Skip to main content

الثبات في المسيح

الإنجيل حسب يوحنا 15: 1-17

لسان حال الكثيرين في هذه الأيام هو: كيف نستطيع أن نحيا حياة متزنة وهادئة في عالم طغت عليه الأفكار والإيديولوجيات الإلحادية المنكرة لله وللقيم الأخلاقية الموروثة عن الآباء والأجداد؟ فمن جهة نعلم أن عالمنا ليس بعالم بارد وقاحل جاء إلى حيز الوجود بصورة تلقائية وعفوية. نؤمن ونقر بالله القدير باري الكون وصانع الإنسان. ونقر أيضاً بأن مصير الإنسان يعلو فوق أفق الحياة الأرضية. ولكننا من ناحية أخرى نجد أنفسنا محاصرين من قبل أفكار وآراء تدعي بأنها علمية ومنطقية وهي تصور لنا عالماً لا علاقة له بالله أو بوحيه المقدس. أين نجد الحقيقة؟ ومن يقودنا إلى طريق الصلاح والفلاح؟

هذه أسئلة حيوية ومصيرية تجابهنا ونحن نسير بخطى وئيدة نحو نهاية القرن العشرين، هذا القرن الذي وصفه أحد المفكرين المعاصرين بأنه كان من أقسى القرون التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ.

إن رغبنا في الحصول على أجوبة مفيدة علينا أن نصغي إلى كلمات السيد المسيح التي تفوه بها في ساعاته الأخيرة على الأرض. فبعد أن ناشد المسيح المخلص تلاميذه الأوفياء بألا يسمحوا لقلوبهم بأن تضطرب وأن يضعوا ثقتهم التامة في الله ومسيحه، تابع كلامه قائلاً:

أنا الكرمة الحقيقة وأبي الكرَّام. كل غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه. وكل ما يأتي بثمر ينقيه لكي يأتي بثمر أكثر. أنتم الآن أنقياء بسبب الكلمة التي كلمتكم بها. اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يستطيع أن يأتي بثمر بذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من يثبت فيَّ وأنا فيه فهو يأتي بثمر كثير. فإنكم بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً.

الإيمان بالله وبالمسيح الذي أرسله الله ليكون مخلص العالم لأمر هام للغاية. يجابه المؤمن هذا الموضوع الهام: أنا وقد آمنت بالمسيح المخلص، أنا الإنسان الضعيف والمعرض للتجارب القوية، كيف أستطيع أن أثابر على طريق الإيمان؟ أين أجد القوة الكافية لمتابعة مسيرتي التي ابتدأت بتسليم مقاليد حياتي لمخلصي يسوع المسيح؟ يكمن الجواب في كلمات المسيح الوداعية:

أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرَّام. كل غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه وكل ما يأتي بثمر ينقيه لكي يأتي بثمر أكثر.

ليس المؤمن بكائن مستقل يخطط لحياته ولمستقبله طريقاً خاصاً. شبَّه المسيح المؤمن بغصن في كرمة حقيقية والكرمة هي المخلص. إذن كل استقلالية هي مرفوضة مسبقاً لأنها تؤدي في النهاية إلى الانفصال عن المسيح. المبدأ الحياتي الأول هو: المثابرة على مسيرة الإيمان تعني الثبات في علاقتنا الحيوية مع يسوع المسيح. فكما أن غصن الكرمة يبقى حياً ومثمراً ما دام في الكرمة هكذا أيضاً ينمو المؤمن في حياته ما دام يعيش مع ربه وفاديه يسوع المسيح. ليس الإيمان بالمسيح عبارة عن جواز سفر لدخول النعيم والوصول إلى الأبدية السعيدة فقط. يصل الإيمان المؤمن بربه وفاديه في هذه الحياة الدنيا وتثمر حياته بثمار التقوى والصلاح.

كيف يتم هذا والمسيح ليس على الأرض بل في يمين عرش العظمة؟ يشكل الجواب المبدأ الثاني للحياة المسيحية: نثبت في المسيح فيما إذا تشبثنا بكلمته. يتم حضور المسيح معنا بواسطة كلمته التي تعلمنا بمشيئته وتمدنا بقوته الحيوية. وكلمة المسيح هذه كلمة مدونة وهي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. وتابع المسيح كلامه قائلاً:

 اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يستطيع أن يأتي بثمر بذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من يثبت فيَّ وأنا فيه فهو يأتي بثمر كثير. فإنكم بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً.

لماذا ردد المسيح هذه الكلمات؟ إنه له المجد عليم بطبيعتنا وبجبلتنا البشرية. نحن نميل إلى الأنانية وحتى بعد أن نكون قد آمنا به واختبرنا قوته التحريرية في قلوبنا، نخال بأننا قادرون على تتميم مسيرتنا بقوانا الخاصة وبحكمتنا الفردية. وإذ أخذ المسيح هذه الأمور بعين الاعتبار قال: فإنكم بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً. تذهب جميع جهودنا أدراج الرياح إن لم نستعن بقوة المسيح الخلاصية. وشدد المسيح على هذا المبدأ الجوهري قائلاً:

إن كان أحد لا يثبت فيَّ يطرح خارجاً كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق.

