أي مظهر من مظاهر عبادتهم، يعتبر في الواقع تهويداً للمسيحية أو رجوعاً بها إلى عهد الظلال والرموز, وبالتبعية تجريداً لها من سماويتها وروحانيتها تجريداً تاماً.

أما هيكل الله الموجود على الأرض الآن, والذي نص الكتاب المقدس على وجوده, فهو المؤمنون الحقيقيون أنفسهم. فقد قال الرسول لهم: "جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله" (1 كورنثوس 6: 19)، وقال لهم أيضاً: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي كما قال الله، أني سأسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كورنثوس 6: 16). كما قال عنهم إنهم بيت الله (عبرانيين 3: 6). ولذلك يحرضنا الوحي قائلاً: "كونوا أنتم أيضاً كحجارة حية بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بطرس 2: 5) – وقد عرف هذه الحقيقة كل القديسين القدامى، ولذلك قالوا: "من ذا الذي يرى هذا الهيكل المكوّن منا! هذا القدس الأعظم الإلهي بالحق!" (يوسابيوس 447).

(ب) كما أن خروف الفصح الذي ذبح مرة في أرض مصر لم يكن فريداً في نوعه, بل كان كغيره من الخراف في المظهر والجوهر، ولذلك كان من الجائز أن يكون تذكاره السنوي خروفاً مثله. أما المسيح فليس له نظير على الإطلاق، ولا يمكن تكوين شخص مثله بأي حال من الأحوال. ولذلك لا يمكن أن يكون تذكار موته واحداً مثله، كما لا يمكن أن يكون هذا التذكار هو ذات شخصه تحت هيئة الخبز والخمر المستعملين في العشاء الرباني، لأنه ليس هناك دليل كتابي أو عقلي على حدوث الاستحالة كما ذكرنا في الفصلين الأول والثاني من هذا الباب.

فضلاً عن ذلك فإن كلمتي "يقدمها" و "قدموها" الواردتين في الحجة التي نفحصها عن خروف الفصح، ليس لهما أساس في الكتاب إطلاقاً، لأن الفعلين المستعملين في هذا الكتاب عن الخروف المذكور هما "يعمل الفصح" و "عمل الفصح" (خروج 12، العدد 9: 2، 5، 13، يشوع 5: 10). وإذا كان الأمر كذلك، فما غرض صاحب هذه الحجة من استعمال كلمتي "يقدمها" و "قدموها" اللتين أوردهما؟

الجواب: أظن أنه إن لم يكن ذلك من باب السهو أو الخطأ في النقل، يكون قد استعمل هاتين الكلمتين لكي يثبت (حسب وجهة نظره) أن الفصح كان ذبيحة تقدم لله. وبما أنه كان رمزاً للعشاء الرباني (من بعض الوجوه)، يكون هذا العشاء (حسب منطقه) ذبيحة تقدم لله، وتقدم له لأجل الحصول على الغفران. لكن الحقيقة هي أن الفصح الذي كان يعمله بنو إسرائيل كل عام، كانوا يعملونه ليس لأجل الحصول على الغفران، بل لأجل تذكار الخلاص الذي عمله الله لآبائهم مرة في أرض مصر، ولذلك كانوا يعملون هذا الفصح في بيوتهم، كما كانوا لا يلجئون إلى كهنة لكي يناولوهم إياه، بل كانوا يتناولونه بأنفسهم (خروج 12: 8).

4- لو كان العشاء الرباني لا يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته، لما كان المسيح يعتبره الطعام الأفضل الذي وعد به اليهود إزاء افتخارهم بالمن ولأصبح هذا المن الذي لم يكن إلا رمزاً للعشاء الرباني، أفضل من العشاء الرباني نفسه. وبما أن الرمز لا يكون أفضل من المرموز إليه، إذاً لا بد أن هذا العشاء يتحول إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته. (الإفخارستيا ص 36).

الرد: إن المن لم يكن رمزاً للعشاء الرباني، بل كان رمزاً للمسيح نفسه, وذلك من جهة كونه خبز الله النازل من السماء كما ذكرنا في الباب الثاني. كما أن الطعام الأفضل الذي وعد المسيح بإعطائه لليهود والناس جميعاً، لم يكن هو العشاء الرباني، بل إنه شخصه بالذات، كما اتضح لنا في الباب المذكور. وكل من تناول المسيح بالإيمان في القلب، يشهد بحق أنه أفضل من المن بدرجة لا حد لها, لأن المسيح وحده هو المخلص من الخطية ونتائجها والواهب حياة روحية أبدية لكل الذين يقبلونه, الأمر الذي لم يستطع المن أو غير المن أن يفعله, ولذلك ليس هناك مجال لكلمات أفخم أو أفضل أو أشرف على الإطلاق.

