السلوك في الإيمان
لقد عرفت البشرية منذ فجر التاريخ مثلاً عالياً تدين بها. وليس هناك من حضارة خلت منها وإن اختلفت في تفاصيلها بين أمة وأخرى أو شعب وأخر. ومجرّد ذكر مثل أعلى يدل على أنه يعلو فوق مفهوم الفرد لما يجب أن يسيّر أمور حياته. وعلى الغالب تنشأ المثل العليا بعد تجارب حياتية عديدة لجماعة من الناس ضمّهم التاريخ والجغرافيا وغير ذلك من الروابط الاجتماعية.
ومع وجود المثل العليا في حياة بني البشر إلا أنه من المسلّم به أنّ العديدين من الناس لا يعيشون بمقتضى هذه المثل. ما أكبر البون الشاسع الذي يفصل بين ما يدين به الناس وسلوكهم اليومي! هذا أمر مؤسف للغاية ولكنه لدليل على وجود خلل أو علّة في جسد البشرية جمعاء والذي يمنع الإنسان عن تكييف حياته بمقتضى مثله العليا. ونظراً لهذه الظاهرة التي تلاحظ في حياة البشرية نجد أن الرسول بولس كان يعالج دوماً في رسائله إلى جماعات الإيمان المنتشرة في سائر أنحاء العالم المتوسطي أموراً عملية. وهكذا ناشد الرسول أهل الإيمان في مدينة أفسس والتي كانت تعدّ وسطاً تجارياً هاماً في القرن الأول الميلادي ومركزاً لعبادة الآلهة أرطاميس قائلاً:
فأحثّكم إذن, أنا الأسير في الرب, أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعيتم بها, بكل تواضع ووداعة وأناة محتملين بعضكم بعضاً في المحبة, مجتهدين أن تحفظوا وحدة الروح برباط السلام.
كان الرسول بولس قد علّم المؤمنين والمؤمنات في أفسس عن أمور عقائدية هامة, كدعوة الله لهم بناء على اختيارهم في المسيح يسوع قبل أجيال التاريخ والفداء المجاني الذي قام به المسيح لصالحنا نحن الخطاة الأثمة. وشدّد على مركزيّة الإيمان للحصول على الخلاص المجاني الذي تمّ لصالح البشرية على الصليب. ووصل الرسول إلى قمّة تعاليمه عندما قال:
وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة, لكي تمتلئوا إلى ملء الله. وهذا الامتلاء لا يعني ذوبان الشخصية البشرية ضمن الذات الإلهية كما علّم البعض, بل يتم هذا الأمر بالإيمان. يبقى الله الإله الواحد السرمدي ويظلّ الإنسان مخلوقاً, لكيانه ولطاقاته حدود معيّنة.
لكنه لا يكفي للمؤمن بأن يقول عن نفسه: أنا متشبّث بجميع هذه التعاليم السامية التي نادى بها الرسول بولس. هذا أمر هام وجيّد وحسن أن يتعلّق الإنسان بمعتقداته. لكنه ملتزم أيضاً لترجمة هذه المعتقدات إلى حياة منسجمة كل الانسجام مع ما يدين به. وبعبارة أخرى يطلب منا بولس بأن يكون سلوكنا اليومي سلوكاً إيمانياً.
وكان بولس قد كرّس حياته بأسرها لخدمة المسيح وعمل الرسول على حمل بشارة الإنجيل إلى سائر العالم المتوسطي ولم يسمح للاضطهادات بأن تعيق مسيرته الإيمانية. وعندما كان يملي هذه الرسالة إلى جماعة الإيمان في أفسس, كان قد فقد حريته, وصار سجيناً للسلطات الرومانية. وهذا ما دفعه إلى القول بأنه كان أسيراً للمسيح. فمع أن ممثل الإمبراطورية الرومانية هو الذي كان قد أمر بسجنه إلا أن الرسول نظر إلى حالته من منظور خدمته للمسيح وقال: أنا أسير في الرب. فلو لم يعمل بولس في حقل الإنجيل لما كان قد تعرّض للاضطهاد أو السجن!
كان بولس يعيش على أساس إيمانه وهذا ما دفعه لمناشدة أهل الإيمان بأن يسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعوا بها, أي أن يعيشوا بطريقة تظهر فيها حيوية إيمانهم. وأتى الرسول على ذكر بعض ثمار ذلك السلوك المنطبق على الإنجيل الخلاصي فقال:
بكل تواضع ووداعة وأناة, محتملين بعضكم بعضاً في المحبّة.
هذه الصفات التي كان على المؤمنين والمؤمنات أن يتحلّوا بها لم تكن صفات مقبولة لدى معاصري الرسول في بلاد المتوسط. نظر الرومان إلى التواضع والوداعة والأناة, نظروا إليها شذراً وكأنها دلّت على ضعف أساسي في تكوين الأخلاق. لم يقبل الرسول عادات وأخلاقيات محيطة الوثني المتفسّخ, بل ثابر على تأكيد أهمية وضرورة العيش بمقتضى منطق الإيمان, قائلاً:
مجتهدين أن تحفظوا وحدة الروح برباط السلام.
أي أنه فيما إذا طبّق المؤمنون معتقدهم في حياتهم اليومية يكونون عاملين على تثبيت أواصر الوحدة أي الوحدة الإيمانية النابعة من روح الله القدوس ضمن رباط السلام الحقيقي.