هذه كلمات قوية اللهجة ولكنها نابعة عن قلب مخلصنا المحب. ولا بد أنك تعلم أيها القارئ العزيز عن الكرمة وأغصانها لتعي كلمات المسيح هذه. ألم تفصل أو تنقي في يوم ما أغصان الكرمة؟ هل لاحظت سرعة جفاف الأغصان المفصولة عن الكرمة؟ ليس هناك نبات ككرمة العنب والتي تجف أغصانها بهذه السرعة الغريبة. وكما يحدث للكرمة أي لأغصانها المفصولة عنها, هكذا يحدث لمن قال عن نفسه بأنه مؤمن بالمسيح ولكنه لا يعمل على الثبات في ربه ومخلصه وفي الكتاب المقدس.

ولم يكتف المسيح يسوع بالكلام عن مغبة الانفصال عنه بل قال مشجعاً ومعزياً:

إن ثبتم فيَّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم. بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونوا تلاميذي. يا لها من كلمات رائعة! متى كنا عائشين في المسيح وثابتين في كلمته المنعشة نكون هكذا ملمِّين بالمشيئة الإلهية حتى إن أدعيتنا تصبح ملائمة لهذه المشيئة. وبعبارة أخرى، تضحي صلواتنا مركزة على تمجيد الله وعلى خير ومنفعة أقربائنا بني البشر. نطلب من الله فيستجيب إلى صلواتنا لأننا نعيش في جو روحي وسماوي.

 يتم الثبات في المسيح بالتشبث بكلام المسيح. ما هو رباط هذا الثبات؟ المحبة، محبة المسيح لنا ومحبتنا له. وليست المحبة حسب مفهومها الكتابي بموضوع عاطفي محض، بل تشمل جميع نواحي الشخصية البشرية. وكما قال المسيح:

كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا، فاثبتوا في محبتي. كما أني حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته. كلمتكم بهذا لكي يكون فرحي فيكم ويكون فرحكم كاملاً.

فكما أن محبة الله الآب للمسيح يسوع هي محبة أبدية، هكذا أيضاً محبة المسيح لنا هي محبة أبدية، إنها لا تعرف حدوداً. هذه هي المحبة التي جعلت موضوع خلاصنا موضوعاً تحقق وتم في ملء الزمن أي حسب التوقيت الإلهي وفي صلب الأرض المقدسة، أي عندما مات المسيح عن خطايانا وقام من بين الأموات في صباح الأحد المجيد. ربط المسيح المحبة بحفظ وصايا الله: كما أني حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته، إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي.

ومع وجود أمور عقائدية هامة في محتويات الإيمان المسيحي والتي صيغت عبر العصور من قبل جماعة الإيمان في ما يعرف بقوانين الإيمان، إلا أن المسيحية الحقَّة هي أكثر من مجرد الإقرار العقلي بالعقيدة الكتابية. وكثيراً ما نلاحظ ونحن نقوم بدراسة التاريخ أن الكثيرين من الذين قالوا عن أنفسهم أنهم من أتباع المسيح لم يظهروا ذلك في حياتهم وفي معاملاتهم لأقرانهم بني البشر. العقيدة الصحيحة المبنية على الوحي الإلهي هامة للغاية ولكنها لا تكون قد قامت بدورها الفعال إن لم تقترن بالمحبة في حياة معتنقها.

وتابع المسيح يسوع كلامه عن أهمية المحبة في حياة المؤمنين والمؤمنات قائلاً:

هذه هي وصيتي: أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم. ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيتكم به. لا أسميكم عبيداً بعد، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي. ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم لكي يعطيكم الآب كل ما تسألونه باسمي. بهذا أوصيتكم أن يحب بعضكم بعضاً.

لقد أحبنا المسيح محبة أبدية. أحبنا حتى النهاية، إلى درجة أنه وهو البار القدوس، بذل نفسه عنا. مات المسيح كبديل عنا، نحن الخطاة، الأثمة، العصاة، نحن الذين كسرنا وصايا الله بالفكر والقول والفعل. مات المسيح للتكفير عن آثامنا. أهناك محبة أعظم من محبة المسيح لنا؟ وكما أحبنا المسيح علينا أن نحب بعضنا البعض. أهذا هدف خيالي، يوتوبي، طوباوي؟ من يستطيع القيام بما قام به المسيح؟ الجواب ليس هناك بشري يستطيع أن يقوم بما يطلبه المسيح منا وذلك فيما إذا اتكلنا على قوانا الخاصة. ولكننا إذا ما ثبتنا في المسيح وإن كنا نعيش في جو كلمته المحررة، إذ ذاك نستطيع أن نتمم هذه الوصية الربانية.

ومن المفيد أن ننظر إلى أنفسنا كعبيد لله وللمسيح يسوع، لكنه له المجد منحنا مرتبة أعلى من مرتبة العبيد عندما قال: لقد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي. يا لها من عطية عظمى أن ندعى أحباء المسيح! ولئلا نعجب بأنفسنا ذكرنا المسيح أنه هو الذي أخذ المبادرة في علاقته معنا: ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم لكي يعطيكم الآب كل ما تسألونه باسمي. بهذا أوصيتكم أن يحب بعضكم بعضاً. قارئي العزيز، هل آمنت بالمسيح يسوع واتخذته مخلصاً لحياتك؟ إن قمت بهذا الأمر الهام تذكر أنك غصن في الكرمة والكرمة هو المسيح. اثبت فيه وفي كلمته وعش حياة المحبة لله ولسائر أفراد البشرية، آمين.

  • عدد الزيارات: 15260