5- إن قول الرسول: "لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين" (1كورنثوس 10: 21)، بستنتج منه أن العشاء الرباني هو ذبيحة من جسد ودم، لأن الرسول يقارن في هذه الآية بين مائدة الرب، وبين مائدة الشياطين التي كان الوثنيون يقدمون عليها ذبائحهم، والمقارنة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت بين شيئين متشابهين (الافخارستيا ص 209).

الرد: ليس من الضروري أن تكون المقارنة بين شيئين متشابهين، فقد تكون أحياناً بين شيئين متناقضين. فنحن نقارن مثلاً بين الملاك وبين الشيطان، مع أن الأول يختلف عن الثاني كا الإختلاف. فضلاً عن ذلك, فإن الرسول لا يقارن هنا بين أشياء موضوعة على مائدة الرب, وبين أشياء موضوعة على مائدة الشياطين، حتى كان يجوز البحث عن وجه شبه بينهما, بل إن الرسول يعلن في هذه الآية أنه ليست هناك أية علاقة بين المائدتين, وأنه تبعاً لذلك يجب على المسيحيين أن يقطعوا كل صلة بينهم وبين مائدة الشياطين الوثنية (1 كورنثوس 10: 21). فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإصطلاح "مائدة الرب" يرد في الكتاب المقدس بمعنى العشاء الرباني نفسه, وليس بمعنى "الأداة التي يوضع عليها العشاء الرباني" كما ذكرنا فيما سلف, اتضح لنا أن هذه الحجة لا مجال لها على الإطلاق.

6- إن الأعمال الصالحة التي نقوم بها لا تعتبر ذبيحة لله، لأنها ليست مقدمة له بل للناس، ولأن الغرض منها ليس التعبد لله بل مساعدة الناس. ولنا في ربنا يسوع المسيح أعظم مثال على وجوب تقديم ذبيحة كفارية لله, فهو لم يكتف بأن تكون ذبيحة عنا عملاً من الأعمال الصالحة المألوفة لدينا, بل إنه مع قيامه بهذه الأعمال بوفرة وكثرة، قدم نفسه ذبيحة على الصليب. وهذا دليل واضح على أنه ليست هناك وسيلة في العهد الجديد نستمطر بها رحمة الله, سوى تقديم الذبيحة الكفارية, التي هي العشاء الرباني, وهذه الذبيحة هي في الواقع أعز وأثمن ما لدينا في الوجود. فضلاً عن ذلك فإن الذين يجردون العهد الجديد من هذه الذبيحة, وقولون إن الذبيحة في هذا العهد هي الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة فقط, يجعلون العهد القديم أشرف من العهد الجديد، لأن اليهود مع قيامهم بهذه الأعمال, كانوا يقدمون ذبائح كفارية لله (الإفخارستيا ص 210، 222).

الرد: (1) إن الأعمال الصالحة التي يقوم بها الناس بغية الحصول على الثواب أو النجاة من العقاب، هي أعمال تجارية, ولذلك لا تعتبر ذبائح مقدمة لله. أما الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمنون الحقيقيون رغبة في مشاركة الله في شعوره من نحو الناس وإكرام اسمه وتمجيده بينهم, يعتبرها الله ذبائح مقدمة له شخصياً، لذلك قال الوحي: "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع, لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عبرانيين 13: 16).

(ب) فضلاً عن ذلك ليست هناك آية واحدة في الكتاب المقدس تنص على أن الأعمال الصالحة التي قام بها المسيح, كانت ذبائح قدمها لله كفارة عنا, إذ أن الذبيحة الوحيدة التي قدمها المسيح لهذا الغرض، هي ذبيحة نفسه على الصليب, لأن بها احتمل آلام الخطية التي كان يجب أن نحتملها نحن. وهذه الذبيحة وإن كانت قد اختفت من الأرض بعد الصليب, لكنها موجودة في السماء في شخص المسيح بكامل فاعليتها وتأثيرها, وستبقى كذلك في شخصه إلى أبد الآباد (عبرانيين 9: 11), الأمر الذي لا يدع مجالاً لتقديم غيرها, أو تقديمها هي بعينها على الأرض تحت أي شكل من الأشكال, إن جاز حدوث ذلك.

