ليجمع كل شيء في المسيح
يمتاز عقد التسعينات عن العقود الماضية بأنه حصلت فيه تغيرات كبيرة في عدة أنحاء من العالم. ولن أبحث في تفاصيل هذه الأمور بل أركّز على أمر واحد وهو أن الإنسان المعاصر صار يقرّ بأنه لم يعد قادراً على العيش على أسس فلسفية ماديّة بحتة. وبعبارة أخرى: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان وحياته لا تنمو ولا تترعرع بدون منظور حياتي يعلو فوق الحياة الحاضرة.
إن سلّمنا بحاجة الإنسان القصوى إلى أكثر من نظرة حياتية محصورة بالحياة الدنيا لا بدّ لنا من القول: على أي أساس نبني حياتنا؟
لا يكفينا الإشارة إلى مساوئ الماضي بل علينا أن نأتي بمنظور حياتي متين ومختلف جذرياً عن النظريات التي باءت بالفشل الذريع. وما أن نصف مشكلتنا الحياتية بهذه الطريقة حتى تظهر أمامنا نظريات متضاربة. يقول البعض بأن أساس الحياة البشرية الناجحة هو الحرية بشتّى أبعادها. نعم ما أحلى الحرية وما أبغض الاستبداد والتسلّط على الناس والهيمنة عليهم. لكن الحرية بحد ذاتها لا تكفي إذ كثيراً ما تحولت, وخاصة في أيامنا هذه, إلى أنانية وإباحيّة وفوضوية أخلاقية واجتماعية. لا بد للحرية من إطار روحي وأخلاقي يرسم لها حدودها ويشير إلى أفق حياتية تعلو وتتسامى فوق ديانتا هذه. وبعبارة أخرى, نحتاج إلى منظور سماوي المصدر. وهذا بالفعل ما وهبنا إياه الله في وحيه المقدّس والذي ننادي به من يوم إلى آخر.
نجد تعاليم بخصوص هذا الموضوع الهام في إحدى رسائل بولس الرسول التي كتبها من سجن روماني والتي أرسلها إلى مدينة أفسس. وقد اشتهرت هذه المدينة في أيام ما قبل الميلاد كمركز تجاري وديني هام. وكانت تحت سيطرة الرومان في أيام السيد المسيح فجعلوا منها عاصمة لما كان يعرف آنئذ بإقليم آسيا الصغرى أي بلاد تركيا الحالية. كان بولس قد جاء إلى أفسس منادياً بكلمة الإنجيل فآمن العديدون من أهلها بالمسيح وانضموا إلى جماعة الإيمان. فتعرّض الرسول وغيره من المؤمنين الاضطهادات شديدة لأن الإيمان بالمسيح يسوع كان يعدّ هجوماً مباشراً على الديانة الوثنية المتمركزة في هيكل أفسس الشهير والذي كان قد شيد لعبادة أرطاميس المعروفة لدى الرومان باسم ديانا.
أرسل بولس رسالته إلى جماعة الإيمان في أفسس لتثبيتهم في الإيمان ولتشجيعهم على المضي في شهادتهم المسيحية وسط محيط وثني متفسّخ. وأفهمهم أن اعتناقهم لطريق المسيح كان ضمن برنامج الله الخلاصي الذي أعدّ قبل إنشاء العالم. فانتشالهم من وهدة الصنمية كان جزءاً من برنامج إنقاذي جبّار. ترنّم الرسول بولس في هذا الموضوع قائلاً في فاتحة الرسالة:
مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا في المسيح بكل بركة روحية في علياء السماوات, إذ قد اختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون قدّيسين وبدون لوم أمامه.
بارك الرسول الله الآب الذي أغدق على المؤمنين والمؤمنات البركات العديدة في المسيح أي نظراً لما قام به المسيح كبديل عنهم في آلامه وموته الكفاري وقيامته من بين الأموات. جميع البركات الروحية والزمنية التي تنهمر على المؤمنين والمؤمنات تعود إلى المسيح فاديهم. ولم يكتفِ بولس بالكلام عن اختبارات أهل الإيمان بل تكلّم عن عقيدة هامة للغاية عندما ذكر بأن الله قد اختار أي اصطفى المؤمنين قبل إنشاء العالم! يا لها من كلمات عذبة ومنعشة. فمع أن كل من يضع ثقته في المسيح يقوم بذلك بحالة شعورية تامة إلاّ أن هذا لا يتم بمعزل عن الوجه الآخر للحقيقة أي اختبار الله للمؤمنين. ولئلا يظن البعض أن هذا التعليم يؤول بالناس إلى إهمال الأخلاقيات المسيحية ذكر الرسول أن مشيئة الله في اختيار المؤمنين بالمسيح هي أن يكونوا قديسين وبدون لوم أمامه. ومعنى القداسة هو الانفصال عن الشر والمعصية والتكريس لخدمة المسيح ولخير ومنفعة بني البشر.
وتابع الرسول كلامه عن موقف الله من المؤمنين والمؤمنات قائلاً:
وسبق فعيّننا في المحبة ليتبنّانا لنفسه بيسوع المسيح, حسب رضى مشيئته, لحمد نعمته بالمجد, التي أنعم بها علينا في المحبوب, الذي فيه لنا الفداء بدمه, مغفرة الذنوب, وذلك حسب غنى نعمته, التي أسبغها علينا بكل حكمة وفطنة, إذ عرّفنا سرّ مشيئته, وتلك مرضاته التي قصدها فيه, تدبيراً منه في ملء الأزمنة, ليجمع كل شيء في المسيح, ما في السماوات وما على الأرض.