ومع أن الرسول كان قد أنهى القسم العقائدي من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس إلا أنه لم يكن ليبني أي تعليم عملي بدون أن يرجع أساسه إلى الإيمان. وهكذا أتى على ذكر تعليم جوهري قائلاً:
فإن الجسد واحد والروح واحد كما أنكم قد دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد. وإن الرب واحد, والإيمان واحد, والمعمودية واحدة, والإله والآب واحد للجميع, وهو فوق الجميع وبالجميع وفي الجميع.
لم يكن السلوك الإيماني الذي كان الرسول يشدّد على أهميته سلوكاً فردياً محضاً, بل كان سلوكاً إيمانياً يعاش ضمن جماعة الإيمان. الأعضاء عديدون ومتنوّعون ولكن الجسد (أي جماعة الإيمان) واحد. والروح (أي روح الله القدوس) الموجد للكنيسة هو واحد, والرجاء المسيحي هو واحد, والمعمودية التي يتم بواسطتها الدخول في عضوية جماعة الإيمان واحدة. وانتقل الرسول من الكلام عمّا يختبره المؤمنون إلى الكلام عن واهب جميع الخيرات والبركات والنعم الروحية مشدّداً على وحدانية الله: والإله والآب واحد.
يجدر إذن بجميع المؤمنين والمؤمنات, بل يتأملوا ملياً في أساس إيمانهم الواحد ليعيشوا حياة متجانسة مع هذا الإيمان ولكي لا تنمو فجوة كبيرة فاصلة بين المعتقد والسلوك. هذا أمر هام للغاية نظراً لاختلاف الهبات والعطايا التي يمنحها الله للذين آمنوا بالمخلّص المسيح. الإيمان واحد لكن الهبات مختلفة ومتباينة إذ لا يهب الله جميع عبّاده وخائفيه نفس أو ذات الهبات. ولذلك استطرد الرسول قائلاً ومعلّماً:
ولكن قد أعطيت النعمة لكل واحد منا على مقدار هبة المسيح. لذلك يقول الكتاب: إذ صعد إلى العلى, سبى سبياً وأعطى الناس عطايا.
وهو قد أعطى البعض أن يكونوا رسلاً, والبعض أنبياء والبعض مبشّرين, والبعض رعاة ومعلّمين, لأجل إعداد القدّيسين إلى الخدمة, لبنيان جسد المسيح, إلى أن ننتهي جميعاً إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله, إلى إنسان كامل, إلى مقدار قامة ملء المسيح. كي لا نكون فيما بعد أطفالاً تتقاذفنا الأمواج ونحمل بكل ريح تعليم, بخداع الناس, بمكرهم إلى مكيدة الضلال. بل نصدق في المحبة فننمو في كل شيء نحو ذلك الذي هو الرأس, أي المسيح, الذي منه كل الجسد, وهو متّسق ومرتبط معاً بتأييد كل مفصل على حسب العمل المناسب لكل جزء, ينشئ لنفسه نمواً لبنيانه في المحبّة.
الإيمان واحد والمعتقد واحد ومصدره واحد أي الله, ولكن الهبات أو النعم التي يغدقها المسيح يسوع على أفراد جماعة الإيمان, هي مختلفة. لا يجوز لهذا الأمر (أي اختلاف المواهب) بأن يكون سبباً للمنازعات أو الانقسامات ضمن الجسد أي الكنيسة. فعندما صعد المسيح يسوع إلى السماء أعطى عطايا مختلفة لخير وبنيان أعضاء جسده أي جماعة الإيمان.
مثلاً وهب البعض من أتباعه بأن يكونوا مؤسسي جماعات الإيمان في مختلف أنحاء العالم. وأسند للبعض منهم بأن يكونوا أقنية للوحي الإلهي وهكذا صار ما كتبوه جزءاً لا يتجزأ من الكتاب المقدس كرسائل بولس الرسول مثلاً. وأعطى المسيح الظافر لآخرين بأن يكونوا أنبياء. وهذه الكلمة تشير, في حقبة العهد الجديد أي في الأيام التي تلت مجيء المسيح إلى العالم, تشير كلمة أنبياء إلى أولئك الذين أعطاهم الله وحياً خاصاً لخير ورفاهية الكنيسة قبل أن ينتهي جمع وترتيب أسفار الإنجيل أي العهد الجديد. وأعطى البعض بأن يكونوا مبشّرين أي أن يتجوّلوا في أنحاء مختلفة من العالم للمناداة بخبر الإنجيل ولدعوة المؤمنين والمؤمنات للانضمام إلى عضوية الكنيسة, بينما وهب آخرين بأن يكونوا رعاة ومعلّمين, أي أن يهتموا بتعليم المؤمنين وبرعايتهم روحياً وأخلاقياً في مكان معيّن وضمن جماعة الإيمان. هبات مختلفة ومتنوعة ولكن غايتها كانت إعداد وتهيئ القدّيسين, أي المؤمنين, لحياة الخدمة والنمو في جسد المسيح. وهكذا يصبح ما يدينون به عقلياً وقلبياً قسماً من واقع الحياة التي يعيشونها في هذه الدنيا, واضعين نصب أعينهم الإقتداء بالمسيح المخلّص والنمو في معرفته معرفة اختبارية وحيويّة. وعندما يقوم المؤمنون بتتميم هذا التعليم الرسولي في معترك الحياة يكتسبون مناعة روحية تبعد عنهم إمكانية الانقياد وراء المعلّمين الكذبة الذين كانوا قد اندسوا بين جماعات الإيمان في سائر العالم المتوسطي محاولين بأن يبعدوهم عن ربّهم وفاديهم يسوع المسيح.
وخلاصة الأمر, يجب أن يظهر الإيمان في سلوك متجانس مع الإيمان, والسلوك المقبول لدى الله يجب أن يكن مبنياً على الإيمان.
- عدد الزيارات: 4707