(ج) وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن إجراءات الكفارة كلها كانت بين الله وبين المسيح، وبين المسيح وبين الله، ولم تكن بيننا وبين الله, أو بين الله وبيننا (رومية 8: 32). فالله هو الذي دبر طريق الخلاص، والمسيح هو الذي أكمله لأجل مجد الله وخيرنا (يوحنا 10: 11، عبرانيين 7: 27). ولذلك ليس هناك مجال للظن بوجوب تقديم ذبيحة المسيح بواسطتنا على الأرض تحت أي شكل من الأشكال (إن جاز حدوث ذلك) للتكفير عن خطايانا، كما كانت تقدم الذبائح الحيوانية بواسطة اليهود في العهد القديم, وبالتالي ليس هناك مجال للظن بوجوب تحول العشاء الرباني إلى ذات جسد المسيح ودمه بأي حال من الأحوال.

(د) أما من جهة مكانة المسيح في نظرنا, فإنه حقاً أثمن من كل ثمين وأعز من كل عزيز لدينا, لكن نحن لا نمتلكه كما نمتلك ما لدينا من متاع, حتى يجوز أن نقدمه لله ذبيحة عنا (على فرض جواز حدوث ذلك) إذ أنه له المجد ليس مملوكاً لأحد، بل إنه ملك لذاته, وهو وحده الذي له هذا الإمتياز الثمين. ولذلك فإنه بتقديم نفسه كفارة عنا، هو وحده الذي بذل أعز وأثمن ما لديه، لأنه بذل نفسه الثمينة الغالية (يوحنا 10: 15). وإذا نظرنا إلى الله في وحدانية جوهره وثالوث أقانيمه, يكون الله أيضاً هو الذي بذل أعز وأثمن ما لديه (رومية 8: 32), لأنه بذل ابنه الحبيب الوحيد. ولذلك فكل ما علينا أن نعمله, هو أن نقبل المسيح وفداءه بإخلاص في نفوسنا, فنفوز ليس بالرحمة فحسب, بل وأيضاً بكل بركة روحية في السماويات (أفسس 1: 1- 12).

(ه) فضلاً عن ذلك، فإن الوحي أعلن لنا بصراحة تامة أن المسيح "لا يقدم نفسه مراراً كثيرة، كما كان يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنة بدم آخر (وإلا) كان يجب أن يتألم (المسيح) مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم. ولكنه الآن قد أظهر مرة (واحدة) عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عبرانيين 9: 25- 26). وفي ضوء هذه الآيات نقول: إذا كان المسيح لا يقدم نفسه لله مراراً كثيرة لأجل التكفير عن الخطايا، لأن المرة الواحدة التي قدم فيها نفسه قد كفرت عن الخطية بل وأبطلتها بالنسبة للمؤمنين من أمام الله إلى الأبد, فكيف يجيز القائلون بالاستحالة لأنفسهم إذاً أن يقدموا المسيح مراراً كثيرة تحت شكلي الخبز والخمر, للتكفير عن خطاياهم وخطايا غيرهم من الناس كما يقولون؟ ! وكيف يجيزون لأنفسهم أن يقدموا المسيح لله ذبيحة عن خطاياهم وخطايا غيرهم وهم يعلمون أن مقدم الذبيحة يكون إما أعظم منها (كما كانت الحال مع كهنة العهد القديم), أو يكون مثل الذبيحة في القيمة والقدر (كما كانت الحال مع المسيح), وهم – بالطبع – ليسوا أعظم من ذبيحة المسيح, أو حتى مثلها في القيمة والقدر؟!