أتى بولس الرسول أولاً على ذكر اختيار أو اصطفاء المؤمنين والمؤمنات من قبل الله في المسيح وقبل إنشاء العالم. وشدّد على هذا الموضوع إذ ذكر أن الله سبق فعيّنهم في المحبة للتبني لنفسه بيسوع المسيح. وهذا يدل على أنه ليس هناك من عبثية في موضوع الإيمان بالمسيح والانتماء إلى جماعة الإيمان. يتم كل شيء بمقتضى برنامج الله الأزلي. وليس هناك من مبرّر في الإنسان للحصول على هذه النعم والبركات الروحية بل يعود الفضل بصورة مطلقة للمسيح يسوع الذي كسب لسائر المؤمنين به خلاصاً عظيماً وفداء جباراً بدمه. وهذا يدل بصورة قاطعة على أن الرسول بولس كان ينظر إلى صليب المسيح كحدث مركزي في سيرة المسيح ورسالته السماوية التي اؤتمن عليها من قبل الله الآب.
ولئلا يظن أهل أفسس من جماعة الإيمان بأن الله ينقذ القلائل وكمجرد أفراد منعزلين عن بعضهم البعض أفهمهم بصورة واضحة أن لله تدبيراً ظهر بكامله في أيام المسيح. ويدعو الرسول أيام المسيح بملء الأزمنة أي أن السيد له المجد جاء في الوقت المناسب والمعيّن من قبل الله لتتميم برنامجه الخلاصي. كل شيء حدث وتم لإظهار كون مشيئة الله بأن يجمع كل شيء بالمسيح. وتعني هذه العبارة الرسولية بأن الله قرر حتى قبل إنشاء العالم وبعلمه السابق عن خليقة الإنسان ومعصيته وسقوطه في الخطية, كان الله قد قررّ بأن يكون طريق إنقاذ البشرية بواسطة المسيح وعمله الفدائي على الصليب.
تعلّمنا كلمات الرسول هذه بأن التاريخ البشري المليء بالفواجع ذات الأبعاد الهائلة, هذا التاريخ لا يفسّر حسب منظور بشري محض, بل له بعد سماوي مصدره الله. وكل محاولة بشرية مهما ظهرت برّاقة وجذّابة ومنطقية, كل خطة بشرية منكرة لله ولتدبيره العجيب للخلاص, لا بد لها من أن تبوء بالفشل الذريع. وهذا بالفعل ما اختبره القرن العشرون الذي اشتهر أكثر من أي قرن مضى بظهور نظريات وايديولوجيات ادعت بأنها كانت ستجلب للبشرية المعذبة الخلاص والانعتاق. ولكنها وبعد اختبارات قاسية ومريرة ظهرت خاوية من أي مقدرة على إنقاذ الإنسان وإعطائه الفردوس الأرضي الموعود. لا يكمن خلاص البشرية في يد الإنسان بل يوجد الخلاص في يد الله.
وإذ نتفوه بهكذا كلمات لا نكون مبتدعين لآراء جديدة بل إنما نشهد عن برنامج إلهي وضع في أزمنة ما قبل التاريخ البشري وكشف عنه بصورة واضحة وجليّة في أيام المسيح أي منذ نحو ألفي سنة. ننادي بما قام به الله لصالح البشرية لا بما اخترعه عقولنا من أفكار وآراء واهية!
وتابع الرسول حمده وتسبيحه لاسم الله القدوس قائلاً: وفيه أيضاً أي في المسيح يسوع المخلّص, تمّ اختيارنا من قبل بمقتضى قصد الذي يعمل كل شيء حسب مشورة مشيئته, لنكون لحمد مجده, نحن الذين قد سبقنا ووضعنا رجاءنا في المسيح. وفيه أنتم أيضاً, إذ قد سمعتم كلمة الحق, انجيل خلاصكم, وبعدما آمنتم به, ختمتم بروح الموعد القدوس, الذي هو عربون ميراثنا, لفداء مقتناه, لحمد مجده.
عاد الرسول بولس في نشيده هذا الكلام عن اختيار المؤمنين والمؤمنات من قبل الله, ذاك الاختيار الذي تمّ بمقتضى قصد الله الخلاصي. وقد تمّ هذا الاختيار لا لمجدنا نحن البشر, بل لنكون لحمد مجده. ذكر الرسول في أكثر من مناسبة موضوع اختيار الله للمؤمنين ولكنه لم يهمل بأن يذكر مسئولية المؤمنين والتي تظهر في إيمانهم بالمسيح. وهذا يعني أن الرسول لم ينادِ بعقيدة قلبها وقالبها الحتمية أو الميكانيكية العمياء, بل شدّد بكل وضوح على أهمية اتخاذ الإنسان في شتى عصور التاريخ موقفاً إيجابياً وإيمانياً من المسيح يسوع. فمن سمع المناداة بالمسيح يسوع كالمخلّص الموفد من الله لإنقاذ البشرية صار من واجبه أن يعيّن موقفه من هذه الأخبار السارة وألا يكتفي بمجرّد سماعها أو الوقوف على محتوياتها بشكل لا شخصي!
واختتم بولس الرسول كلامه ذاكراً الدور الحيويّ والفعال الذي يقوم به الروح القدس. فما أن يؤمن الإنسان بالمسيح يسوع حتى يختم بروح الله القدوس كعربون للميراث الضخم الذي يرثه المؤمنون والمؤمنات في اليوم الأخير, يوم عودة المسيح إلى العالم وظهور ملء ملكوت الله. وإذ ذاك لا يهاب المؤمنون أخطار الحياة, بشرية كانت أم شيطانية لأنهم إذ ختموا من قبل روح الله القدوس يعلمون علم الأكيد أن مصيرهم الأبدي هو في يد الله القدير الذي أحبهم منذ الأزل إذ اختارهم في المسيح يسوع, لينالوا الخلاص.
- عدد الزيارات: 5077