Skip to main content

2- مقارنة بين الأقوال التي يرويها كل من الفريقين ومناقشتها

في هذا الفصل سنقارن بين الأقوال التي يذكرها القائلون بحدوث الاستحالة أو الحلول, والتي يذكرها القائلون بعدم حدوث أيهما, ثم نناقش بعض أقوال القدماء لنعرف الغرض الحقيقي منها.

أولاً: المقارنة يتضح لنا من الفصل السابق, أن معظم أقوال القدماء, التي اقتبسها القائلون بالاستحالة والحلول, والتي اقتبسها الذين لا يؤمنون بهاتين العقيدتين تكاد تكون واحدة في معناها, واذلك ليس هناك داع للبحث عن أي الفريقين قد راعى الدقة في الأقوال التي ذكرها, إذ من المحتمل أن يكون فريق منهما اقتبس أقواله من مصادر أو ترجمات غير التي اقتبس منها الفريق الآخر, ولذلك نكتفي بالقول:

1- إن الذين يؤمنون بالاستحالة (أولاً) لم يتذكروا أقوال اكليمنضس الاسكندري (105- 204م), أو ترتليان (155- 322م), أو أوريجانوس (185- 254م), أو أثناسيوس الرسولي (293- 333م), أو مكاريوس المصري، مع أنهم يفخرون بهؤلاء القديسين كثيراً. كما يعرفون أنهم عاشوا فيما بين القرنين الثاني والرابع, أي أن بعضهم عاصر إيريناوس ويوستينوس, والبعض الآخر عاصر كيرلس الأورشليمي وغريغوريوس النـزيزي وفم الذهب, الذين يعتمد المؤمنون بالاستحالة على آرائهم في العشاء الرباني. (ثانياً) إنهم أيضاً لم يقتبسوا من أقوال القدماء سوى ما يدل في ظاهره على أن العشاء الرباني هو ذبيحة, وأنه يتحول إلى جسد المسيح ودمه, وتركوا من أقوالهم ما يدل على أن هذا العشاء هو رمز وإشارة.

2- إ ن الذين لا يؤمنون بالاستحالة أو الحلول اقتبسوا من أقوال القدماء ما يدل منها على أن العشاء الرباني هو رمز وإشارة, كما اقتبسوا منها ما يدل على أنه ذبيحة وأنه يتحول إلى جسد المسيح ودمه, غير أنهم بعكس الذين يؤمنون بالاستحالة, وجدوا أن الأقوال الأخيرة لا يراد بها التحول الحرفي أو الحلول الحرفي.

3- إن المؤمنين بالاستحالة تفردوا بالقول إن يوحنا الدمشقي ذكر أن العشاء الرباني يتحول إلى جسد المسيح نفسه متألهاً, وأن يوستينوس ذكر أن بالاستحالة يصير الخبز والخمر لحم ودم ذلك الإله المتجسد. وإذا فحصنا قول يوحنا الدمشقي نجد أنه ليس بصواب من أي ناحية من النواحي, لأنه يدل على اعتقاده بأن المسيح كان متألهاً, والحال أن المسيح لم يكن متألهاً بل متأنساً, إذ أن الناسوت وليس اللاهوت هو الذي كان حادثاً بالنسبة له. كما يدل قوله المذكور على اعتقاده بأن العشاء الرباني لا يتحول إلى ناسوت المسيح فحسب بل وإلى لاهوته أيضاً, والحال أن هذا العشاء يظل كما هو خبزاً وخمراً, إذ أن المادة لا يمكن أن تصبح بوسيلة ما هي ذات الله الخالق لها ولغيرها. ولا غرابة إذا كان يوحنا المذكور قد أخطأ هذا الخطأ الفاحش، فهو الذي نادى من قبل بعبادة الأيقونات – أو بالحري بتأليهها- _موسهيم ص 289).

كما أن كلمة "الاستحالة" المسندة إلى القديس يوستينوس, والتي يقابلها في الإنجليزية "transubstantiation", لم تستعمل عن العشاء الرباني إلا في القرن الثاني عشر, كما سنوضح فيما يلي, لأن القدماء كانوا يستعملون عن التحول الذي يحدث في هذا العشاء كلمتي "التحول" و"الصيرورة" اللتين يقابلهما في الإنكليزية: "transformation" و"Becomingness". وكلمة الاستحالة يراد بها "التغيير الجوهري الذي يتناول جوهر الشيء وخصائصه", بينما الكلمتان الأخريان يمكن أن يراد بهما "التغيير الخارجي الذي يتناول مكانة الشيء دون جوهره". وفي اللغة العربية أيضاً يراد "بالاستحالة" الانقلاب من الحالة الأصلية, بينما يراد "بالتحول والصيرورة" الانتقال من حالة إلى أخرى دون حدوث تغيير جوهري. فنحن نقول مثلاً "استحال الناس ذهباً" ولكننا نقول: "تحول فلان عن اتجاهه" و"صار غنياً بعد أن كان فقيراً".