(و) أخيراً نقول: إن صاحب هذه الحجة يهتم بالمظهر الديني دون جوهره, وهذا بكل أسف هو اتجاه الكثيرين في كل العصور, فإنهم يميلون إلى المظاهر الدينية دون العبادة الروحية – ليت صاحب هذه الحجة مع الذين يشاركونه رأيه, يتأملون قول المسيح الخالد "قد أكمل" (يوحنا 19: 30), وقول الرسول عن المسيح "بقربان واحد (قدمه مرة على الصليب) قد أكمل, إلى الأبد المقدسين" (عبرانيين 10: 14), وقوله "فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عبرانيين 10: 10), وقوله "لا يكون بعد قربان (للتكفير) عن الخطية" (عبرانيين 10: 18), فإن هذه الآيات تدل بوضوح ليس بعده وضوح على أن المسيح بذبيحته التي قدمها مرة واحدة على الصليب, قد أكمل الخلاص لكل المؤمنين الحقيقيين في كل العصور، بل وأكملهم هم أيضاً وجعلهم مقدسين إلى الأبد, وأنه تبعاً لذلك لم تعد هناك حاجة إلى ذبيحة للتكفير عن خطاياهم بأي شكل من الشكال.

7- قال المسيح قبل موته إنه سيمكث في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال, وإذا حسبنا المدة التي مكثها فعلاً في القبر، نجد أنها أقل من يومين كاملين. لكن إذا حسبناها من وقت نـزول العشاء الرباني إلى جوف التلاميذ, نجد أنها ثلاثة أيام وثلاثة ليال تماماً – وهذا دليل على أن العشاء الرباني هو ذات جسد المسيح ودمه (الإفخارستيا ص 234).

الرد: (أ) إن المسيح لم يقصد بالثلاثة أيام والثلاث ليال المعنى الحرفي أو الزمني (أي 27 ساعة), بل قصد المعنى العرفي أو الشرعي, الذي يحسب بواسطته الجزء من اليوم كاملاً. والدليل على ذلك أنه قال لتلاميذه قبل موته إنه "في اليوم الثالث (أو بالحري في بحر اليوم الثالث) يقوم" (متى 16: 21، 17: 23، 20: 19). بينما لو قصد بالثلاثة أيام والثلاث ليال المعنى الزمني، لقال إنه سيقوم بعد انتهاء اليوم الثالث أو قبل ابتداء اليوم الرابع – وهذا هو عين ما ذهب إليه القمص فيلثاؤس عوض في مواعظه (ص 124).

(ب) كما أننا لو سلمنا مع صاحب هذه الحجة بتفسيره، يكون المسيح قد غاب بالجسد عن الأرض أقل من ثلاثة أيام وثلاث ليال بالمعنى الحرفي، لأنه أعطى العشاء الرباني لتلاميذه مساء الخميس (أي حوالي الساعة السادسة مساءً بالتوقيت المعروف لدينا), وقام من القبر مساء الأحد الذي تكمل عنده المدة ثلاثة أيام وثلاث ليال بالمعنى الحرفي, بل قام في فجر الأحد أي حوالي الساعة الرابعة صباحاً بالتوقيت المعروف لدينا، وبذلك يكون قد غاب بالجسد 58 ساعة وليس 72 ساعة.

(ج) فضلاً عن ذلك, فإن المسيح بعدما أعطى العشاء الرباني لتلاميذه، أخذ يتحدث معهم طويلاً، وبعد ذلك ذهب إلى جثسيماني، ومن هناك أخذه الجند إلى أورشليم حيث حوكم وصلب. الأمر الذي يدل على أنه لم ينـزل فعلاً إلى جوف التلاميذ عندما تناولوا هذا العشاء. كما أننا لو سلمنا بأن المسيح نـزل فعلاً إلى جوفهم حينئذٍ, لانتهى بنا الأمر إلى إحدى الضلالات التي ذكرناها في الفصل الأول، إذ يكون المسيح الذي صلب ومات وقام من بين الموات, هو مسيح آخر غير الذي نـزل إلى جوف التلاميذ، والحال أن المسيح واحد لا سواه, ولذلك فالحجة التي نفحصها ليس لها نصيب من الصواب.

8- أما آخر حججهم وأهمها في نظرهم فهي (أن المسيح جاء كفارة عن الخطيتين الجدية التي عملها آدم, والفعلية التي نعملها نحن. ولكنه احتمل قصاص الخطية الأولى دون الثانية, لأن القصاص لا يوقع إلا بعد عمل الخطية، وخطايانا الفعلية لم تكن قد عملت بعد عندما قدم المسيح نفسه على الصليب. فلكي ينقذنا المسيح من قصاص هذه الخطايا, قال لتلاميذه "كلوا هذا هو جسدي، واشربوا هذا هو دمي" فإنه لاستيفاء حقوق عدلي ورحمتي، أحول الخبز إلى جسدي والخمر إلى دمي، اللذين سيوقع عليهما قصاص الخطية, ويأخذ العدل الإلهي منهما حقه كاملاً. خذوا كلوا واشربوا حتى تتحد بهما أجسادكم ونفوسكم, وبذلك يكون كل شخص منكم قد وقع عليه القصاص الذي وقع عليَّ بالذات، فتغفر لكم خطاياكم التي تعملونها) (الإفخارستيا ص 48 – 58).

الرد: هذه الحجة يسميها صاحبها "الضرورة القانونية", ويقول إن الله ألهمه إياها. ومع أنه أسند فيها إلى المسيح أقوالاً لم ينطق بها إطلاقاً، الأمر الذي يجعل حجته مرفوضة شكلاً وموضوعاً، لكن لكي لا ندع مجالاً أمام أحد للشك في الحق الإلهي الذي نتحدث عنه, نرد على كل نقطة من الحجة المذكورة بشيء من التفصيل, ليكون ردنا بمثابة فصل الخطاب في هذا الموضوع, ولذلك نقول:

(أ) إن الكتاب المقدس يعلن أن المسيح احتمل على الصليب الخطية الأصلية (أو بالحري الجدية التي عملها آدم) كما احتمل خطايانا نحن. فمن جهة خطية آدم قال الوحي عن المسيح: "لكي يبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عبرانيين 9: 26). ومن جهة خطايانا نحن قال عنه: "قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة" (عبرانيين 10: 13)، كما قال: "أسلم من أجل خطايانا" (رومية 4: 5), وإنه "مات من أجل خطايانا" (1 كورنثوس 15: 7), وإنه "بذل نفسه لأجل خطايانا" (غلاطية 1: 4), وإنه "حمل هو نفسه خطايانا" (1 بطرس 2: 24), وإنه "مجروح لأجل معاصينا, مسحوق لأجل آثامنا" (أشعيا 53: 4 – 5).

ومما يثبت أن المسيح احتمل خطايانا بأسرها, أنه لم يمت عن خطايانا بغض النظر عن نفوسنا, بل مات عن نفوسنا الخاطئة بذاتها. فقد قال بولس الرسول عن المسيح إنه "ذاق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد" أي لأجل نفس كل واحد منا (عبرانيين 2: 9). وقال بطرس الرسول "مات البار عوضاً عن الأثمة", أي عوضاً عن نفوس الأثمة (1 بطرس 3: 8). وقال داود النبي بصراحة تامة "الرب فادي نفوس عبيده", أي نفوسهم بذاتهها (مزمور 34: 2). وبولس الرسول الذي عرف هذه الحقيقة كل المعرفة قال مرة عن المسيح: "الذي أحبني وأسلم نفسه من أجلي" (غلاطية 2: 20), أي من أجل نفسه بذاتها. وما قاله هذا الرسول عن نفسه, يمكن أن يقوله أيضاً كل مؤمن حقيقي عن نفسه. ولما كانت النفس لا تتجزأ, لا يكون المسيح قد مات عن أجزاء من نفوسنا تحوي خطية واحدة أو عدداً خاصاً من الخطايا, بل يكون قد مات عن نفوسنا بكاملها, وبالتبعية يكون قد مات عن كل ما على هذه النفوس أو فيها من خطايا – أي الخطايا, الفعلية والخطية الأصلية.

والحق أن تكفير المسيح عن نفوسنا ذاتها وليس فقط عن خطاياها, هو الأساس الوحيد للقبول أمام الله والتمتع بالسلام الكامل معه في كل حين, لأننا لا نستطيع أن نحصي الخطايا التي تصدر منا بالفكر أو القول أو الفعل دون أن نشعر بها, مع أن عدم شعورنا هذا لا يقلل من كونها خطايا لها قصاصها, ولا يخلينا من مسئولية إتيانها. فقد قال الوحي: "ولا تقل قدام الملاك إنه سهو" (جامعة 5: 6), إقرأ أيضاً (لاويين 4: 20). ولذلك لولا أن المسيح كفَّر بموته على الصليب عن نفوسنا، وليس فقط عن الخطايا التي نعرفها ونتوب عنها، لما خلص أحد من البشر على الإطلاق "لأنه ليس هناك من بينهم من يحس بالسهوات حتى لو كان نبياً من الأنبياء" (مزمور 19: 12).