ثانياً: مناقشة بعض أقوال القدماء:

1- إن باسليوس المتوشح بالله ويوسابيوس القيصري وغيرهما من القدماء الذين عاشوا في القرنين الثالث والرابع، كانوا يعتقدون أن العشاء الرباني هو رمز أو رسم لآلام المسيح. ولكن المؤمنين بالاستحالة استهجنوا أقوالهم أو عللوها ببعض العلل لكي تكون متوافقة مع العقيدة التي يؤمنون بها.

2- ن كبريانوس وفم الذهب وإيريناوس قالوا إن العشاء الرباني ذبيحة, ولكن نستنتج من قول يوستينوس "في شكر الخبز والكأس ذبيحة مقدمة من المسيحيين", أنه كان يؤمن أن الذبيحة ليست هي العشاء الرباني, بل هي الشكر الذي يرفع أثناء ممارسة هذا العشاء. كما أن قوله "إن هناك علاقة بين الخبز والكأس, وبين جسد المسيح ودمه", يستنتج منه أنه لم يكن يؤمن بأن العشاء الرباني هو ذات جسد المسيح ودمه, لأن وجود علاقة بين شيئين يدل على أن الشيء الأول ليس هو عين الثاني.

3- إن قول كيرلس الأورشليمي عن العشاء الرباني إنه "ذبيحة روحية", يستنتج منه إما أنه كان يعتقد أن الذبيحة ليست هي ذات العشاء الرباني بل إنها الافخارستيا, أو بالحري صلاة الشكر التي ترفع الله أثناء ممارسة هذا العشاء (لأن هذه الصلاة هي التي كانت ولا تزال تسمى ذبيحة روحية), وإما أنه كان يعتقد أن العشاء الرباني ليس ذبيحة كفارية, لأن الذبيحة الكفارية لا تكون روحية بل مادية, وكلا الاستنتاجين يتفق مع العقل والوحي.

4- إن يوستينوس وغيره من القدماء قالوا إن العشاء الرباني يتحول إلى جسد المسيح ودمه, أي أنه لا يكون بعد الصلاة (حسب اعتقاد القائلين بالاستحالة) خبزاً وخمراً. ولكن إيريناوس قال "إن هذا العشاء مؤلف من خبز أرضي وآخر سماوي", وهذا دليل على أنه لم يكن يؤمن أن الخبز يتحول فعلاً إلى جسد المسيح, بل يظل كما هو خبزاً, وأن ما يطرأ عليه من تغيير, هو أن خبزاً سماوياً يحل فيه – وليس من الضروري أن يكون الخبز السماوي هو ذات جسد المسيح ودمه, فقد يكون هبة من هباته الروحية, فإن "كلمة الله" مثلاً تسمى "خبز الحياة", مع أنها ليست مادية.

5- إن إيريناوس قال "شركة الخبز والخمر تصير سر الشكر جسد المسيح ودمه", لكن الشركة في الخبز والخمر (أو بالحري التناول منهما) لا تصير بذاتها هي سر الشركة (الذي هو العشاء الرباني, كما كان يسمى في القرون الأولى). وإذا كان الأمر كذلك, فمن المحتمل أن تكون كلمة "سر" مستعملة هنا بمعنى "علامة" كما ذكرنا في الحديث عن الأسرار, ويكون قول إيريناوس معناه أن الاشتراك في الخبز والخمر يصير علامة للشكر من أجل جسد المسيح ودمه, أو بالحري من أجل موته على الصليب لأجلنا.

6- إن أوغسطينوس وكيرلس الأورشليمي وغيرهما قالوا "العشاء الرباني يعمل لخلاص النفوس واشتراكها في الطبيعة الإلهية", ولكن الكتاب المقدس يعلن لنا بوضوح ليس بعده وضوح أن الخلاص هو بالإيمان الحقيقي بالمسيح (رومية 10: 10), وأن الاشتراك في الطبيعة الإلهية (أو بالحري الطبيعة الأدبية لله, التي هي القداسة والمحبة وغيرها من الصفات) هو بواسطة معرفة المسيح والتكريس الكلي له (2 بطرس 1: 2). كما أن قول أمبروز "إننا كلما تناولنا القرابين التي تتحول سرياً إلى جسد المسيح ودمه نخبر بموته", لا يستلزم أن يكون هذا التحول فعلياً, لأن الإخبار بموت المسيح لا يستلزم أن يكون التحول الذي يحدث في العشاء الرباني تحولا من هذا النوع.