(ب) إن الحق الإلهي يقضي بأن الكفارة لا تقوم لها قائمة إلا بحلول قصاص الخطية (أو بالحري الموت) على الذبيحة المقدمة عنها (عدد 6: 11). وبما أن المسيح جاء كفارة لنا عن الخطيتين الجدية والفعلية (بشهادة صاحب الحجة التي نحن بصددها), يكون المسيح قد احتمل قصاصهما معاً. وما دام الأمر كذلك, لا يكون غفران خطية آدم بواسطة ذبيحة الصليب, ويكون غفران خطايانا نحن بواسطة التناول من العشاء الرباني, بل يكون غفران هذين النوعين من الخطايا بواسطة ذبيحة الصليب وحدها, لاسيما وأن الوحي لم يذكر مطلقاً أن الغرض من ممارسة العشاء الرباني هو الحصول على غفران ما.

كما أننا لو سلمنا مع صاحب هذه الحجة بأن ذبيحة الصليب هي لغفران الخطية الجدية وحدها, وأن التناول من العشاء الرباني هو لغفران الخطايا الفعلية, لترتب على ذلك ان يكون التلاميذ قد غفرت لهم الخطايا الفعلية قبل أن تغفر لهم الخطية الجدية (لأنهم تناولوا من العشاء الرباني قبل موت المسيح على الصليب). وبما أن غفراناً مثل هذا لا يتفق مع الوحي أو العقل إطلاقاً, إذاً لا بد من التسليم بأن غفران الخطايا (أي الجدية والفعلية معاً) هو بواسطة الذبيحة التي قدمها المسيح مرة على الصليب كما أعلن الوحي.

نعم إن خطايانا الفعلية لم تكن عملت قبل الصليب, لكن لا ننسى أن المسيح كان يعلمها أزلاً, كما يعلم أيضاً أننا لا نستطيع أن نكفّر عن خطية واحدة من خطايانا بأي وسيلة من الوسائل. وبما أنه لم يأت ليعلن الخلاص لآدم وحده، بل للعالم بأسره كما قال الوحي (يوحنا 3: 16) لذلك يكون قد احتمل عنا ليس الخطية الأصلية فقط، بل وخطايانا الفعلية أيضاً – لا سيما وأن نفسه التي قدمها على الصليب للفداء, تكفي لخلاص كل البشر من خطاياهم, ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك, لأنه لو كان المسيح قد مات لأجل آدم فقط, لما كان قد فدى نفس أي إنسان منا أو خلصها, بل ولكان قد أغلق باب الخلاص أمامنا وأمام أفضل القديسين إلى الأبد, لأننا بسبب عدم توافر العصمة فينا تصدر منا خطايا متعددة, أقلها يستحق الموت الأبدي (متى 5: 21). وبما أنه لا يتفق مع الوحي أو العقل إطلاقاً أن يحرم جميع الناس بما فيهم أفضل القديسين في كل الأجيال من التمتع بالله, يكون المسيح بتقديم نفسه على الصليب احتمل ليس خطية آدم فحسب، بل وخطايا البشر جميعاً ويكون كل من يؤمن منهم إيماناً حقيقياً يتمتع بغفران خطاياه كما أعلن الوحي في الآيات السابق ذكرها. لأن هذا هو الفداء, وبدون فداء مثل هذا, لا يكون الفداء فداءً, إذ أن شخصاً يخلص آخرين من خطر الموت في منطقة, ثم يتركهم وشأنهم لمثل هذا الخطر في مناطق أخرى متعددة, لا يكون قد أنقذهم أو أبقى على حياتهم.

(ج) ثم إنه لأمر بعيد عن حق الله كل البعد, ألا يتم غفران خطية آدم إلا بواسطة موت المسيح على الصليب وتحمله هناك الآلام النفسية والجسدية الشنيعة التي استلزمها عمل الفداء, بينما يتم غفران خطايانا نحن التي لا حصر لها, (والتي لا تعتبر خطية آدم بجوارها شيئاً مذكوراً) بطريقة شكلية أو صورية ينقل بها المسيح هذا القصاص عن نفسه ويضعه على الخبز والخمر, ثم بتناولنا من هذا الخبز والخمر, يكون قد حل بنا القصاص الذي نستحقه بسبب خطايانا. لأن القصاص في هذه الحالة يكون قصاصاً وهمياً, وتبعاً لذلك يكون الغفران المترتب عليه وهمياً أيضاً. وإذا كان الأمر كذلك, تكون الحقيقة هي أن المسيح قد حمل فعلاً, وليس وهماً أو بعض وهم, قصاص كل الخطايا (أي الخطية الجدية والخطايا الفعلية معاً), وذلك عندما قدم نفسه فدية على الصليب كفارة عنا, وأن كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً يستطيع أن يتمتع بالغفران الكامل كما أعلن الوحي.

(د) كما أنه لو كانت الحجة التي نفحصها على شيء من الصواب, لكان كل من لم يتناول من العشاء الرباني تصبح خطاياه غير مغفورة, وتبعاً لذلك يهلك إلى الأبد. ولكن إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نجد (مثلاً) أن إبراهيم وموسى وإيليا، وكذلك اللص الذي آمن بالمسيح عندما كان معلقاً على الصليب (متى 17: 3, لوقا 16: 23, 13: 43), قد دخلوا جميعاً إلى الفردوس مع أنهم لم يتناولوا من العشاء الرباني أو سمعوا عنه مجرد سمع – فهل أمثال هؤلاء لم تغفر لهم خطاياهم الفعلية؟ !

أما الإعتراض (بأن الله له الحرية أن يأتي إلى الفردوس بأشخاص لم يتناولوا من العشاء الرباني, ويطرح في جهنم أشخاصاً آخرين تناولوا منه مراراً) فلا مجال له على الإطلاق. لأن الله وإن كان حراً يفعل ما يشاء, لكنه لا يفعل شيئاً يتعارض مع كماله. ولذلك لولا أنه رأى في إيمان هذا اللص وإيمان إبراهيم وغيره من قديسي العهد القديم ما يكفي لتبريرهم. لما بررهم أو خلصهم على الإطلاق. فالله ليس لديه محاباة, إنما نحن الذين نسند إليه المحاباة بواسطة الاتيان بحجج ليس لها أساس في كتابه.

أما الفرق الوحيد بيننا وبين قديسي العهد القديم من جهة الخلاص فهو أننا نخلص بالإيمان أن المسيح أتى وكفّر عن خطايانا, بينما خلص أولئك القديسون بالإيمان أن المسيح (بالنسبة إلى الزمن الذي عاشوا فيه) عتيد أن يأتي ويكفّر عن خطاياهم, لأنهم كانوا يعرفون هذه الحقيقة في الذبائح الكفّارية الرمزية التي كانوا يقدمونها لله حسب الناموس الذي أعطاه لهم.

(ه) كما أنه لو فرضنا جدلاً أن العشاء الرباني يغفر الخطايا, لاعترضتنا ثلاثة إشكالات, (الأولى) لو كان هذا العشاء يغفر كل الخطايا, لكان من الواجب ألا يتناول منه أحد أكثر من مرة واحدة طوال حياته على الأرض, وهذا ما يتعارض مع الكتاب المقدس, لأنه يعلن لنا أن التناول يكون أسبوعياً أو في فترات متقاربة (الثاني) ولو كان يغفر بعض الخطايا, فما عددها يا ترى, حتى يستطيع كل مؤمن أن يعرف اليوم الذي يجب أن يتناول فيه؟ ! (الثالث) ولو كان يغفر خطية واحدة, وكان المؤمن معرضاً للخطية مرات متعددة في اليوم الواحد, فهل يذهب عقب كل خطية يعملها بالفكر أو القول أو الفعل إلى الكاهن لكي يناوله من العشاء الرباني, أم يحتفظ في جيبه بعلبة بها كمية من هذا العشاء لكي يتناول منه كلما أحس أنه أخطأ؟ - هل يستطيع صاحب هذه الحجة أو غيره من المؤمنين بالاستحالة أن يحل لنا هذه الإشكالات؟ وإن كان ليس لها حل عنده أو عند غيره, ألا تكون الحجة التي نفحصها لا أساس لها من الصواب أو شبه الصواب, وأن العشاء الرباني لم يصنعه المسيح لنا للغفران بل لذكر موته, وأن الغفران الكامل الشامل هو بواسطة الإيمان الحقيقي في كفاية كفارته التي قدمها على الصليب, كما أعلن الوحي مراراً وتكراراً؟