7- إن قول أفرام السرياني "جسد المسيح يتحد بجسدنا, ودمه الطاهر يصب في شراييننا", يستنتج منه إما أنه كان يعتقد بوجود الخطية في أجسادنا ودمائنا المادية (لأنه ارتأى أن ذات جسد المسيح ودمه يتحدان بكل منها), وهذا ليس بصواب, لأن الخطية ليست في أجسادنا ودمائنا بل في نفوسنا كما ذكرنا فيما سلف. وإما أنه كان يقصد بقوله هذا المعنى المجازي لا الحرفي, وهذا ما يتفق مع العقل والوحي. لأن اللحم الذي نأكله لا يتحول في أجسادنا إلى لحم فقط بل وإلى عظم ودم أيضاً, كما أن الدم (إذا شربناه) لا يتحول في أجسادنا إلى دم فقط, بل وإلى لحم وعظم أيضاً. وإذا كان الأمر كذلك, فمن المحتمل أن يكون غرض أفرام من عبارته هذه, أننا بالتناول من العشاء الرباني نتحد بالمسيح اتحاداً تاماً, أو بالحري نعلن أننا متحدون به بمثل هذا الاتحاد.

8- إن قول فم الذهب "المسيح يغذينا بأعضائه", لا يمكن أن يفهم بالمعنى المجازي, إذ فضلاً عن أن المسيح ليس طعاماً مادياً, فإن حاجتنا ليست إلى أن نأكل المسيح بأفواهنا تحت أي شكل من الأشكال (إن جاز حدوث ذلك), بل أن يحل هو بالروح في نفوسنا, لأن بهذه الوسيلة وبها وحدها يمكن أن تتغذى أرواحنا وتنمو (أفسس 3: 17- 19).

ومما يثبت أن أقوال يوحنا فم الذهب من جهة جسد المسيح ودمه, هي أقوال مجازية (أولاً) أنه قال في عظة له "فيا للعجب من كون المائدة مهيأة, والدم الكريم مسفوك في الكأس من الجنب الطاهر لتطهيرك". (مواعظه ص 248)- فقوله "النار الإلهية منحدرة من فوق لأجلك", قول مجازي, لأنه ليست هناك نار حقيقية تنحدر من السماء أثناء ممارسة العشاء الرباني, ولذلك فالراجح أن يكون قوله عن الخمر إنها "دم المسيح المسفوك من جنبه الطاهر" هو قول مجازي أيضاً. (ثانياً) إنه قال في عظة أخرى: "مثلما إذا مزق أحد ثوب الملك أو وسّخه, يكون قد أهان الملك نفسه, هكذا يجري في الأسرار المقدسة, فإن من يتناولها بنفس مدنسة, يكون كأنه قتل المسيح نفسه" (مواعظه ص 48)- ومن هذا يتضح لنا أنه كان يعتبر العشاء الرباني بمنـزلة ذاته أو شخصه.

9- إن قول اغناطيوس "... والمشروب الذي أبتغيه هو دم ذلك الإله المتأنس", لا يريد به الرغبة في التناول من كأس العشاء الرباني, بل التمتع بمحبة المسيح الحارة. وكل ما في الأمر أنه صاغ قوله هذا في أسلوب مجازي. والدليل على ذلك (أولاً) إنه لم ينطق بهذا القول قبل ذهابه إلى (كنيسة) للتناول من هذا العشاء, بل قبل انطلاقه إلى السماء مباشرة لكي يكون مع المسيح. وفي السماء لا يوجد مجال للشرب بالمعنى الحرفي. (ثانياً) إنه كان يصف دم المسيح بأنه "محبة غير قابلة للتغيير, وهو الخمر السماوي الذي يضرم في القلوب ناراً حية خالدة" (إقرأ كتاب الخريدة النفيسة ج1 ص 96), ودم المسيح ليس هو ذات المحبة كما أنه ليس في ذاته خمراً نازلة من السماء.

10- إن قول أعضاء مجمع نيقية "المسيح يذبح من خدام الله ذبيحة غير دموية", يستنتج منه إما أنهم كانوا يعتقدون أنهم في كل مرة يعملون العشاء الرباني يقدمون إلى الله ذبيحة الصليب عينها (الأمر الذي ينفي الكتاب المقدس جواز حدوثه, تحت أي شكل من الأشكال, كما ذكرنا فيما سلف), وإما أنهم كانوا يجعلون من العشاء الرباني تذكاراً مؤثراً لآلام المسيح التي قاساها على الصليب, وهذا هو ما يتفق مع الوحي والعقل. وبذلك تكون عبارة "يذبح من خدام الله" في هذه الحالة, مستعملة بالمعنى المجازي لتصوير موت المسيح عن طريق كسر الخبز, لأن كسر الخبز (كما ذكرنا فيما سلف) رمز لموت المسيح.

وإذا كان الأمر كذلك يمكن أن يكون غريغوريوس النـزيزي أراد أيضاً بقوله "إن المسيح بتقديم هذا العشاء الرباني لتلاميذه, ضحى بجسده بوجه لا ينطق به", إن المسيح بتقديم هذا العشاء لهم صوّر لهم تضحيته التي كان عتيداً أن يقوم بها على الصليب في اليوم التالي, لأنه في أثناء تأسيس العشاء الرباني, لم يحدث من جانب المسيح بذل أو تضحية.

  • عدد الزيارات: 3582