(و) أخيراً نقول إن الله العارف بطبيعتنا البشرية عرف قبل أن نعرف أننا معرضون للسقوط في الخطية حتى بعد توبتنا وإيماننا القلبي به, ولذلك لم يتركنا لآرائنا الشخصية من جهة السبيل إلى غفرانها, بل أعلن لنا هذا السبيل بكل وضوح وجلاء. فقد قال الرسول: "إن أخطأ أحد فإن شفيع عند الآب يسوع المسيح البار, وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل ولخطايا كل العالم أيضاً" (1 يوحنا 2: 2). وقال كذلك: "إن اعترفنا بخطايانا, فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (1 يوحنا 1: 9), وقد عرف داود النبي هذه الحقيقة من قبل فقال "قلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت عني آثام خطيتي" (مزمور 32: 5).

ومما نجدر ملاحظته في الآية الأولى أن قول الرسول "إن أخطأ أحد فلنا شفيع", لا يدل على أنه إذا أخطأنا يقوم المسيح بالشفاعة لأجلنا, بل يدل على أنه قائم باستمرار أمام الآب شفيعاً لأجلنا لكي يحفظنا في حالة القبول الكامل أمامه في كل حين.

ومما تجدر ملاحظته في الآية الثانية أن الرسول لا يقول عن الله إنه رحوم وشفوق حتى يغفر لنا خطايانا, ...", بل يقول عنه إنه "أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ..." ولما كان الغفران هو من باب الرحمة والشفقة وليس من باب الأمانة والعدالة, لذلك لاشك أن المسيح بموته على الصليب كفّر عن خطايانا جميعاً, حتى أصبح من باب الأمانة والعدالة (وليس فقط من باب الرحمة والشفقة) أن تغفر لنا خطايانا التي نقع فيها بعد الإيمان بمجرد الإعتراف[40] بها أمام الله, الأمر الذي يملأ القلب ثقة واطمئناناً ليس بعدهما ثقة واطمئنان.

فهل بعد هذه الآيات الواضحة يجوز لنا أن نشرع لأنفسنا تشريعاً جديداً, نقول فيه إن أخطأ أحد عليه أن يتناول من العشاء الرباني لكي تغفر له خطيته؟!

[39]- يوصف الناموس اليهودي بأنه "خدمة الموت" و"خدمة الدينونة"، لأنه أدان كل الناس أو بالحري حكم عليهم بالموت الأبدي لعدم استطاعتهم العمل بأحكامه (رومية 3: 23، 6: 16- 17). وتوصف المسيحية بأنها "خدمة الروح" و"خدمة البر" لأنها تعلن أن الله يبرر جميع المؤمنين الحقيقيين، ويهبهم حياة روحية أبدية يستطيعون بها التوافق الكلي مع الله.

[40]الإعتراف بالخطية ليس هو مجرد طلب الغفران عنها, بل هو ذكرها بوعي في ضوء قداسة الله, والله يتطلب منا ذلك لكي يشعرنا بشناعة الخطية حتى نكرهها ونحفظ أنفسنا بعيداً عنها. أما الإعتراض (بأن حصول المؤمنين على الغفران بمجرد اعترافهم بخطاياهم أمام الله, يشجعهم على العودة إليها) فلا نصيب له من الصواب, لأن المؤمنين الحقيقيين بولادة نفوسهم من الله, يحصلون منه على طبيعة روحية تنفر من الخطية نفوراً تاماً (2 بطرس 1: 2 – 4). ولذلك فإنهم إن سقطوا فيها, يكون هذا السقوط رغماً عنهم, ولذلك ينهضون منها بكل سرعة ويواصلون سلوكهم مع الله بالروح. وإذا لم يفعلوا ذلك لسبب ما، فإن الله يوقع عليهم ما يراه مناسباً من التأديب حتى يستفيقوا من غفلتهم ويعودوا إليه. فقد قال الرسول "لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا, ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا ندان مع العالم" (1 كورنثوس 1: 32) – أما الذين يعيشون في الخطية من الذين دُعي عليهم اسم المسيح فليسوا بمؤمنين حقيقيين، ولا نصيب لهم معه على الإطلاق, حتى إن كانوا يشغلون أسمى المراكز الدينية (رومية 6: 2).

  • عدد الزيارات: 3436